اسرائيل: جيش كبير وغبي

26-07-2006

اسرائيل: جيش كبير وغبي

لا يصدق المراقب لوسائل الإعلام الإسرائيلية نفسه، عندما يرى أن هذه الوسائل تعرت من لباسها المدني وارتدت البزة العسكرية، حيث اختارت كل وسيلة لنفسها شعارا لهذه الحرب يميزها عن غيرها من الوسائل. فهذا يعمل تحت شعار يوميات الحرب وذاك بشعار حرب في الشمال وثالث يكتفي ب غرفة حرب ورابع لا يقبل بأقل من إسرائيل تحارب. بل إن عددا من برامج الترفيه المسائية في القنوات التلفزيونية انتقلت للبث من قواعد الجيش الإسرائيلي أو من المواقع التي تتعرض لصواريخ حزب الله.
ومع مرور الوقت، كان الزعيق الإعلامي الإسرائيلي يخفت من مستوى القهقهة في البداية إلى الاقتراب من الرؤية الموضوعية في النهاية. فالجمهور الإسرائيلي وصنّاع الرأي فيه، توافقوا في البداية على أن الهجوم الإسرائيلي الشامل على حزب الله سيقرب تحقيق النصر الهادف إلى إزالة حزب الله مرة واحدة وإلى الأبد. وسرعان ما تبين أن الأمر ليس بالضبط كذلك، وأن قادة الجيش أنفسهم انتقلوا من الحديث عن القضاء على حزب الله إلى الاكتفاء بتوجيه ضربة موجعة له.
وسعى ناقد القنوات التلفزيونية في صحيفة معاريف أساف شنايدر، أمس، لتوضيح هذه الصورة فكتب في عموده أهلا وسهلا بكم في المرحلة الثانية من سيكولوجية الجماهير ضمن فنون الحرب: فقد انتقلنا من مرحلة القبضاي إلى مرحلة الوعي والحساب. وكل يوم يمر يأتي بانخفاض معين في منسوب الحماس. كل يوم ينقضي يزيل من أمامنا علامة تعجب أخرى من المطالبة الوطنية: اقضوا عليهم!!!!. وبديهي أن كل يوم آخر يعيد إحياء ذكريات أخرى من تاريخ لبنان.... فالانتقال المدروس بين القنوات الأولى إلى العاشرة يؤكد النتائج المطلوبة. في القناة الأولى برنامج مع الفنانين من كل الصنوف تنقطع بين الحين والآخر بملحق إخباري عاجل، إلى القناة العاشرة التي صنعت لها استديو بين فوهات مدافع الدبابات. والكل يريد منح حضن دافئ للأبناء.
وبرغم هذا التجنيد الإعلامي الفاضح، فإن قادة السياسة والجيش في إسرائيل يوبخون رجال الإعلام هناك لدورهم في تمجيد الامين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله وفي إظهار حزب الله وكأنه الضحية. وهذا ما استدعى بعض الردود من الإعلاميين الذين شعروا أن أحدا ما يريد تحميل الإعلام بعض ذنوب إخفاقات الجيش والحكومة.
وتحت عنوان سياسة الفم الكبير، كتبت هآرتس افتتاحيتها منتقدة تكرار ظهور ضباط الجيش أمام وسائل الإعلام. وقالت إنه :بعد نهاية الأسبوع من المقابلات والمؤتمرات الصحافية والتقارير بإشراف المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي وبرامج التسلية التي بُثت من القواعد العسكرية والتي وجد فيها القادة أيضا أن من الصحيح التحدث والتعبير عن رأيهم، يُطرح السؤال: من المسؤول عن التصريحات وطبيعتها في هذه الدولة، ومن المخول الرسمي عن المؤسسة العسكرية.
وأضافت ان سياسة الفم الكبير لدى كبار الضباط ليست سببا لتهدئة الخواطر، في بعض الأحيان يبدو أن بساطة عبارات حسن نصر الله وغبار المعركة الذي يلفه أكثر ملاءمة لطبيعة الحرب. الضباط لا يضيفون معلومات إلى المعلومات التي يبثها المراسلون العسكريون، كما أن هذا ليس دورهم. ليس من وظيفتهم استغلال المنصة والمنابر من اجل تربية العدو وإثارة حماسة الجماهير وإطلاق تصريحات سياسية.
وأتت الافتتاحية بمثال صدر عن المسؤول عن الاستخبارات في سلاح الجو الإسرائيلي العميد رام شموئيلي، الذي قال :أصدرت تعليماتي لذوي العلاقة بالكف عن تحليل خطابات حسن نصر الله لان هناك حاجة إلى إعادته لحجمه الطبيعي، ما الذي يمكن أن يهددنا به؟ أن يطلق ألف كاتيوشا؟ هذا الأمر قد حدث... أن يطلق صاروخا نحو مركز البلاد؟ هذا الأمر سيزيد من صمود الجمهور ولن يضعفه... قادة التنظيمات الإرهابية في الشرق الأوسط في الماضي فروا من المعركة، وأنا أقترح على إرهابيي حزب الله أيضا أن يتأكدوا من وجود قادتهم... قوانين اللعبة في الشرق الأوسط تغيرت. هذا الهدف قد تحقق.
وعددت الصحيفة أمثلة أخرى بينها توصيف قائد سلاح الجو اليعيزر شكيدي، مقاتلي حزب الله ب العصابات في محاولة منه لإعادتهم إلى حجمهم الطبيعي، وقول قائد الجبهة الشمالية إنه لا ينبغي إحصاء عدد الجثث في المعركة. وقالت يبدو أن نتيجة استعراضات القوة الخطابية قد تؤدي إلى نقيض ما خُطط لها. وربما أن الجمهور أذكى من قادته ولا ينظر بعين الرضى إلى الأسلوب الجديد الذي يقوم فيه بعض الضباط بالحديث عن خططهم وعملياتهم في الساعة المقبلة. وخلصت إلى أنه ربما آن الأوان لإعادة الضباط العسكريين أيضا إلى حجمهم الطبيعي، وخصوصا إلى دورهم الطبيعي.
ويواصل كبير معلقي هآرتس يوئيل ماركوس ما بدأته افتتاحية الصحيفة فيكتب عن الظهور العشوائي للضباط الكبار أمام شاشات التلفزة، قائد الجبهة الداخلية الذي لا يتوقف عن منح العلامات للجبهة الداخلية ولا ينتبه الى أنه في اللحظة التي ستشعر فيها هذه الجبهة الداخلية بأن الجيش لا يؤدي دوره المنوط به، فإن الناس لن يفروا من منازلهم فقط، وإنما من البلاد كلها، في أعقاب عشرات آلاف السياح الذين فروا من هنا. رئيس الأركان الذي قال بزلة لسان بأننا سنُعيد لبنان عشرين سنة إلى الوراء، والذي يهدد الآن بأنه سيدمر عمارة من عشرة طوابق في مقابل كل صاروخ يسقط، وقائد المنطقة الذي يصرح بأننا لا نحصي القتلى خلال المعركة كطبعة محسنة لمقولة من كان عميدا في العام ,2001 بني غينتس عندما يتم تقطيع الأشجار تتطاير الأغصان، والذي لم ينتبه إلى أن هذه الأغصان هي أناس يسيرون على الأقدام.
ويضيف ماركوس يظهر رئيس الأركان علينا يوميا وكأنه في حيرة من أمره، متى يرتدي البزة الزرقاء ومتى يرتدي الكاكي، الذي يخرج علينا في خطابات للأمة هي من مجال اختصاص رئيس الحكومة، ويكرس يوما كاملا لجولة مع مراسل القناة الثانية روني دانييل. العميد احتياط رافي نوي، محق في تحليله الإذاعي عندما يقول إن تفوق الاختفاء ما زال بيد حزب الله، وإن الجيش الإسرائيلي الكبير والعملاق لم يُصب حتى الآن كامل قدرة هذا التنظيم.
من جانبه، تطرق للأمر أيضا الصحافي المتخصص بالشؤون العربية في معاريف جاكي حوجي، في مقالة بعنوان إخفاق الإعلام. وفي هذا السياق كتب حتى قبل أن نعلم من الذي سينتصر في هذه المعركة، صار بالوسع الآن القول إن إسرائيل منيت بهزيمة صارخة في جبهة الإعلام نحو لبنان والعالم العربي. إنها صارخة لأن الدولة لا تستطيع أن تُخرب دولة مجاورة، ولا تقول لمواطني الدولة المجاورة ما هو المنطق الذي يقف وراء ذلك. وأشار إلى أنه كانت هناك ست سنوات، منذ الانسحاب من لبنان في العام ,2000 تكفي صناع القرار في إسرائيل لإعداد استراتيجية إعلامية صار مثبتا أنها غائبة.
وكتب حوجي أنه بدل تفجير الشاشة، فضل الإعلام الإسرائيلي حصر اهتمامه في إلقاء منشورات في لبنان. كانت هناك توجهات هاتفية أيضا، بلغت إلى سكان لبنان من جهة خفية. هذه وسائل غزو، يحسن استعمالها فقط عندما يكون لها ما تقوله حقا.وانتقد حوجي ضعف المنشور الإسرائيلي الذي ألقي في بيروت والجنوب والذي وصف نصر الله بالأفعى وإسرائيل بالصديق. واعتبر أن هذه محاولة دفاعية هابطة، تثير ردا معاديا فوريا، وتشهد بضعف وعدم إحكام، ليس هذا ما سيقنع المواطنين (اللبنانيين) الذين يذكرون لحزب الله دوره في طرد الجيش الإسرائيلي من لبنان.
ويشير حوجي إلى الإعلاميين الإسرائيليين الذين يتحدثون باللغة العربية، ويُكثرون من الظهور في محطات الإذاعة والتلفزيون في العالم العربي. ومهما كانت حوافزهم، فإنهم يظهرون هناك دائما كمدافعين، بعد أن يكون المشاهد قد رأى الجثث المقطعة من قصف سلاح الجو. في التلفزيون، كما في بنت جبيل بالضبط، يجب الهجوم. من لا يهجم، ينزف. وهذا ما يحدث في هذه الأيام للإعلام الإسرائيلي.
وانتقد حوجي على وجه الخصوص رئيس وحدة الاستخبارات الجوية العميد رام شموئيلي الذي تحدث أمام صحافيين وهاجم نصر الله بكلمات لاذعة. بماذا يستطيع تهديدنا بعد؟، تساءل بلهجة استخفافية، وبرغم أنه قرأ من الورقة، فإن رسائله كانت مُوحِّدة ومُظهرة للقوة. لكن اللهجة الواثقة لم تعد منذ ذلك الحين. وكان يبدو أن العميد شموئيلي قد مر من هناك فقط. مثل طلعة طائرة مقاتلة.
غير أن الإعلام الإسرائيلي لم ينتقد فقط الأداء الإعلامي، بل كانت هذه هي البداية. وهناك انتقادات شديدة للأداء الاستخباراتي الإسرائيلي في الحرب، ولكن الأهم هو التساؤلات التي بدأت تطرح حتى في صفوف أبرز المؤيدين للحرب.
ومن بين هؤلاء يوئيل ماركوس في هآرتس. وفي مقالة بعنوان من فرط القوة طار العقل، كتب أن إنجازات إسرائيل بعد أسبوعين من خروجها للقضاء على حزب الله محدودة جدا من الناحية العسكرية. الدولة التي كانت أقلية في مواجهة غالبية، ووقفت في مواجهة سبع دول عربية في حرب التحرير، وصاحبة الجيش الذي نجح خلال ستة أيام في دحر ثلاث دول عربية نهضت ضدها، تقف الآن في وضع مُربَك معاكس لماضيها التليد وقد أصبحت الآن في وضعية الأكثرية ضد الأقلية.
وتساءل ماركوس من كان يُصدق أن تنظيم عصابات من بضع مئات من المقاتلين النظاميين الذين يبلغ تعدادهم كتيبة ونصف كتيبة ربما، سينجحون في شل نصف دولة بعمليات قصف يومية لعشرات ومئات الصواريخ يوميا (2200 حتى يوم الأحد صباحا، بحسب ما أفاد به وزير الدفاع). من كان يُصدق أن مدنا مثل صفد وعكا ونهاريا والناصرة وطبريا، وخصوصا حيفا عاصمة الشمال، ستنهض في كل صباح على صافرات الإنذار وعمليات القصف الفتاكة التي دفعت بعشرات الآلاف إلى وضعية اللجوء، وشلت الحياة في جزء كبير من الدولة. وهذا كله قبل أن يحاول حزب الله إطلاق صواريخه الثقيلة على تل أبيب. من كان يُصدق أن الجيش الإسرائيلي، الجاهز للحروب الكبيرة، هذا الذي تخشاه إيران وتتخوف من قيامه بمهاجمة منشآتها النووية، القادر خلال ليلة واحدة على إلقاء 23 طنا من القنابل، لا ينجح في إيقاف الرشقات الصاروخية. كيف حدث أنه بعد بيان الجيش الإسرائيلي بأن قناة المنار التابعة لحزب الله قد قُصفت، ظهر علينا حسن نصر الله من خلالها سليما معافى وأخذ يطلق تصريحاته الاستفزازية لنا؟.
وخلص ماركوس إلى القول بأن إسرائيل خرجت إلى الحرب مع هدف القضاء على حزب الله كتنظيم عسكري معاد وناشط على حدودنا، ردا على الاستفزاز وعملية الاختطاف التي تمت بسبب غفوة الروتين التي تفشت في الجيش الإسرائيلي في الآونة الأخيرة. وكل ذلك بدعم دولي برئاسة الرئيس بوش، ودعم غالبية الجمهور من الداخل. بوش والجمهور افترضوا أن الجيش يعرف ما الذي يفعله، وأن وجود قوى بشرية مزودة بالعتاد والمهارة سيؤدي إلى دحر حزب الله كقوة مهددة لإسرائيل، ولكن رويدا رويدا بدأت تتكشف معطيات ومؤشرات مقلقة ووجدنا أمامنا جيشا غنيا وكبيرا وغبيا بدلا من الجيش الصغير والذكي الذي نعرفه

حلمي موسى

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...