أيهما أبي يا ربّ القس أم الصحافي؟

10-09-2007

أيهما أبي يا ربّ القس أم الصحافي؟

نشر ميهاي بابيتش (1883-1941) رواية "إبن فيرجيل تيمار" في عام 1922، بعد سنوات قليلة من انتهاء الحرب العالمية الأولى وثورة 1919 الدموية والقضاء عليها بدموية أكبر. لذلك لا تخفى وراءها رغبة المثقفين في العيش بسلام وطمأنينة، بل كذلك الرغبة في العيش في مجتمع تسوده القيم والأخلاق بعدما مسختها بشاعات الحرب الأولى، التي تعتبر نقطة تحول أساسية وجوهرية انكسر فيها صعود التيار الإنسانوي.
نتائج هذا التراجع في الفكر الإنسانوي واضحة من حيث ظهور الفاشية ونشوب الحرب العالمية الثانية وما رافقها من جرائم. بالطبع، هذا لا يعني أن ما كان قائماً قبل الحرب الأولى في أوروبا يشكل حالة مثالية على المستوى الأخلاقي، إذ استعمرت أوروبا العالم ونهبت ثرواته ببشاعة منذ عصر النهضة، وكانت الذروة في جرائم اقترفتها الدول الإستعمارية "المتحضرة" في المستعمرات التي هبّت من أجل الاستقلال الوطني بعد القضاء على النازية وبعد الإنتعاش النسبي لقيم الحرية والديموقراطية الذي لم يستمر طويلاً، وسرعان ما خبت جذوته.

بدأ بابيتش بنشر أعماله في مطلع القرن العشرين، بالتزامن مع ظهور المدارس الفنية العديدة، كالإنطباعية والطبيعية، مستعملاً الحكمة ونظرية الوجود أساساً لرواياته، وخصوصاً في هذه الرواية التي نُشرت منها طبعات عديدة. وبرغم احتوائها على ملامح الأدب الواقعي، يمكن تعريف الرواية بأنها حداثية، لا بل ما بعد حداثية، فهي رواية سيكولوجية تتغلغل في أعماق ثلاث شخصيات رئيسية (أو أربع)، شخصيات خيالية لا تمت الى حياة المؤلف بصلة، بل التقط عناصرها من محيطه، هو الذي أمضى سنوات في تدريس الكلاسيكيات. كذلك تعكس التناقض بين التيارات الفكرية الرئيسية في ذلك العصر، في ظل الإكتشافات العلمية التي هزت أوائل القرن العشرين، مثل أبحاث فرويد في التحليل النفسي التي يوظفها بابيتش في تحليل نفسيات الأبطال. لكن السبب الذي دعاه إلى كتابتها أنطولوجي، على ما يبدو، بعد الصدمة المريعة التي تسببت بها الحرب الأولى والثورة وقمعها ومعاهدة تريانون المجحفة في حق المجر، وسحق رؤية الفن الحديث للعالم التي تضع الفرد في المركز.
بخلاف رواياته الإخرى، لا نعثر في هذه الرواية على حدث حياتي أو فكري مركزي يقف خلف العمل. فالفكرة الرئيسية تعتمد على إشكالية العلاقة مع الله وتحولاتها، من خبرة العيش في ظل العلاقة الشمولية الغنية إلى ضعف هذه العلاقة واتخاذها بعداً ثانوياً، ثم عودتها إلى الواجهة بشكل كلي في الخاتمة.
تتحدث الرواية عن فيرجيل تيمار، قس راهب من رهبنة السيستريين، معلّم في مدينة مجرية قريبة من مدينة ﭙيتش، وعن علاقته بتلميذه النابغ ﭙـشتا فاغنر، الفتى المجهول الأب الذي تيتم فأخذ المعلم تيمار على عاتقه مسؤولية الاهتمام به. تبرز رغبة الراهب العازب وقد حُرم من الإنجاب، في تحويل هذه العلاقة إلى علاقة أب بإبنه، إلى أن يدخل الفتى مرحلة العناد والثورة، وتكاد تنقلب المعادلة إلى سيطرة الفتى على المعلّم. وبسبب مرض الفتى وابتعاده عن استاذه، تتعزز العلاقة بينهما من جديد، ويبدأ القس بالتخطيط لأخذ تلميذه – ابنه معه في رحلة تعليمية إلى إيطاليا خلال أشهر الصيف، ألا أن قدوم الأب الحقيقي للفتى، وهو كاتب صحافي ليبيرالي يهودي اعتنق الكاثوليكية، يقلب المخطط. ذلك أن الفتى يترك المدرسة ومعلمه حتى قبل إتمام امتحان التخرج منها (البكالوريا أو ما شابه) ويذهب مع أبيه الصحافي. ينحاز بابيتش إلى المشاعر الإنسانية العميقة برغم التناقض الظاهر بين عالم القس النقي وعالم الصحافي المزيف. وخلال الرواية نلمس التأرجح في العلاقة بين الراهب وربّه، بالقياس الى قوة العلاقة مع ابنه الروحي، تلميذه، أو ضعفها. ويتجلى الطابع الأنطولوجي المتعلق بجوهر الإنسان، إذ تفقد الدوغما الدينية والعادات أو حتى التأريخ معناها من دونه، على ما يقول البروفسور في تأريخ الأدب لايوش شيبوش، المتخصص في أعمال بابيتش.
كل هذا جرى في محيط غني ومعقد، تجلى فيه عمق معرفة بابيتش بالألسنيات الكلاسيكية (اليونانية واللاتينية). الا أن الحديث عن مطالعات تيمار لكتب آباء الكنيسة الأوائل أو تضمين أبيات من "إنياذة" فيرجيل أو من إعترافات القديس أغسطين باللاتينية، ليس استعراضاً لعلمه في الكلاسيكيات، بل له وظيفة إبداعية في النص: الإشارة إلى تفسيرات متوازية لجوهر الحياة والإنسان، واستنباط المثال في ما يتعلق بذلك. وفي المحصلة النهائية، تفسير رؤية تيمار للحياة ذاتها، ومصادر هذه الرؤية بصفته راهبا متبتلا. كذلك تخدم هذه الإشارات تجسيد مفهوم المسيحية التاريخية، بدءاً بفيرجيل مروراً بكبار رجال الكنيسة، حتى توما الأكويني في القرن الثالث عشر. الا أن هذا المستوى يتعقد أكثر بالعلاقة مع تجليات الدين والتدين اليومية، مثلاً في اختلاف شخصيات القساوسة المعلمين زملاء تيمار، وانصراف غالبيتهم إلى الدنيويات، وسخرية الطلبة من القساوسة.

من جانب آخر، يمثل الصحافي فيتاني، الأب البيولوجي للفتى، التيار الليبيرالي الصاعد بكل تناقضاته وعدم تماسكه، سواء في تنكره لجذوره (الإشارة هنا تأتي عبر تنكر فيتاني لجذوره اليهودية)، أو في انتقائيته وجبنه وسطحيته، ناهيك بغروره واهتمامه بالمظاهر. يختلف عالم فيتاني تماماً عن عالم تيمار: نجد الإيمان المشكّك لدى أرنست رينان وأناتول فرانس محل إيمان أغسطين وجيروم وأمبروز المطلق، نجد أدوات التجميل والعطور والأثاث النفيس محل بساطة معيشة الراهب وكتبه وأثاثه المتواضع، سطحية معارف فيتاني برغم تشعبها وشموليتها مقابل عمق معارف تيمار، لكن في مجال تخصصه فحسب.
في هذا المقام نشير إلى أن الرواية واجهت نقداً واتهاماً باللاسامية، لكن من دون حق، بسبب من الإشارات الواردة فيها، وقد اقحم هذا الرأي بسبب النقاش الواسع الذي سبق ظهور التطرف اليميني الفاشي، في صدد إندماج اليهود في مجتمعاتهم أو تشكيلهم عرقاً منفصلاً، وهو النقاش الذي بدأ مع ظهور الحركة الصهيونية في أوائل القرن العشرين، وحسمته النازية بقطع الطريق أمام الإندماج لتصبّ الماء في طاحونة الصهيونية.
بابيتش شخصية مؤثرة في تاريخ الأدب المجري في النصف الأول من القرن العشرين، ساهم في تحرير مجلة "الغرب"، المجلة الأشهر بين الدوريات الأدبية في المجر، وخصوصاً بعد وفاة الشاعر أندره آدي (1877-1919)، ثم أصبح رئيس تحريرها بالإشتراك مع الروائي جيغموند موريتس في 1929. يعتبر بابيتش محافظاً في نظرته، لكن هذه النظرة تقتصر على الأدب والفن، أي الحفاظ على القيم الإنسانية الراقية في الأدب والفن. وافق على تعيينه استاذاً جامعياً وقت جمهورية المجالس، مما جلب له نقمة القوى اليمينية والقومية فجُرِّد من مقعد الإستاذية وحُرِم التقاعد بعد القضاء على الثورة، رغم أنه لم يكن اشتراكياً ولا شيوعياً بل مثقفاً يؤمن بالمبادئ الإنسانية والعدالة الإجتماعية وتقدم البشرية. مع ابتعاده عن الحياة العامة والسياسة، هاجم بابيتش النازية الصاعدة في آخر أعماله "كتاب يونان" [النبي يونان من العهد القديم]، بوصفها نقيض أفكاره في العدالة الإجتماعية والإحتفاء بالإنسان والبشرية وقيمهما.

عرف بابيتش كشاعر في الدرجة الأولى، وله ترجمات أدبية شهيرة مثل "أزهار الشر" لبودلير و"اليوميات" لغوته، و"السلام الأبدي" لكانط، ناهيك بـ"الكوميديا الإلهية" لدانتي. كرمته إيطاليا لترجمته هذه الرائعة في احتفال اقيم في سان ريمو، قبل وفاته في 1941، ألا أن ترجمة روايته "إبن فيرجيل تيمار" إلى الإيطالية مبكراً وشهرتها هناك لم تكن بلا تأثير على قرار منحه التكريم.
يذكر أخيرا أن الرواية تصدر قريباً بالعربية بترجمة كاتب هذه السطور.

ثائر صالح

المصدر: النهار

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...