الانتفاضات العربية والإصلاح الديني

22-07-2011

الانتفاضات العربية والإصلاح الديني

في ظل الحراك الشعبي الاحتجاجي المنتشر على أكثر من جبهة، تبدو النتائج المتوقعة غير واضحة الملامح حتى اللحظة، ورغم أن التحولات الجارية، تاريخية، ومفصلية، لكنها تحتاج بالضرورة الى مرحلة طويلة كي تنضج، وهذا النضوج، يقتضي تدرج العرب نحو الحداثة السياسية، وبناء الدولة الحديثة، بكل ما تعنيه من إقرار بالتعددية واحترام حقوق الانسان. ورغم النشوة التي يشعر بها الكثيرون في ظل ربيع العرب، ثمة معطيات مهمة لا بد من تجاوزها لاستكمال المجال العربي لدورته الحضارية الثالثة، وتأتي في مقدمتها الاصلاح الديني، أسّ الاصلاحات. وإذا حاولنا إجراء مقارنة بين الانتفاضة العربية الراهنة والثورة الفرنسية بصرف النظر عن الشروط والشرخ الزمني، يمكن الكشف عن نقاط مشتركة، الثورة على الاستبداد السلطوي، وانفجار عصر الجماهير. والأهم من ذلك على الصعيد العربي الراهن، يتمثل في الارث الديني، الذي يتطلب صدمة اصلاحية، تبدأ بتفكيك الذهنية الأسطورية، من داخل الدين نفسه، على الطريقة التي رسمها كانط.
في ربيع العرب، المفاجئ، الارث الديني، يحتاج الى التغيير التراكمي، والثورة البنّاءة. وصحيح أن الحركات الاحتجاجية أدت الى سقوط الأنظمة، لكن الموروث الديني والمجتمعي، الكامن في وعي الجماعات، يتطلب طرح عدد من الاشكاليات، فهل اختراق الحداثة المادية قد يساهم في تذرير هذا الموروث؟ وكيف يمكن تفسير حال الترييف التي تجتاح المدن العربية المفتوحة كالقاهرة وبيروت؟ والأهم هل انتقال العرب الى الحداثة يبدأ بتغيير الأنظمة أم بالصدمة الاصلاحية للدين والبنى البطريركية؟ المفارقة اللافتة في الحراك الشعبي، استخدام الجيل الشبابي لتقنيات الحداثة، ولن نطلق أحكاماً اسقاطية، حول مدى تقبل هذه الشريحة للحداثة الثقافية والدينية، لكن يمكن معالجة الفرضية التالية، إذا كانت التكنولوجيا المستخدمة في الانتفاضات المدخل لاحداث أي تحول يخدم الديموقراطية، فإنها لا تكفي وحدها، خصوصاً أن الدمقرطة تتطلب اصلاحاً يبدأ بالقاعدة، وتعني وفق المفهوم المعاصر، ليس اشراك الشرائح الشعبية بالسلطة فقط، لكن تحويلها باتجاه سياقات حداثوية تطال البناء الديني والمجتمعي.
الملاحظ في الحراك الشعبي العربي، تصاعد الاتجاهات الإسلامية السلفية، وقد يقول قائل إن هذا التيار ليس جديداً على الساحة، لكن من الواضح أن الإسلام السلفي، يشعر بخسارة كبيرة، لصالح الحركات الإسلامية التي اختارت العملية السياسية، وهذه الأخيرة، لم تُقدم على مراجعات نقدية جادة تحدد رؤيتها للدين والدولة والغرب، خصوصاً أن هذه الحركات ونعني طبعاً الحركة الاخوانية بكل فروعها، تحتل الصدارة في الحراك الشعبي، بعد أن بنت امبراطورية الرعاية الاجتماعية نتيجة غياب الدولة، والأخطر في ما يتعدى المراجعة النقدية، الجهود التي تبذلها الاتجاهات الإسلامية المتعددة، في إطار أسلمة الفرد والمجتمع، على أمل الوصول الى الهدف السياسي؛ والحال هل يجوز القول بأن الأنظمة الناشئة من رحم الانتفاضات ستؤدي الى خليط بين الاخوان والعسكر في كل من مصر وتونس وربما سورية؟
بعيداً عن السيناريوات المفترضة، يحتاج العرب والمسلمون قبل تحديد خريطة طريقهم المستقبلية صوب الدولة الحديثة، الى إصلاح يطال الديني والمجتمعي، وهذه التوأمة بين التقليد والحداثة المادية لا تكفي وحدها، وهي تتطلب تحديث رؤية الجماعات للمفاهيم المتعلقة بهذين المعطيين، ومن بين هذه المفاهيم القطع مع البعد الميتا تاريخي الذي يكبل وعيها. الإسلام يحتاج الى اصلاح لأنه المدخل الضروري للنهضة العربية، وتقدم فكرة الاصلاح الديني على سواها، مردها هذا الحضور الكثيف للدين في حياة الجماعات، ولا يمكن بالتالي تخطي هذه العقبة إلاّ عبر اصلاح الدين من داخل الدين. ومن المعروف أن أوروبا بعد دخولها هذه المرحلة الانتقالية، حسمت معركتها مع الكنيسة، وهذا ما تعرض ويتعرض له الإسلام منذ فترة طويلة.
وليس المطلوب اقصاء الدين عن الحياة إنما السعي الحثيث لتكييف الدين مع المنظومة المعرفية الحديثة، ما يتطلب قراءة جديدة للنص القرآني، طبقاً للمناهج الحديثة، وقد سبق للعلماء العرب ومن بينهم محمد أركون ونصر حامد أبو زيد ومحمد عابد الجابري زعزعة اليقينيات والدوغمائيات، مع اختلاف التسميات، بين نقد العقل الإسلامي، ونقد العقل العربي. وهؤلاء المفكرين الاستراتيجيين على حد تعبير أحمد بيضون، قدموا طروحات متقدمة على الزمن العربي الراهن، فلماذا فشلت التجارب الإصلاحية في الإسلام؟
لن ندخل في تفاصيل الاجابة عن هذا السؤال التاريخي، فهو يتطلب دراسات علمية، تتخطى هذا المقال، لكن ما يمكن التأكيد عليه في ظل الحراك الثوري العربي، أن الاصلاح الديني جسر العبور لأي انتقال حقيقي نحو الحداثة؛ الى ذلك تعاني المجتمعات العربية من التراجع الحضاري المزمن، لأسباب متداخلة، ومن بينها سيطرة التخلف، وغياب التنمية، وبالتالي قبل تطبيق الديمقراطية لا بد من معالجة الفقر ومحاربة الأمية، ولعل مراقبة الشرائح الشعبية التي شاركت في الانتفاضات العربية، تكشف عن حقائق مهمة، فالطبقة الوسطى لم يكن لها حضور لافت، بل ان من صنع الثورات قدموا من الفئات المهمشة الوافدة من الأرياف، وحتى الشباب، في البداية، لم يكن هاجسهم، إسقاط الأنظمة، بل تأمين الحد الأدنى من حقوق الإنسان، وقد تكون ثورة يناير من أكثر الأمثلة تعبيراً.
ما يحدث في العالم العربي يجب أن يرافقه عملية اصلاحية متعددة الجوانب، تبدأ بالدرجة الأولى بالاصلاح الديني، ولا يكفي إسقاط الطبقة الحاكمة التي تركت وراءها بلداناً مُستنزفة، بل إن أم المعارك لا بد أن تكون عبر اجراء جراحة مؤلمة، تؤدي الى تنظيف الدين من الشوائب والخرافات، ولا شك أن محاربة الوهم الديني أصعب بكثير من محاربة الايديولوجية السياسية.

ريتا فرج

المصدر : السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...