الاخوان فليفل و"اللحن الثائر"..
عِرب ومفردها عربة، والعربة هي المفتاح الذي ندوزن به وتر القانون. عندما ينطق باسل قاسم بهذه العبارة، يرتفع مستوى الشغف في نبرات صوته الى حد يجعلك تبحث عن معان للعبارة قد تكون فاتتك. فهو لا يتحدث عن الموسيقى او الغناء، سحر كليهما أمر مفروغ منه. الحديث تقني بحت، ومع ذلك تلمس فيه رغبة تلامس الهوس بجمع التراث الغنائي الأصيل وأرشفته وحفظه لئلا يضيع، وكأن الجمع والتدقيق والتصنيف بات هو الغاية والفن المنشود، لا الصوت واللحن.
مناسبة الحديث عن جمعية "عِرب" التي أسسها قاسم مع أصدقاء، اطلاق كتاب يتناول سيرة الاخوين محمد وأحمد فليفل الفنية، ومنه الى رحلة في عالم أناشيد وأغانٍ استوطنت آذان العرب وقلوبهم على مدى أكثر من قرن، ربما هو الأغنى في تاريخ المنطقة، وشهد توالي حضارات وثقافات، وقيام سلطات وإمبراطوريات وانهيارها، من أيام السلطنة والخلافة، الى الانتداب، والاستقلال، من أحلام الثورة الى كوابيس الميليشيات، ومن ايام الوحدة الى ليل التفتت.
قبل ان تكون سيرة الأخوين محمد وأحمد فليفل، رحلة ألحان وموسيقى وأناشيد، تعيدنا حياتهما في كتاب "اللحن الثائر" إلى حقبة اختلطت فيها الروافد وتنوعت. فالموسيقى مشكلة مؤلفة من الموالد الدينية في الأحياء والأزقة، ومن ألحان الحماسة الوطنية وإيقاعاتها التركية والفرنسية وهيبتها في الساحات والحدائق، ومن المغنى من عيون الشعر العربي. خلطة ثلاثية أرضت الذائقة، وتكفل ابنا بيروت بإيصالها الى الجماهير والخاصة على حد سواء. رحلة يتولى الباحث محمد كريّم نقلها بسلاسة واختصار الى القراء، الذين يعرفون الاخوين الفنانَين والذين يريدون ان يتعرفوا اليهما. ومن يريد ان يتعمق في تفاصيل الموسيقى أكثر، فجزء بمثابة كتاب ثان للعميد جورج حرو يفصل فيه النوتات ويشرحها ويضعها في اطارها الموسيقي العالمي ومعاييره.
وليتحضر القارئ الى مفاجآت من العيار الثقيل. فهو سيعرف أن لسعيد عقل، منظّر القومية اللبنانية واللغة المحكية الذي يريد "زحلنة لبنان ولبننة العالم"، نشيداً شهيراً لحّنه الأخوان فليفل، مطلعه "للنسور ولنا الملعب والجناحان الخضيبان... بنور العلى والعرب"، وهو بين أناشيد لحّنها الأخوان مثلما لحنا النشيد الوطني السوري ونشيد جامعة الدول العربية و"لبيك عبد الناصر" و"بلاد العرب أوطاني"، ونشيد "الكتائب" و"النجادة" و"المرابطون" والعشرات من الأناشيد الوطنية والفلسطينية واللبنانية.
زمن الاخوين فليفل كان زمنا آخر متاحاً فيه الاختلاف والتنوع والحلم بالأفضل. كان لبنان في تلك الأيام غيره في أيام "الداعشي" والطائفي والمذهبي، وكان مهيأ لأن تدرس الصبية المسيحية نهاد حداد أصول تجويد القرآن والإلقاء والإنشاد في بيت عائلة الأخوين الإسلامي التقليدي، ومنه سفيرة الى النجوم اسمها فيروز.
كانت بيروت منبراً وهواءً وماءً للفن من المحيط الى الخليج؟ أي حاضرة عربية اليوم بمستطاعها ان تضم الى جانب ناطحاتها الزجاجية شعراء من خامة الفلسطيني ابراهيم طوقان، والمصريين احمد شوقي وحافظ ابراهيم، والعراقيين معروف الرصافي واحمد الصافي النجفي، والسوريين عمر ابو ريشة وخليل مردم بك وفخري البارودي، واللبنانيين الأخطل الصغير وسعيد عقل وعمر فروخ وشبلي الملاط ومحمد جواد وعبد الرحيم قليلات وغيرهم العشرات ممن لحن الاخوان فليفل قصائدهم.
وعلى أهمية ما حققاه، ظلمت الدولة الفنانَين الرائدَين، على جري عادتها في النأي عن مواهب أبنائها. ومنعت عنهما مرة شرف تلحين النشيد الوطني اللبناني، علماً أنهما هما من وضعا الوزن لقصيدته وللقصائد المرشحة لتكون النشيد. والسبب بحسب ما قيل لهما، إنهما ما زالا في مقتبل العمر. والمرة الثانية عندما سرّحت قيادة الجيش أحمد فليفل من السلك العسكري عند بلوغه سن الخمسين، واستبدلته بموسيقار فرنسي تجاوز الستين.
دراما الأخوين فليفل شبه إغريقية، المؤسسة العسكرية لم تفِهما حقَّهما، رغم أنهما أسسا فرقتها الموسيقية الأولى من الصفر، وكتبا ألحان كل المارشات الرسمية. وارتقت الدراما إلى مأساة شخصية عندما سجل التاريخ أنهما لحّنا غالبية الأناشيد الوطنية التي كانت معروفة آنذاك من "موطني" الى "بلاد العرب أوطاني" والعشرات غيرها، ولحنا اناشيد رسمية وطنية لدول عربية، وفشلا في تلحين نشيد بلدهما. وهما الملحنان الثوريان اللذان قاوما الانتداب على طريقتهما. ويروي الكتاب كيف ان محمد فليفل عمد الى "تنشيز" إلقاء النشيد الفرنسي "المرسياز" في مدرسة حوض الولاية في بيروت، قبل بدء الدروس لإجبار السلطات الفرنسية على السماح للتلامذة اللبنانيين بآداء نشيد بلدهم الوطني.
ومثل الأناشيد الوطنية كانت للأخوين فليفل إسهامات في الأناشيد الدينية والتربوية، من نشيد الشجرة الى نشيد المعلم. ويبقى أن أكثر ما حفظت الأجيال المتعاقبة لهم أغنية "الجزرة المضحكة" التي غناها ملايين أطفال العرب من دون أن يعرفوا أنها للأخوين فليفل تلحيناً وتأليفاً. وهذه الأغنية شبه اسطورية بنجاحها، لا للحنها وكلماتها فحسب، بل لأنها تحولت الى لعبة، يندر أن بيتاً أو عائلة لم تمارسها، وصورت في عشرات الافلام والصور المتحركة وبرامج الأطفال. ومن ينسى "كيف يقع الأولاد والأهل أرضاً من فرط الشد وقوة القلع مع اقتلاع الجزرة بخاتمة الأغنية".
ليس "اللحن الثائر" تأريخاً لمرحلة أو سيرة حياة، أو قراءة نقدية في الأناشيد أو الأغنية الوطنية، هو تحية لمبدعَين لبنانيَّين آمنا بقيم شكلّت لبنان بما يعنيه من دور ورسالة وموقع رائد بين الشرق والغرب، وبين المدنية والتدين في العالم العربي، يبدو أن لا مكان له في الآيام الآتية. ولم يبق منه سوى بعض ذكريات كتاب.
كتاب "سيرة الأخوين فليفل اللحن الثائر"، مع اربع اسطوانات مدمجة تضم 70 نشيداً، تأليف محمد كريم والعميد جورج حرو، انتاج "عِرب"، يطلق خلال حفلة تحييها الأوركسترا الوطنية بقيادة العميد المتقاعد جورج حرو، في قصر الأونيسكو السابعة مساء السبت 11 تشرين الأول.
منير الخطيب
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد