البيان والتبيين في تلوّن زعماء الإخوان المسلمين
وحدِّثْ عن زعماء الإخوان، عانَوْا الذلّ والهوان من حكّام الطغيان، قُتلوا وسُجنوا وتفرّقوا في البلدان، وها هُم اليومَ ذوو هيبة وسلطان: أُبدلوا بالأسر القصر ورفعوا راياتِ النصر، يحكمون المغرب وتونسَ ومصر. لنا أن نقولَ لهم بعض حقائقِهم إن نسوها، ونذكّرَهم ببعض مواقفِهم وإن أنكروها، ونحن إن لم نفعل ذلك ماضياً فلِئلّا يقالَ إنّنا نُظاهر الحاكمَ على المحكوم والجلاّدَ على المعذَّب المظلوم ونتذرعُ «بمحاربة الظلامية» لدعم النظام «المتنوّر» المزعوم.
لنبدأْ بما يزعمون من أنّهم آباءُ المعارضة، وما كانت معارضتُهم إلا عارضة لانشغال شيوخِهم بشتم «الكفَرة البهائية» ونقد «الشيعة الرافضة». ألم يكونوا في مصر يجتمعون بأرباب الجهاز الأمني لاقتسام الدوائر الانتخابية مع أساطين «الحزب الوطني»؟ وفي تونس، ألم يهلّلوا لانقلاب بن علي في ذلك اليومِ الأغبر، يومِ السابع من تشرين الثاني/ نوفمبر، قبل أن يفهموا ألّا فرقَ بين «نوفمبر» و«ديسمبر»؟ كانوا يقودون الملايين ويشاركون في التظاهرات الديموقراطية بالعشرة والعشرين، وما كان حضورُهم إيَّاها حبّاً للديموقراطيين، وإنّما لتجميلِ صورتِهم لدى «الغربيين» من «ملاحدة» و«مشركين».
سيردّون مذكِّرين بقديم مآسيهم وتشريد مناضليهم وتعذيب معتقليهم. التحيّة لمن دافع منهم صادقاً عن الديموقراطية ولم يجعلها مطية لإقامة دولة تكفر بالحريّة، والعرفانُ لهذه الأقليّة التي قاست القهرَ والتهجير والقدحَ والتشهير لحماية حقّ خصومها في التعبير. أما جُلُّهم فلم يجاهدْ لغير ما يعُدُّه قويمَ «الشرع»، أي لإقامة دولة «الحظر» و«المنع»، وفرضِ الحجاب والنقاب والبرقُع، فلم يقف إلى جانب اليساريين وهم يُضطَهَدون لأنّ الدفاعَ عنهم حرام ومصادقتَهم الموتُ الزؤام وإن حتّمت صروفُ الدّهر التظاهرَ معهم بالوئام. من غيرُ زعماء الإخوان ساعد «الرئيس المؤمن» أنور السادات على قمع الاشتراكيين في الجامعات، قبل أن تدورَ عليهم الدائرةُ فيقتسموا مع أعدائِهم المعتقلات؟ من غيرُهم ظاهرَ الديكتاتوريةَ التونسية على «الرفاق» قبل أن يبوءَ مسعى «أسلمة النظام» بالإخفاق ويُشرَّدوا بدورهم؟ يشتمون اليسار على بكرة أبيه بعد أن أصبحوا وزراءَ ورؤساءَ. أتُراهم نسوا أنّ كثيراً من «اليساريين» لم يرفضوا الدفاعَ عنهم بزعم كونهم «وهابيين» و«عملاء» وأنَّهم نصروا المظلومَ أيّاً كان وفكُّوا أسرَ معتقلي الرأي في كلّ مكان، لا فرقَ في ذلك بين الاشتراكيين والإخوان؟ أين كان عصام العريان ينشر مقالاته قبل أن يكتشفَ «تشرذم اليسار»؟ في «الأخبار»! وهل فتحوا جرائدَهم لحمة الهمّامي وسامح نجيب وشكر عبد الغفار؟ ألم يبحّ في مصر صوت كمال خليل مطالباً بإطلاق سراح من سُجن منهم؟ ومَن في تونس غيرُ أستاذةِ الجيل راضية النصراوي ذادَ عنهم؟ من أجار الهاربين منهم في ذلك الزمان وعرّفهم بمنظمات «حقوق الإنسان»؟ اليسارُ أم السلفيّون وغيرُهم من «إخوة الإيمان»؟
ولما جاء يوم الفصل وأرادت الشعوب أن تحسمَ بالجدِّ الهزل بحثت عنهم فلم ترَ لهم في المعركة من نَصْل. في مصر، في الخامس والعشرين من كانون الثاني/ يناير، لم تجد إلا شبابَ الإخوان الثائر، ممن لا يخشون أن تدورَ عليهم الدوائر. أما هم، فكعادتهم حذِروا ولم يغامروا وحسبوا ولم يقامروا وأسرُّوا ولم يجاهروا. ولم يجارُوا قواعدَهم إلا بعد أن انفضح أمرُهم، وحتى وهم يسايرون طوفان الثورة كانوا يخشون أن يغرقَهم. في ميدان التحرير أمروا بـ«فكّ الاعتصام» وشرعوا في مفاوضة «الأزلام» لما قد يكون في ذلك من «رفع لراية الإسلام»، ولولا حزم الثائرين ــ وكثير منهم أبناء «الجماعة» ممن سئموا «السمعَ والطاعة» ــ لما قامت على حسني مبارك الساعة ولواصلوا معه «الحوار» بعد أن سالت من الدماءِ أنهار وكُشفت عن ضعف نظامه الأستار. لولا حزم الثائرين ــ ومنهم شبابُ الإسلاميين، ممَّن رفضوا التدجين وساروا على الدرب ــ لاكتفَوا بالجلوس إلى عمر سليمان لـ«إعادة النظر في نتائج انتخابات البرلمان» عِوضَ الإجهاز على نمرود الزمان (ولما كانوا في ما همْ فيه من عزٍّ الآن).
وقِسْ على حذرِهم خلال الانتفاضة المصرية حذرَهم خلال الانتفاضة التونسية. لم يتحرّكوا إلّا بعد أن خرج من قمقمِه الماردُ الغاضب، وعمَّت أرجاءَ البلاد النقمةُ على الظالم الغاصب ولولا ذلك لقالوا «الله غالب!». لم يركبوا قطارَ الثورة إلا بعد أن سار ليخطفوا ثمرةَ الانتصار ممن جابهوا الرصاصَ بصدر عارٍ. حين كان القمع يحصد شبابَ سيدي بوزيد كان خيارُهم المشاهدة خوفاً، كالعادة، من أن يُتَّهموا بـ«المزايدة». وكان خيارُ اليسار المساندة، بالمشاركة في التظاهرات ودعمِها بأموال النقابات والجمعيات وإسماعِ صوتها في الجرائد والفضائيات.
ثم جاءت الانتخابات ففازوا بها باسم «الحلّ هو الإسلام» (وبتوزيع العدس والأرز على المُعوَزين والأرامل والأيتام)، وعادت حليمة إلى عاداتها القديمة من هوس بالحلال والحرام وشتمٍ «للعلمانيين» في وسائل الإعلام. استمرّ قتلُ الثوار ولم يُنجدُوهم، وتواصل سجنُ الأحرار فلم يسندوهم، واكتفوا بكلام عابث عن «الطرف الثالث»، فقد كان كل همِّهم أن يصبحوا للجنرالات أصدقاء ويتَّقوا شرَّهم بالمدح والإطراء إلى أن يُمَكَّنَ لهم فيصبحوا أمراء. وما إن تمكّنوا حتى امتلأوا غروراً فتبيَّن من أنيابهم ما كان مستوراً، وجُبر من عنجهيّتهم ما كان مكسوراً. أحجموا عن «التغيير» وماطلوا في كسر قيد الثائر الأسير واقتسموا السلطة مع الفلول «فمنا أميرٌ ومنكم أمير». نسوا الشهداء الأبرار ــ ومنهم شهداؤهم ــ وفضّلوا رفقة الأشرار ــ ومنهم جلّادوهم ــ وساروا في موكب أميركا وأحبابها بالطبلة والمزمار. لم يروا حرجاً في مصاحبة قياديي «التجمع» و«الحزب الوطني» بعد أن كانوا ينعتون حكمَهم بالفاجر «الوثني»، وأدّوا فروض الولاء لوليّة نعمتهم، السعودية، فكانت أوّلَ بلد زاره محمد مرسي وحمادي الجبالي طمعاً في دعمها المالي، رغم ما يَعرفان عن ملكيّتها الاستبدادية وتكبيلها مواطنيهما المهاجرين بقيود العبودية (فضلاً عن سعيها إلى الإفراج عن الشرذمة المباركية وإيوائها العصابةَ البنعلية ــ الطرابلسية). وأعطوا هيلاري كلينتون العهودَ بأنّ «التغيير» لن يضرّ بمصالح الرأسمال ولن يمسَّ الاستثمارات وأسواقَ المال، وأنّ العلاقاتِ مع إسرائيل ستبقى على ما هي عليه من حسن حال. واكتشف وزراؤهم أنّ قانونَ الطوارئ «مذكور في القرآن» وما كان مبارك وبن علي بهذه الفتوى يحلمان، وسيكتشفون فيه، لا محالةَ، مشروعيةَ «إعادة النظر في حلّ البرلمان»، فرداءُ الدين فضفاض يفي بكل ما لهم من أغراض، بما فيها تشويه الخصوم والتعرّض للأعراض.
ما إن تمكنوا حتّى تنكَّروا للفقراء. فهؤلاء ليسوا سوى كتلة صمّاء و«عامّة دهماء» تُشترى ذممُهم والأصوات في أيّام الانتخابات. أدانوا في مصر «التظاهرات الفئوية»، وفي تونس أطلقوا النارَ على الشبيبة البوزيدية بعد أن أدركت زيفَ وعودهم الورديّة. واصلوا إغداقَ المال العام على خزائن اللئام وإعطاءَه غيرَ مستحقِّيه من أرباب العمل ــ وبعضهم قَتَلة أبنائهم في «موقعة الجمل» ــ فاطمأنّ الناهبُ على ما نهب وفرح السالبُ بما سلب. وبدل أن يُحسنوا التدبير فيأخذوا من المترَف ليعطوا الفقير أحكموا على المعدَمين الأغلال وتوعدوا العمال بأن تعود عليهم إضراباتهم بالوبال، وبكوا مع الباكين على «عجلة الإنتاج» ونسوا وعدَهم بمساواة سكّان الأكواخ والأبراج في «استيفاء الخراج». وبدل أن يبحثوا عن الأموال عند أصحاب الحلّ والعقد، حزموا أمرَهم على طلب القروض من صندوق النقد، وقال بعضهم ــ مُحرَجاً ــ إن «الضرورات تبيح المحظورات»، وقال بعضهم الآخر ــ غيرَ مُحرَج ــ إنّ هذه القروضَ ليست رباً من المحرّمات، فأين «الاقتصاد الإسلامي» وما يزعمون من «نظريات»؟
هذا حال زعماء الإخوان إلاّ من رحم ربُّك، فليعتبروا بمصير من سبَقَهم إلى القصر قبل أن يُقضى الأمر ويُصبحوا طغاةَ هذا العصر.
ياسين تملالي
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد