الاستفتاء الفلسطيني من أين يبدأ وأين ينتهي
خيرا، في عام 2006 اكتشف بعض الساسة الفلسطينيين فكرة "الاستفتاء الشعبي العام".. لم يفكروا في الاستفتاء يوم ذهبوا إلى مدريد، ولا يوم ذهبوا إلى أوسلو سرا، ولا يوم ذهبوا إليها علانية، ولا يوم قدموا اعترافا تاما ناجزا مقابل وعود غامضة معلقة إلى أجل غير مسمى، مع حزمة إضافية من المشاكل؟!
كما أنهم لم يلتفتوا إليه –أو التفتوا إليه وتركوه جانبا– يوم كانوا يدفعون نقدا وفورا، مقابل شيك بدون رصيد وبدون توقيع، وكذلك نسوا الاستفتاء -أو تناسوه لا أدري- يوم كانوا يكتبون القانون الأساسي الذي يقوم مقام الدستور. وحين قامت السلطة الفلسطينية لم تقرر عرض شيء من قراراتها وتوجهاتها للاستفتاء، رغم حدة الأزمات وشدة الخلافات حولها.
لنترك هذا الماضي بعد الإشارة إليه، فهو على كل حال ماض حاضر قريب معروف، ولننظر في مسألة "الاستفتاء الآن" من الناحية المبدئية أولا، ومن الناحية الواقعية ثانيا.
مبدئيا لا شك في أن الاستفتاء الشعبي العام "يعتبر من أرقى صور الشورى والاستشارة" فيما يناسبه ويصلح له من قضايا، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوجه مرارا إلى عموم المسلمين قائلا "أشيروا عليَّ أيها الناس".
وهذا هو مقتضى الأمر الإلهي له "وشاورهم في الأمر"، فالضمير عائد إلى عموم المسلمين كما هو واضح من سياق الآية وسبب نزولها. وبدون شك، لم تكن جميع المشاورات النبوية على هذا النحو العام الموسع، بل كانت هناك مشاورات خاصة ومضيقة بحسب الطبيعة التخصصية أو السرية أو الاستعجالية للموضوع.
وبعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم كانت النقاشات والمشاورات لاختيار خليفته مفتوحة للجميع. وحين تداعى الصحابة إلى سقيفة بني ساعدة لحسم الموضوع كان التجمع عاما مفتوحا، لم يستثن منه أحد ولم يمنع منه أحد.
وعند اختيار خليفة لعمر بن الخطاب بعد استشهاده رضي الله عنه، انتهى الأمر إلى إسناد الاختيار إلى عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، فأمضى أياما بلياليها يستشير الناس نساء ورجالا، صغارا وكبارا.
يقول العلامة المؤرخ ابن كثير "ثم نهض عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه يستشير الناس فيهما (أي في علي وعثمان) ويجمع رأي المسلمين برأي رؤوس الناس وأقيادهم، جميعا وأشتاتا مثنى وفرادى ومجتمعين، سرا وجهرا، حتى خلص إلى النساء المخدرات في حجابهن، وحتى سأل الولدان, وحتى سأل من يرد المدينة من الركبان والأعراب، في مدة ثلاثة أيام بلياليها. فلم يجد اثنين يختلفان في تقديم عثمان بن عفان، إلا ما ينقل عن عمار والمقداد أنهما أشارا بعلي بن أبي طالب، ثم بايعا مع الناس" (البداية والنهاية، 7/146).
ولا يخفى على أحد أن ظروف الزمان ووسائله كانت يومئذ تحد من هذا التوجه نحو توسيع الشورى وإتاحتها لأكبر عدد ممن يعنيهم الأمر "وأمرهم شورى بينهم".
ولكن المهم هو ظهور هذا التوجه والأخذ به وتثبيت مشروعيته، وتبقى وسائله وطرق تنظيمه وتوسيعه مفتوحة للاستفادة من التطورات، وهو ما حصل بالفعل خاصة في العصر الحديث. ولذلك أصبح الاستفتاء شكلا من أشكال الممارسة الديمقراطية، يتم اللجوء إليه خاصة في القضايا المصيرية للشعوب والجماعات.
في خضم السجال الدائر حول فكرة استفتاء الشعب الفلسطيني بخصوص ما بات يعرف "بوثيقة الأسرى الفلسطينيين"، سمعت من بعض القياديين الإسلاميين رفضا مبدئيا لفكرة الاستفتاء. وكان من وجوه هذا الرفض عندهم أن مثل هذا الاستفتاء لو أجري في العهد النبوي المكي لكانت النتيجة هي رفض الإسلام والرسالة المحمدية بنسبة 99% ولكان الإسلام قد انتهى في المهد.
ولهذا فإن الثوابت لا يمكن أن تكون موضوع استفتاء، وإن الشعب حتى لو صوت كله بخلافها لكان ذلك مرفوضا.
وهذا النظر فيه نظر
* فهو أولا يتضمن –ولو من غير قصد– تشبيه شعب مسلم مجاهد بعرب الجاهلية وما كانوا عليه وقياسه عليهم. وواضح أن لا وجه لهذا التشبيه وهذا القياس.
ونحن نعلم أن الشعب الفلسطيني من أكثر الشعوب الإسلامية تدينا وتمسكا بدينه، كما أنه أكثر هذه الشعوب تسييسا ووعيا وأكثرها صمودا وتحملا. وهو شعب ملتحم بقادته وذوي الرأي والعلم فيه، فهو جدير بكل ثقة وتقدير فيما يختاره ويعبر عنه وفيما يقبله أو يرفضه.
* وهو ثانيا يشبه الحقوق السياسية والوطنية للشعب الفلسطيني، بالإسلام وبالرسالة النبوية، وهو تشبيه أسوأ من سابقه. فمهما يبلغ تعظيمنا وتقديسنا لحقوق الشعب الفلسطيني وثوابته الوطنية، فإن ذلك لا يسمح بهذا الخلط وبهذه المبالغة، ولا يمنع من أن يكون لهذا الشعب رأيه المقدر وكلمته الفصل، سواء جاء ذلك عبر استفتاء حقيقي صحيح أو عبر مؤسسات شورية سليمة وجامعة.
الاستفتاء.. من أين يبدأ وأين ينتهي؟
لعل أول إشكال طرح على فكرة الاستفتاء الذي دعا إليه الرئيس الفلسطيني هو مدى دستوريته ومدى قانونيته، إذ معلوم أن القوانين والمواثيق الفلسطينية المعتمدة لدى السلطة ولدى منظمة التحرير، لا أثر فيها للاستفتاء.
والأمر لا يقتصر على المبدأ والإمكان المبدئي، ولا تنفع فيه ولا تغني عنه فكرة أن "ما لا يمنعه القانون، يسمح به القانون"، ولا يكفي كذلك ولا يغني القول إن الشعب هو مصدر السلطات.
فالاستفتاء –إذا تجاوزنا مشروعيته المبدئية– يحتاج إلى تفصيل وتنظيم قانوني معلوم.
فمتى يتم اللجوء إلى الاستفتاء؟ وما هي الجهة أو الجهات المخولة بالدعوة إليه؟ هل هو الرئيس والرئيس وحده؟ هل هو أيضا مجلس الوزراء؟ هل هو أيضا المجلس التشريعي (البرلمان)؟ فكل هذه جهات منتخبة وسلطات شرعية قائمة، وكل منها قد تجد لها صلاحية الدعوة إلى الاستفتاء في الممارسات الدستورية الديمقراطية عبر دول العالم. بل إن بعض الدول تعمل بالاستفتاء إذا طالب به عدد معين من السكان. فإذا حق للرئيس أن يدعو إلى الاستفتاء بدون دستور ولا قانون اعتمادا فقط على قاعدة "ما لا يمنعه القانون يسمح به القانون"، فإن هذه القاعدة نفسها تسمح للجهات الأخرى بهذا الحق متى ارتأت ذلك.
وإلى هذا، فإن إجراء الاستفتاء الملزم يحتاج مسبقا إلى التحديد القانوني لعدد من الأمور التنفيذية السابقة واللاحقة، وهو ما لا يوجد منه شيء في الحالة الفلسطينية.
ثم إن الاستفتاء يجب أن يكون على قضية جديدة ومحددة هي محل الخلاف والنزاع، لا على نص واسع يتفق الفرقاء على تسعة أعشاره أو أكثر. فينبغي تجريد المسائل محل الخلاف والنزاع وصياغتها بدقة ووضوح ثم عرضها دون غيرها، حتى لا يقع الخلط والتلبيس على الناس.
والمعروف أن القضايا المتنازع بشأنها والمراد تمريرها من خلال الاستفتاء تتعلق تحديدا بقبول القرارات الأممية المتضمنة الاعتراف "بإسرائيل"، كما تتعلق باعتبار منظمة التحرير الفلسطينية –بالحالة التي هي عليها الآن– ممثلا وحيدا للشعب الفلسطيني.
الإشكال الأول هنا –وهو الإشكال الأصغر– أن المنظمة اليوم تطلب اعتراف الشعب بها ممثلا شرعيا وحيدا له، وهي تتصرف بهذه الصفة منذ أمد بعيد. وتطلب من الشعب حسم مسألة الاعتراف بإسرائيل وهي قد حسمتها –وبصفتها "ممثلا شرعيا ووحيدا"...- منذ سنين طويلة!
أما الإشكال الأكبر على فكرة "استفتاء الشعب" فهو: عن أي شعب فلسطيني يتحدثون؟ وأي شعب فلسطيني سيستفتون؟ إن مجرد إجراء الاستفتاء على القضايا المذكورة في الضفة والقطاع دون غيرهما يعد -في حد ذاته– نكبة فلسطينية أخرى. كيف لمنظمة التحرير التي تقوم بتمثيل الشعب الفلسطيني كله وتتكلم باسمه كله، أن تقرر في مصيره وفي تمثيليته باستفتاء في الضفة والقطاع؟! هل يجهل أحد أن ثلثي الشعب الفلسطيني يوجدون خارج الضفة والقطاع؟
نعم، يمكن استفتاء سكان الضفة والقطاع فيما يخصهم ولا يتعلق بغيرهم، أما أن يختزل الشعب كله ويحصر "الاستفتاء الشعبي العام" في الضفة والقطاع، فهذا لا يمكن التردد في بطلانه وعدم شرعيته مهما تكن نسبة المشاركين فيه، ومهما تكن نتيجة التصويت.
والحقيقة أن منظمة التحرير إن أمضت الاستفتاء على هذا النحو، فإنها -إن ربحته- فستربح نوعا من التمثيلية في الضفة والقطاع، وتكون قد خرجت بنفسها من أي تمثيلية للشعب الفلسطيني خارجهما. وأما إن خسرته فستخسر صفتها كاملة.
وفي جميع الأحوال فإن استفتاء لا تتاح المشاركة فيه إلا لنحو ثلث الشعب، ثم يشارك فيه فعليا نصف هذا الثلث أو أقل أو أكثر، ثم تتوزع أصوات المشاركين بين القبول والرفض وغيرهما.. إن استفتاء بهذه المواصفات لا يمكن أبدا أن يكون معبرا عن إرادة الشعب الفلسطيني، ولا يمكن أبدا أن يكون ملزما له.
لعل أخطر معضلة داخلية للشعب الفلسطيني هي قضية الوحدة الوطنية، والمؤسسات الوحدوية المجسدة لها والضامنة لاستمرارها وتفعيلها. ومهما قيل عن منظمة التحرير وتمثيليتها، وعن كونها الخيمة الجامعة والسلطة العليا للشعب الفلسطيني، فإن الواقع لا يرتفع ولا يمكن إخفاؤه.
نعم تبقى المنظمة إلى الآن ذات قدر من الشرعية والمصداقية، وتبقى مقبولة من الجميع ومرشحة من الجميع، لتكون ولتستمر ممثلا شرعيا أعلى للشعب الفلسطيني في الداخل والخارج. وهذا مع الإجماع على ضرورة تأهيلها وتجديد بنائها، ليكون بناؤها –أولا– سليما ونزيها وبريئا من الطعون، وليكون جامعا أو مفتوحا للجميع على قدم المساواة.
وفي هذه الحالة فإن "المجلس الوطني الفلسطيني" إذا تم تشكيله بنفس المواصفات سيكون هو المرجعية السياسية العليا للشعب الفلسطيني بكامله، وستكون قراراته فوق الجميع وملزمة للجميع، وهو ما يغني عن الاستفتاء الشعبي العام الذي يعتبر الآن مستحيلا أو شبه مستحيل.
أحمد الريسوني
المصدر: الجزيرة
إضافة تعليق جديد