التلفزيون الدنماركي «يلاحق» قراصنة الصومال
تحولت عمليات القرصنة في خليج عدن وقبالة الساحل الصومالي إلى مشكلة دولية، تجاوز منفذوها خطفهم السفن الصغيرة إلى ناقلات النفط العملاقة وسفن شحن الأسلحة الثقيلة والمواد الكيماوية الخطرة، معرضين بذلك مصالح دول كثيرة، منها عربية، للخطر ومعها حياة كثيرين من المسافرين والعاملين على هذا الخط الحيوي، الأمر الذي استدعى تحركاً دولياً للحد منها. ومع كل ذلك ظلت الصور التي ينقلها الإعلام عن القراصنة غامضة، حتى وصل المغامر راموس كراث إلى عقر دارهم في بونتلاند الصومالية في مهمة لمصلحة التلفزيون الدنماركي، أعد خلالها برنامجاً كشف فيه حقيقة عملهم وأزاح عنه الكثير من الغموض.
مغامر الرحلات الخطيرة راموس كراث، محترف، ويعرف مواصفات العمل التلفزيوني المقبول عالمياً، لهذا حرص على استكمال كل شروط العمل الوثائقي في «عند قراصنة الصومال»، لدرجة أنسانا فيها السؤال عن هوية من قام بهذه «المغامرة التلفزيونية»، فذهبنا معه في رحلة بدأها من كينيا، على متن طائرة تجارية روسية مهترئة غير خاضعة لقوانين الطيران العالمية، أوصلته إلى العاصمة مقديشو، أولاً، ثم وعبر طريق بري صعب حط رحاله في شمال الصومال حيث معقل القراصنة و«ساحل عملياتهم».
أول درس تعلمه المغامر أن لا قانون في هذه البلاد وأن الميليشيات هي التي تحكمه، ووفق هذا كان عليه تأمين حماية شخصية له، فذهب إلى أحد القادة السياسيين للحصول منه على موافقة رسمية للذهاب إلى منطقة بونتلاند بصحبة بعض رجاله المؤتمنين. قبل بدء الرحلة البرية تجولت كاميرته هناك والتقطت مشاهد للحياة اليومية في العاصمة، حيث الميليشيات المسلحة تتجول بكامل حريتها في شوارع، الفقر أكثر سماتها، فلا ماء نظيفة ولا كهرباء، والتضخم بلغ درجات قياسية حول معه العملة الصومالية إلى ما يشبه ورق صحف. عملات تبادلها بأخرى أجنبية تتم في أسواق الخضار وكمياتها يزنها «المصرفيون» بميزان بدلاً من عدها. فهذا كما قال أحدهم «أمر يطول كثيراً والرجال لا وقت عندهم، فهم موزعون بين القتال في مجاميع أو أكل القات».
أما الفساد الإداري فمنتشر ولا وجود لسلطة حقيقة في البلاد، ولهذا السبب تُرك أكثر من 3 مئة ميل من الساحل الصومالي من دون رقابة حكومية الأمر الذي شجع القراصنة على المضي في عملهم كما قال العسكري عمر واري للدنماركي كراث: «لم يُؤسر قرصان واحد وفق علمي»، فيما أكد له الأدميرال البحري في صوماليلاند عثمان جبريل: «القراصنة لا يخافون لعلمهم أن لا أحد سيقدمهم إلى المحاكم، في ظل غياب حقيقي لرجال الشرطة وحرس السواحل». وأضاف أن «تعاوناً محتملاً بينهم وبين بعض قادة بونتلاند يتم عبر حصولهم على أموال من القراصنة مقابل التستر على أفعالهم».
المعلومات القديمة والجديدة التي حصل عليها المغامر كراث جعلته أكثر حذراً في رحلته اليهم أو في مقابلاته معهم، لهذا رأيناه يركز على أسئلة عامة تتعلق بمشاعر القرصان قبل قيامه بالهجوم أو أخرى تقنية تتعلق بمواصفات الناجح منهم، كما لخصها له عبد الرشيد: «أن يكون سباحاً جيداً ومتمكناً من قيادة قارب بمحرك سريع، تدرب على الصعود الرشيق إلى السفن العملاقة، ويجيد استخدام سلاح أي كي. 47». وعن تفاصيل العمليات قال: «نبدأ هجومنا عندما نرى سفينة، وفي العادة نستخدم قوارب صغيرة مزودة بمحركات سريعة، وحالما نصل إليها نعلق على جانبها سلماً نصعده إلى سطحها بهدوء حذر، ثم نبدأ بالسيطرة عليها لحظة أسر قبطانها في مقصورته ونأمر الآخرين بالاستسلام بعده». أما الأموال التي يستلمونها مقابل الإفراج عن السفينة وركابها فهي كبيرة ويبعثرها القراصنة على متعهم الخاصة، كما يقول عبد الرشيد: «هذه أموال قذرة تذهب لأفعال قذرة، ولعلمك صرفت حوالى 30 ألف دولار خلال يوم واحد من تلك النقود التي حصلت عليها عن آخر عملية».
بحكم ميله للمغامرة ظل كراث ولفترة طويلة مهتماً بتفاصيل عمل القراصنة وطرق مهاجمتهم السفن وحتى لقائه بالقرصان بوياح، الذي يوصف هنا بأنه الأخطر، لم يخرج منه بأكثر مما أعطاه له الآخرون. التحول المهم في الوثائقي «عند قراصنة الصومال» حدث عندما ترك معده كبارهم وذهب إلى الصغار منهم، والذين نصحوه بمقابلة بعض سكان ميناء أيل ليحصل منهم على مبتغاه. ولهذا شكلت مقابلته للصياد أبي بكر نقلة نوعية في البرنامج كله كونه لم يتحدث عن تفاصيل ظاهرة القرصنة بل ذهب إلى دوافعها ومن الذي جعلها على ما هي عليه الآن.
يقول: «كنت صياداً وكانت حركة الميناء جيدة، لكن ومع غياب حرس السواحل عنه وعن سواحلنا كلها، بدأت سفن الصيد العملاقة الآتية من دول غربية بعيدة بالدخول إلى مياهنا الإقليمية لتصطاد بشباكها العملاقة كميات هائلة من أسماكنا، بحيث لم يتبق لنا شيء منها نعيل به عائلاتنا. والأخطر أنها تأتي وهي محملة بمواد سامة، تفرغها في مياهنا. ولهذا أصيب الكثير منا بأمراض خطرة. استغلت سفن الشركات الأجنبية الفوضى فصارت تصطاد وترمي النفايات».
ويضيف: «حاولنا تخويفهم ليبتعدوا عن الساحل ثم ونتيجة لإصرارهم بدأنا بخطف بعضهم، وهذا ما استغله في ما بعد القراصنة الذين اكتشفوا كنزاً من الذهب في عملية خطف البحارة أو ركاب السفن المبحرة بالقرب من الساحل ومقايضة حريتهم بملايين الدولارات. لقد راحوا يلاحقونهم وسفنهم في عمق خليج عدن، وفي ما بعد صاروا يخطفون أي سفينة تمر من هناك ومهما كانت وجهتها».
وبسبب ما ألحقته «قرصنة السفن الغربية» من ضرر التحق كثر بالقراصنة، ومنهم حسين الذي ما زال يميل إلى الصيد والعمل الشريف الذي يتناسب مع قيمه الدينية، لكن ضغط الحاجة وتحطم قارب صيده، إثر اقترابه من سفينة كبيرة، دفعاه إلى العمل كقرصان. وكما قالت فاطمة واها صاحبة محل تجاري صغير في الميناء: «سيطرة القرصنة على الميناء أوقفت أشغالنا، نحن ضدها ومع العمل الشريف الحر، ولكن على الدول مساعدتنا وعدم استغلال وضع الصومال».
بعد هذه التجربة التلفزيونية الخطيرة، عاد المغامر كراث إلى مقديشو وكله رغبة للبقاء فيها بعدما عرف جزءاً من الحقيقة، لكنه وفي أعماقه، كما أعلن صراحة، كان يريد البقاء في صومال مستقر ليس فيه ميليشيات مسلحة ولا قراصنة ولا سفن غربية عملاقة تأتي إلى مياهه لترمي فيها نفاياتها السامة وتسرق أسماك صياديه.
قيس قاسم
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد