الجامعة العربية حصان طروادة
بيان الجامعة العربية الذي يُمهل سوريا 15 يوماً للتفاوض مع المجلس الوطني السوري، هو إنذار من دول الحلف الأطلسي على لسان الجامعة العربية. فهذه الدول هي اليوم بأمسّ الحاجة إلى غطاء الجامعة العربية لأسباب متعددة منها: أ ـ تبرير تدخلها «الإنساني» في المشرق العربي بمثابة تلبية لطلب نجدة منزهة عن المصالح الخاصة. ب ـ تكثيف الضغط على روسيا والصين وباقي دول مجلس الأمن المعارِضة لتوسيع نفوذ الأطلسي. ج ـ توفير غطاء عروبي لحركة دول مجلس التعاون الخليجي، ثم حرية مبادرتها لاحقاً بعد استنفاذ الجامعة العربية. فدول الأطلسي تجد في الحل الأمني الذي توفره لها السلطة السورية على طبق من ذهب، فرصة لا تُعوّض للعمل على توسيع نفوذها ومصالحها في الشرق الأوسط لعلّ هذا التوسع يجدّد شبابها ويخفف من انحدارها. وهي تأمل بقطع الطريق أمام الدول الصاعدة التي تستغل أزمة انحدار دول الأطلسي، للنفاذ نحو تعديل موازين القوى الدولية. وتأمل أيضاً إيقاف الثورات العربية عند حد تغيير السلطات وإعادة تجديد منظومة القهر والإضطهاد نحو حلف «الحرية والديموقراطية» في مواجهة حلف «الإستبداد والشمولية». وفي هذا السياق يمكن لها استعادة مصر وجرّها إلى أولوية الصراع مع إيران بمقدار اهتراء المشرق العربي في الصراع على السلطة الذي يفضي لا محالة إلى احتراب العصبيات. والجامعة العربية هي أداة بين أدوات أخرى في استرتيجيات الأطلسي ومشروعه القديم ـ الجديد وقد باتت بعد ليبيا غير ما قبلها. لقد كانت جامعة للمشترَك بين حكام الدول العربية ضد مصالح شعوبها، وباتت جامعة للمشترَك بين حكام بعض الدول العربية والحلف الأطلسي. كانت تحافظ على شكل «بيت العرب» على الرغم من اهتراء البيت وفساده، لكن الأمين العام السابق السيد عمرو موسى نجح في تحويلها إلى شركة خدمات سياسية. وحيال هذا التحوّل لا حول للسيد نبيل العربي في أمانة الجامعة غير استكمال التحوّل أو الرحيل.
قبيل اندلاع ثورتي تونس ومصر بأشهر، كان الأمين العام السابق لجامعة الدول العربية السيد عمرو موسى يتبختر في مدينة سرت بضيافة «الأخ قائد الثورة» يثني على قيادته الحكيمة. فالقمة العربية التي وصفها الأمين العام «بالقمة المصيرية» أسهبت على لسان أمينها العام في مناطحة السحاب مساراً ومصيراً خلف استراتيجية الأطلسي «للتنمية» وتحت رايته. والتقارير التي قرأها الأمين العام أمام الحفل الكريم حول «حال الأمة وسبُل نهوضها» هي تقارير أطلسية تستند إلى تقارير «التنمية العربية» التي ارتأى السيد وليد جنبلاط أن يهديها إلى السيد حسن نصر الله في لقائهما الأخير. والجامعة العربية هي على قول أمينها العام السابق مراراً جامعة للدول لا جامعة للشعوب، تعمل بناء على ما يتفق عليه حكام هذه الدول وتنأى بنفسها عما يختلفون. لكن الأمين العام السابق أغفل دوماً أن الجامعة تعمل على ما يتفق عليه حكام هذه الدول تحت راية الأطلسي قبل تغطية العدوان الإسرائيلي على لبنان عام 2006. كما أغفل سيادته أن الجامعة تحوّلت أثناء ولايته إلى جيش من الموظفين والمنتفعين يخدم على وجه الخصوص تبعية أرباب النعَم من العرب إلى مصالح دول الأطلسي واستراتيجياتها. فقبل ولايته كانت الجامعة معطّلة بقرار سياسي من حكام الدول العربية لكن منظمات الجامعة ظلّت عروبية تعمل حسب المشترَك بين مصالح الدول العربية. وظلّ بعض الخبراء والباحثين في الجامعة العربية يهتمون بالحدّ من التبعية الإقتصادية والغذائية والتربوية والإجتماعية والسياسية. إنما ألغى سيادته هذا الاهتمام بقرار سياسي أجمع عليه المتنفعون والأزلام وتحوّلت منظمات الجامعة الاقتصادية والتربوية والاجتماعية... إلى منظمات تابعة للمؤسسات الدولية ومنظمات الأطلسي. كما أن بعثات الجامعة في الدول الصناعية كانت تتحمل جزءً من مسؤولية الدفاع عن الحقوق العربية في مواجهة الحركة الصهيونية وقد ظل مكتب الجامعة في باريس على سبيل المثال ندّاً بارزاً زاده رئيس البعثة حمادي الصيد ألقاً وحنكة. و بعدها بات المكتب مثل باقي السفارات العربية يتولى تلبية رغبات عائلات كبار موظفي الجامعة في العلاج والسياحة والتسوٌّق. وليس صحيحاً تبرير الأمين العام السابق بأن حال الجامعة من حال الدول الأعضاء. إنما هي أسوأ من حال اعضائها بعد أن حوّلها عن سابق عمد وإصرار إلى شركة خدمات سياسية. لقد أعمل فيها معول التقريب والتهميش حسب الولاءات الشخصية وحسب قناعاته السياسية الخاصة. فقرّب تلاميذ المؤسسات الدولية والمتشبعين بثقافتها وأبعد كل ما عداهم من خبراء مرموقين وباحثين «متخلفين عن الركب». فسيادته أكثر حماسة من أي حاكم عربي للتبعية إلى استرتيجيات ومصالح دول الحلف الأطلسي. وهو يفيض قناعة بأن «حال الأمة» لا يمكن أن يتغيّر ما لم تفتح الأمة أحضانها وثرواتها للاستثمار الأجنبي والتجارة الحرّة، وما لم يشبع سماسرة الأمة ورجال أعمالها في وضع أياديهم على الثابت والمتحوّل «تمهيداً لحل نهضوي على المدى الأبعد». وهو بخلاف كثيرين غيره، يتمتع بفضيلة المعرفة أن «هذا الحل النهضوي» يستلزم بالضرورة التبعية السياسية إلى دول الحلف الأطلسي والتبعية إلى مصالحها الإقتصادية وإلى استراتيجياتها في مشروع «السلام» مع إسرائيل.
وانحياز الجامعة العربية إلى فريق 14 آذار ضد المقاومة أثناء العدوان الإسرائيلي عام 2006، هو انحياز «مبدئي» في إطار تصوّر الجامعة العربية «لنهضة الأمة» في تبعيتها إلى الأطلسي. إنه خيار سياسي تتبناه الجامعة العربية في مواجهة ما يعيق «عملية السلام» خوفاً على «نهضة الأمة». وفي ليبيا لم تحاول الجامعة نصرة الثوار في البحث عن الحد الأدنى من التوازن بين الأطلسي والمنظمات الإقليمية الأخرى حتى في المساعدة الإنسانية، بل سلّمتهم إلى أيدي أمينة في «التحالف الدولي» ثم ولّت الأدبار. لقد قتلت قوات الأطلسي في ليبيا من المدنيين ما يفوق جرائم القذافي وهدّمت ما يفوق تدميره ولم يكن الكثير من هذا القتل والدمار نتيجة سير المعارك، بل كان متعمّداً أو نتيجة قلّة الحرص على الأرواح والممتلكات. وحيال هذا الأمر لم تشعر الجامعة العربية بتأنيب ضمير أو مسؤولية أخلاقية. فقد تشبّعت إلى ما فوق أذنيها بثقافة التبعية التي تتولاها شركة خدمات سياسية مقابل الأتعاب. وقد تشبّعت بترّهات تدّعي أن الديموقراطية هي انتقال السلطة من الاستبداد الأصغر إلى الاستبداد الأكبر في الحلف الأطلسي ومؤسساته الدولية. ولا يقلقها انتشار كل أصناف المخابرات والشركات الأمنية وعصابات المال والأعمال في ليبيا بحثاً عن مصالح خاصة ومواقع نفوذ تتجاوز الأراضي الليبية. فهي لا تشعر بأدنى واجب لمساعدة الثوار في تنظيف ثورتهم وحملها إلى شاطىء الأمان في محيطها العربي ـ الإسلامي ـ الإفريقي. إنما تتكل على أريحية أتباع الأطلسي الذين تغلغلوا في المجلس الوطني وركبوا على الثورة. وتتكل على حميّة وكرم أخلاق دول الحلف الأطلسي وشركاتها في «إعادة الإعمار». وتطمئن إلى الخطة الأوّلية التي قدّرها خبراء هذه الدول بحوالي 200 مليار دولاراً هي قيمة إنتاج ليبيا من النفط طيلة عشرين سنة. ولا تشعر بأي قلق حيال دول الأطلسي التي لا تضع يدها على النفط والغاز فحسب، بل أيضاً على الصناديق السيادية وعلى عائدات النفط كما وضع القذافي يده. ولا يزعج الجامعة العربية تدفّق «خبراء» الأطلسي ومستشاريه على ليبيا بدعوى إعادة بناء الجيش الوطني وإدارات الدولة ومؤسسات السلطة وتنظيم الإقتصاد والتعليم والصحة والسياسة الخارجية وكل شاردة وواردة. فهي لا ترى ضيراً في هذا الإنتداب ولا تعتقد أن الانتداب يسعّرالإحتراب بين الجهويات والقبائل، والإحتراب الإثني بين البربر والطوارق والعرب. وبين المستفيدين من إنتداب الأطلسي والمتضررين الذين ثاروا على استبداد القذافي من أجل حريتهم وحقوقهم لا من أجل تبديل استبداد أصغر باستبداد أكبر.
الجامعة العربية هي شركة خدمات سياسية «عالقطعَة». فهي تدخل إلى الملعب لتمرير كرة سهلة إلى الأطلسي أمام المرمى ثم تتفرّج مع المتفرجين. والأدهى أنها تعلّق على صدرها نجمة الشريف كلما سجّل الأطلسي هدفه في المرمى العربي. فهي تحاول في سوريا أن تُظهر نفسها شريف الدفاع عن ضحايا القمع والقتل، لكنها تُخفي خلف نجمة الشريف صدراً ممتلئاً بالتبعية يتقصّد تسليم سوريا والمشرق العربي إلى الأطلسي بمعيّة إسرائيل وتركيا. وما على الجامعة العربية أن تختار بين الاستبداد الأصغر والاستبداد الأكبر، إنما عليها أن تقوم بواجباتها وأن تتحمل مسؤولياتها السياسية بمنأى عن الأطلسي بل في مواجهة مشاريعه. وأن تتحمل مسؤولياتها الأخلاقية تجاه ضحايا الإستبداد الأصغر والاستبداد الأكبر على السواء. فمسؤوليتها السياسية والأخلاقية تفرض عليها أن تضع على طاولة البحث الجغرافيا العربية في سلّة واحدة من سوريا إلى اليمن ومن البحرين إلى ليبيا والسعودية والأردن ومصر. فعقلية «القطعَة» هي عقلية عاقر تؤدي لا محالة إلى ما أدّت إليه كل مبادرات الجامعة العربية في تاريخها لأنها تأخذ من طرف لحساب أطراف وتحفّز الطرف المتضرر على تعطيلها. وبخلاف ذلك تؤدي عقلية السلّة الواحدة إلى التسابق بين الأطراف نحو التوازين بين ما يخسرونه في مكان ويربحونه في مكان آخر. ولا تقتصر عقلية «القطعَة» على الجغرافيا السياسية، إنما تطول أيضاً مقاربة الأزمة وسبُل حلولها. فبمجرّد أن تتصور الجامعة العربية أن الأزمة في سوريا هي بين السلطة والمعارضة، تكشف عن انحيازها إلى الأطلسي. وتكشف أيضاً عن دور حصان طروادة في نقل الأطلسي إلى سوريا والمشرق العربي. ولو حرصت الجامعة فعلاً على الضحايا وعلى وظيفتها كمنظمة عربية جامعة لأدركت بداهة أن الضحايا يثورون على منظومة قهر واضطهاد أوسع من استبداد السلطة. وأن هذه المنظومة لا تتغير بوصول معارضة أطلسية الهوى والمصالح إلى السلطة. بل تتغير بتغيير منظومة القهر والإضطهاد على مستوى المنطقة العربية ومن ضمنها سوريا. وفي هذا المسار يتوجب على الجامعة العربية أن تضع على طاولة البحث حماية ضحايا هذه المنظومة في المنطقة العربية ومن ضمنها مسألة الحريات السياسية والمدنية، لا أن تقوم بدور حصان طروادة قطعة قطعة. لكن الجامعة العربية هي جزء لا يتجزأ من منظومة القهر ساهمت بتغذية الفراغ الاستراتيجي والسياسي العربي. كما ساهمت في احتلال دول الأطلسي وإسرائيل هذا الفراغ. وساهمت كذلك في تبعية المجتمعات العربية إلى سياسات الأطلسي والمنظمات الدولية. وباتت أدة من أدوات دول الأطلسي التي تخوض ثورة مضادة من أجل إيقاف الثورة عند تغيير السلطات، وإعادة تجديد منظومة القهر السياسي والاقتصادي ـ الاجتماعي. فهذه المنظومة هي التي تُنتج الاستبداد السياسي والبوليسي حتى إذا وصلت السلطة عبر صناديق الاقتراع.
والسلطة في سوريا متمرّسة في لعبة القط والفأر مع الجامعة العربية ولها طول باع في هواية تفكيك المؤامرات على غرار أسئلة مبسّطة مثل سؤال مَن يمثّل المعارضة وأين يجري الحوار ومن يترأس وفد الجامعة العربية... إلخ. وهي تهوى أيضاً تفكيك مؤامرات الأطلسي ولها في هذه الهواية باع وطويّة. لكنها فوّتت على نفسها فرصة الاستثمار في الثورات العربية لتغيير وجه التاريخ. وفوّتت على نفسها فرصة الاستناد إلى ثوّار سوريا من الشباب وصنّاع الحياة لتغيير منظومة القهر والتبعية وحكم الأجهزة الأمنية في المنطقة العربية. فهواية تفكيك المؤامرات قد تصيب وقد تخيب، ولعبة القط والفأر ملهاة تنتهي أحياناً بمأساة. وقد يكون حصان طروادة هذه المرّة ليس خشباً، فهو باكورة أسطول.
قاسم عز الدين
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد