أنسي الحاج: حميميّــــة [3]
اتخذت حلقتا «حميميّة» (الانطباع الأوّل) طابعاً لم أرده لها، وآلمني أن يعتقد أصدقاء أنّي أغفلتهم بموقف استبعادي. لكنّها الذاكرة ولا شيء آخر. ذاكرة خائنة ومسوّدة للوجه. أورد هنا حلقة ثالثة، وأنا متأكّد من كوني سأنسى أيضاً مَن يجب أن لا أنساهم، وأرجو بهذا قَفْل تلك الحلقات، وأنا لا أدري بعد لماذا الذين سجّلت انطباعي عنهم لم يعجبهم ذلك:
علويّة صبح. انطباعي عنها هو الأقوى. شكيب خوري النسيم. غازي يونس الريشة. وليد عقل أنامل الريش والعاصفة. ندى عقل الغوى الضاحك من نفسه. أنطوان فرنسيس الجبراني الفَرِح. أحمد بزّون المُنْكِر ذاته. إسكندر حبش الجوّابة. أحلام مستغانمي المحتدمة. حسين بن حمزة نعيمة الجديد. صلاح فائق، سيبقى العالم مزهراً. أنطوان أبو زيد المظلوم ولا يعلم مقدار موهبته. عهد فاضل: يعرفون أنّ لكَ وجهاً فلماذا لا ينظرون إليك؟ سليمى ذود الحماية. سركون بولص بحر الصفاء والتلاطم. سنيّة صالح همس الجفون. يولاند لبكي حيويّة. صادق جلال العظم الدمشقي الكافر. فيصل سلطان يد الفنان التي لا تنغلق. مهى سلطان الطفلة المُسْعِدَة. بلال خبيز الشاهد البريء وسط البرابرة.
محمد أبو سمرا اللكّيع. حسّان الزين الورد. كاتب ياسين ذو الخمس نجوم. جمال الدين بن شيخ الأرْيَحيّ. جميل ملاعب السلام الداخلي. ماهر شرف الدين رئيس القافلة. زينب عسّاف حلاوة هواء الربيع. عبد الله القصيمي كعبة التمرّد. قدري قلعجي سوريا. شوشو (حسن علاء الدين) وحده المسرح. سلوى النعيمي شريكة الغياب. خليل النعيمي الطليق. غريغوار حدّاد الجارف. كريستيان غازي ماروني المرابطون. المعطي قبال باريس المغرب. مادونا غازي الصديقة وراء العمر. يولاند لبكي حيويّة الأحمر والأسود. نجاح طاهر النور من النافذة. شوقي عبد الأمير: «اللغة العربيّة وحدها دين». سليم باسيلا الجَرَس. أنطون قازان الطِيبَة الفصيحة. زينات نصّار الريّس تلبسةُ الوردة. سميرة عزّام لم تهدأي كثيراً. غسّان كنفاني السكّين. صلاح الدين المنجّد لم يبقَ أحدٌ مثله. عادل الأعور المختفي. هلن الخال المتحمّلة، المتماوجة. ستيليو سكامنغا لبناني. خالد المعالي «خيال من قَصَب شعر». باسمة بطولي النغم الرقراق. زهير غانم طفلٌ على جبل الكلمات.
■ «حامل الوردة الأرجوانيّة»
يُقرأ أنطوان الدويهي كما تُفرد حبّات اللؤلؤ. كتابه الجديد: «حامل الوردة الأرجوانيّة» (الدار العربيّة للعلوم) بناءٌ دقيق الصنع، محتشم الأناقة. رواية طاعنة في الأزمنة، تنحفر في الذاكرة، يسبح فيها القارئ سباحةً مسحورة. صياغةٌ شبه مباشرة معظم ما فيها يدلّ على أهدافها، وإلى هذا حجابُ مهابةٍ يُظلّل الوقائع. شفّافٌ وهارب. أشخاص الرواية، في السجن أو في الشرطة والقضاء أو في أوروبا، ليسوا في السجن ولا في الوظيفة بقدر ما هم في فضاء اللغة.
يسرد الراوي وقائع وانطباعات عن التحقيق معه معتقلاً في «حصن الميناء». لا يزوره في الأسبوع سوى شخصين: رانيا يوم الأربعاء، وأمّه، البالغة الرابعة والثمانين، يوم الجمعة. لم يفهم الراوي ولا محيطه سبب اعتقاله: «إنّي في نظر الكلّ مثالُ الرجل الهادئ، المسالم، المقيم في عالمه الخاص، الذي لا تشوب حياته شائبة».
وقابعاً في سجنه ينعرض له شريط الذكريات. من جلساته في مقاهي نهر السين أو على شاطئ المحيط مع آنّا عهدَ كان في فرنسا، و«المدى المسكون بهبوط الليل، والمطر الهاطل رذاذاً، وخيالاتٌ مبهمة لطيورٍ عابرة، وأضواءٌ بعيدة خافتة، ومراكب راسية، وصوت المدّ والجزر المتسرّب إلينا، عميقاً، أليفاً، مفعماً بإيقاعات وعوالم لا تُدْرَك، كأنّه همسُ أمّهاتنا قبيل رقادنا في أسرّة الطفولة». والراوي يحدّث آنّا، في المقابل، عن سماء بلاده الليليّة «البالغة الصفاء، المرصّعة بنجومٍ لا تحصى، وعن الشعور بأنّ تلك النجوم المرتعشة هي على قربٍ مذهل منّا، كأنّها في متناول يدنا، أو كأنّها جزءٌ حميم من ممتلكاتنا الأرضيّة، فوق سفوح «القرنة السوداء»، سقف المشرق». وكان يحسد آنّا، حين تحدّثه عن انبهارها برونق الصحارى الشاسعة في الشرق ومدن اليمن التاريخيّة وبلاد ما بين النهرين وبرّ الأناضول وبلاد فارس، كان يحسدها «على قدرتها على الفصل العميق داخل نفسها بين أنظمةِ الاستبداد وسحرِ حواضر الشرق، وهو أمرٌ لا أقوى عليه البتّة». ويبرّر الراوي لصديقته هذه الغشاوة الذهنيّة بكونها هي مسافرة عابرة بينما علاقته هو ببلاده علاقةٌ متجذّرة. ويضيف _ وهذا هو التفسير الأكثر صوابيّة في نظرنا _ أن آنّا «كانت تعتقد على الأرجح أنّ حال الاستبداد الراسخة، العميقة، الدائمة، هي جزءٌ طبيعيّ من تلك الأمكنة، مثل عمائرها وآثارها وأطياف ناسها وصبحها ومسائها».
نظرةٌ سطحيّة إلى «الربيع العربي» قد تحملنا على استنتاجٍ مماثل. المراحل الأولى لهذا «الربيع» (مصر، تونس، ليبيا، العراق) تعطينا التوكيد. إمّا مستبدّ محلّ مستبدّ وإمّا مستبدّون محلّ مستبدٍّ واحد. ولو جاء هؤلاء بقوّة الانتخابات. أمّا سوريا فالصراع ما زال قائماً فيها وعليها. والتطوّرات لا تبشّر. والدلائل تقود إلى استخلاص نتيجةٍ محبطة: يبدو الغرب والشرق مُسلّمَين بأنّ أفضل مصائرنا الطغاة والمتعصّبون، وأنّنا لسنا ذوي قيمة إنسانيّة. كأنّه علينا أن نشكر الدول العظمى لأنّها إلى الآن اكتفت تارةً بغزونا وطوراً بمشاهدتنا نتقاتل ويبيد بعضنا بعضاً، وأحياناً بمساعدتها. وهكذا، تدريجيّاً، سقط الشرق الأوسط من مرتبة المحور إلى رماد الهامش. لم يعد فيه مهمّاً لأميركا غير إسرائيل. وهذا موضوعٌ آخر. الموضوع الآن هو مَن سيستبدّ بسوريا بعد الأسد، أو إلى جانب الأسد؟
الاستبداد الاستبداد. إذا كان من حَسَد مشروع، فهو حسد كاتب هذه السطور على «الإمارة الجبليّة» التي يستطيع فيها الراوي، وطبعاً أنطوان الدويهي، أن يحفظ عالمه الداخلي من كلّ استبداد، مشرعاً أحلامه على الحريّة. قلعة الراوي _ الكاتب الروحيّة أقوى من أيّ حصن، فكيف بـ«حصن الميناء».
تمضي الرواية على جناح النسيم تحكي قصّة مروّعة رغم لطف الأسلوب.
لا يستغلّ أنطوان الدويهي اللغة، خلافاً للعديد منّا. مثل هذه العبارة «اخترقت هاتان الصورتان (للراوي وصديقته، وقد التقطهما مخبر الطاغية) نفسي كرصاصتين». لدى أنطوان الدويهي الكثير من هذه التشابيه والصور الناعمة والشديدة الإصابة، لكنّه لا يتمادى. اللغة تبحث عنه أكثر ممّا يبحث عنها. لكنّه مع هذا ينتشل القلّة الساطعة من الكثرة الغبراء كما ينتشل الصيّاد طريدته والقليل الكلام مفرداته. «ما يميّز علاقتي بالأمكنة في الغرب عمّا هي عليه في بلادي، أمران أساسيّان: الجماليّة والحريّة. الجماليّة لأنّي حين عودتي ذُهِلْتُ أمام فظاعةِ التشويه والبشاعة اللذين أحدثهما الإنسان في الطبيعة، في هذا الموطن الفريد، الذي كان منذ أقدم الأزمان رمز الجمال الأرضي في المخيّلة البشريّة، المشرقيّة والأوروبيّة أيضاً، في النصوص الأسطوريّة والدينيّة والأدبيّة على حدٍّ سواء، منذ فجر الحضارة حتّى فترةٍ قريبة خلتْ، والذي، من دون أن يدروا ماذا يفعلون، عبث أبناؤه، خلال ثلث القرن الأخير، عبثاً مريعاً بأعظم وأثمن ما فيه: جماله».
ويتابع: «كما أنّ المرء يتمتع بحريّة داخليّة في حلّه وترحاله في أنحاء الطبيعة الغربيّة لا تتوافر له في بلادنا، المجزّأة، الموزّعة وفقاً لعصبيّات القرى والمناطق والمذاهب والطوائف، حيث يشعر المتنقّل في أرجائها كأنّه مُطالبٌ في كلّ مكان وفي كلّ وقت، بتوضيح مَن هو وماذا يريد».
ويميّز المؤلّف بين إرهاب «الطوائف والقبائل» وإرهاب الطاغية. الأولى لم تستطع أن «تلحق به إلى هناك، والأمر في كلّ حال لا يهمّها في شيء. أمّا نظام الطاغية فاستطاع».
يلاحق الجهازُ الراوي بكابوسيّةٍ ناعمة تميّزه عن كابوسيّة الملاحقة لدى كافكا. عند الأخير يبدو المرء مسحوقاً كأنْ بطواعيّة. هنا، عند أنطوان الدويهي، البطل عامر الشعور بفرادته، شديد الاستمتاع بنمط حياته، ورعبه من الجهاز والطاغية (وهما رمزان لكلّ الشرق) هو رعب الضنين بملاءته الروحيّة من عدوان الخارج. وليس أيّ خارج بل هو خارج له داخله، وداخله مرعب. وتبلغ بشاعة الطاغية وجهازه ذروتها خلال استيلائهما على رسائله الحميمة ثم ذروة أخرى عندما أبلغته والدته أنّها يئست بعد أشهر من اعتقاله وأنّها قرّرت افتراش زاوية من ساحة البلدة وإعلان الصيام حتّى الموت على أمل اختراق جدار الصمت الحديدي.
وإنْ لم يكن الكلام التالي عن لبنان فعن أيّ بلد يكون؟ «أسمّي هذه البلاد «آخر الأراضي» أو «المقاطعة الأخيرة»، وهي البقعة الأخيرة الباقية التي لجأت إليها روح الحريّة. وهي لم تكن ملاذاً لأهلها فقط، بل لكلّ أحرار المنطقة طوال أزمنةٍ مديدة (...) إنّ شبح الاستبداد، الوافد إلينا، تسرّب عميقاً إلى حناياها، فأضحت واجهة كبيرة متعدّدة الأشكال والأقنعة، لنظام الطغيان. لكنّ الأخطر من ذلك كلّه، وهو ما أذهلني وأحزنني إلى أبعد حدّ، أنّ شبح الاستبداد لم يلج المؤسّسات فحسب، بل تسرّب إلى الإنسان أيضاً».
كما أنّ أنطوان الدويهي لا يستغلّ أسرار اللغة التي تطاوعه، كذلك لا يستغلّ موضوعاً حتّى الإنهاك. لقد عالج في «حامل الوردة الأرجوانيّة» موضوعاً لا قرار له ولا حدود هو أغلى الموضوعات وأقدسها: حريّة الذات الطاهرة والتي تقدّس حريّة الآخرين تقديساً لم نعد نجد له مثيلاً في بلادنا إلّا نادراً.
لكنّ أنطوان الدويهي، هذا الطفل المشعّ، شاعر. والشاعر ليس مغنّياً فقط، بل هو بشير. هذا البشير الإهدني أبٌ حنون لا يخيف أطفاله دون أن يطمئنهم في الختام. هكذا يختم البشير الإهدني بأمل. وهو دوماً حامل أمل. تلك مسؤوليّة المعلّم. لقد هزم الطاغية وجهازه قبل أن يهزمهما الآخرون. هزمهما في نفسه منبّئاً بانهيارهما في الواقع.
سليل «ملك الجبال» هذا وحامل الأمانة.
عابــــــرات
يقطف المرء أحياناً من البروق وروداً لا يجد مثلها في الطبيعة.
■ ■ ■
هل يتغيّر في الأبد ما لم يتغيّر في الدنيا؟ هل يبقى ثابتاً في الأبد ما كان ثابتاً في الدنيا؟
ألم يكن متغيّراً في الأصل ما نظنّه لم يتغيّر إلّا في ما بعد؟...
■ ■ ■
بالولادة يغدو المرء ملكاً لا بالتاج.
■ ■ ■
بعينيها أوّلاً تصبح المرأةُ عاشقة ومعشوقة وليس بالعلاقة الجنسيّة.
■ ■ ■
أحياناً أقسو على النساء. هذه ليست طبيعتي الدائمة. إنْ هي أحياناً إلّا صرخة وعي!
■ ■ ■
الحبّ قناع إنْ لم يداخله قبول بما في الآخر ليس أنت.
■ ■ ■
... بالحذر، مثلاً.
وبحذرك أنت من الاسترخاء.
■ ■ ■
قد يريدك المحبوب ولكن دون إلحاحٍ برغباتك
دون دعاء.
الدعاء يصدر من تعرّي الروح. الحبّ يجب أن لا يتعرّى.
■ ■ ■
قمّة الشعور: عِشْ لامبالاتك مع إظهار العكس.
وعشْ شغفك مع التظاهر بعكسه.
■ ■ ■
أهو جسدك ما يُحبّ أم ذكاؤك؟ أم مجرّد الحاجة إلى التمثيل؟
إنّه فائضا القوّة والضعف.
أنسي الحاج
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد