الحوار في إطار التنوع
قد لا اذكر جديدا ان قلت انه في العام 1998 اصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارا بجعل العام 2001 سنة الأمم المتحدة للحوار بين الحضارات.
وانطلاقا من ذلك القرار، كلف الامين العام في حينه نخبة من كبار المفكرين اعداد تقرير يحمل وجهة نظر الامم المتحدة في الموضوع. صدر التقرير بعنوان "عبور الانقسام" Crossing the Divide وللمصادفة جاء ذلك بعد شهر واحد من احداث ايلول 2001. كان من الطبيعي ان يتضمن التقرير دعوة الى الانخراط في الحوار العابر لكل انواع الحدود، بعد ان اصبح السير فيه اكثر حاجة والحاحا من أي وقت مضى.
بين الامين العام كوفي عنان، في مقدمة التقرير، ان الجماعات التي تفتقد الى فهم الثقافات الاخرى تعيش حالة خوف منها، وتكون اقرب الى اللجوء لأفعال الكراهية والعنف والتدمير ضد عدو "متخيل". اما الذين يتعرفون على ثقافات الآخرين ويتأثرون بها ويدركون كم من قيم عامة تشترك الانسانية بها، وكم من امة تتحد بانسانيتها اكثر مما تنقسم حول هوياتها المنفصلة او دياناتها المتنوعة، فانهم يصبحون اقدر على رؤية التنوع بوصفه قوة فاعلة، ويصبحون اقرب الى الاحتفال به بوصفه نعمة وثروة انسانية، متخطين بذلك الفكر التبسيطي القائل: اما هذا او ذاك. وينتهي التقرير بتجديد التأكيد على ان التنوع معطى، بل هو قانون من قوانين الطبيعة، وبأن المشكلة لا تنبع من واقع التنوع نفسه، بل من عدم القدرة على احترام الفوارق، اكانت بين هوية واخرى او بين روحانية واخرى، وبأن المشكلة تنبع ايضا من عدم القدرة على التسامح ازاء تلك المغايرة وبعدم القدرة على الدخول معا في اطار من تشاطر الحقوق وتكامل الجهود يثري التنوع واطرافه.
اردت من هذه المقدمة الموجزة الاضاءة على مسلمة بينة مفادها ان المسألة التي باتت تقض مضجع المجتمع الانساني في مطلع الالفية الثالثة هي كيفية ادارة التنوع الثقافي والديني، في وقت يجمع فيه العالم على ان التنوع هو الارث المشترك للانسانية، وبأنه حقيقة قائمة لا يمكن تجاهلها او التعامي عنها، وبأن ليس هناك من خيار سوى العيش المشترك في اطر التنوع، والا فعزلة قاتلة تصيب المنكفىء او المحتجب قبل سواه.
كما اردت من هذه المقدمة التنويع بأن الوصفة السحرية التي يتم تداولها في كل المحافل والمنتديات بشأن سبل ادارة التنوع وآلياته باتت تختصر بمقولة "الحوار".
هذا ما ادركه بعمق منذ زمن، القاضي والكاتب عباس الحلبي، فجاء كتابه الذي نحن بصدد مناقشته اليوم لينطلق في كل فقرة وزاوية بمحورية الحوار في اطار تنوع قاتم وقادر على الابداع، وان شدد عليه في الحالة العربية والنموذج اللبناني تحديدا.
"الحوار بين الاديان" كتاب يجمع بين دفتيه خمسة واربعين نصا، ما بين محاضرة ومقال وخاطرة ومناقشة كتاب، اعدها الكاتب ليتناول عبرها مسائل عدة، وليلبي بها مناسبات شتى داخل لبنان وخارجه، الا انه طرح فيها جميعا مسألة التنوع من منظور ايماني وفكري واجتماعي واقتصادي وسياسي، معالجا بواسطتها قضايا العيش المشترك والمواطنة والديموقراطية والمساءلة كما ودولة الحق والعدل مقدما لتحقيقها الحوار نهجا ومسلكا ومخرجا.
يبين الكاتب في اكثر من نص من نصوص اصداره الثري بالأمثلة والوقائع، ان المنطقة العربية ولبنان الراسخين في القدم لطالما تميزا بالتنوع ولطالما كان الحوار قائما في معظم محطات تاريخهما السحيق، فحيث يوجد التنوع يصبح الحوار حاجة لادراك المشترك وتعيين المختلف. والتنوع الابرز الذي يدل عليه الكاتب هو التنوع الديني والطائفي، والحوار المنتج الذي يشير اليه هو حوار الحياة وليس العقيدة الدينية. ويزعم الكاتب ان الديانات التوحيدية الثلاث التي عاشت آلاف السنين على هذه البقعة من الارض قد ادخلت كل منها جزءا من ثقافة الآخر في صلب ايمانها، على قاعدة ان الجوهر واحد. وبهكذا تفسير لا يرى الكاتب الاديان مسؤولة عن التوتر داخل مجتمعاتها وبين تلك المجتمعات وغيرها، بل هي تزج في اسباب التوتر حيث يستغل الدين في السياسة في ما بات يعرف بالطائفية السياسية.
لا يدّعي الكاتب ان العلاقات الاسلامية المسيحية في العالم العربي هي بمنأى عن المواجهات الجارية في العالم. وهذا ما يقوده الى القول بالحاجة الى دراسة معمقة حول اثر تنامي التيارات المتطرفة على العلاقات المسيحية الاسلامية والى المناداة بالحاجة الى اكتشاف خلفية وابعاد الاصولية الدينية النافذة، لافتا الى ان الاكتشاف المطلوب لا يتم بواسطة مظاهر الاصولية وعبر اخصامها، بل من خلال سماع وجهة نظرها ومناقشتها بهدوء العالم، وادراك المؤمن، ووعي السياسي، منبها الى ان ما يحلو للبعض تسميته يقظة او صحوة دينية اسلامية في سياق منطق تبريري ما هو الا نزعة اصولية تتوسل الدين لغايات اخرى، موضحا بالرغم من ذلك ان معالجة هذه الاخيرة لا تكون بالكبت والتضييق وخنق الحريات، بل بالحوار والمصالحة واحترام الاديان وبنشر الديموقراطية وسيادة القانون وباعادة التفكير في ازمة العقل العربي والعقل الاسلامي، مبينا الحاجة الى ارساء العلاقات الاسلامية المسيحية في العالم العربي على قواعد صلبة لدرء الفتن، فيبقى الدين في دائرة الايمان الشخصي لا مشروعاً سياسيا يطيح بمكتسبات العيش المشترك والشراكة الوطنية.
واذ يعلي الكاتب من شأن الحوار، فانه يبادر الى توضيح معناه وتسليط الضوء على ادبياته والبعد الاخلاقي والقيمي فيه. يرى ان الحوار يقوم على ما يختلف عليه الناس، واذ يتأثر الحوار بمجموعة القائمين فانه لا شك مؤثر فيهم ايضا، لما يفترض ان يتوافر فيه من تفكير نقدي ومن فتح للابواب المغلقة، وكشف لمكنونات الذات والوقوف على حقيقة المشاعر والافكار والقناعات، تمهيدا لمعرفة الآخر وفهمه وتقبله في اختلافه وخلق دينامية تفاعل معه. فالحوار في تعريف الاستاذ الحلبي ليس مساومة وتسوية وتنازلات من منظور ميزان القوى، بل هو سعي الى التعرف والتعارف المتبادل، كمقدمة للتفاهم والتعاون على اسس من حرية الرأي والمعتقد ومن ضمن الاخلاقيات الانسانية المناقضة للنبذ والالغاء والاستقواء. وفي تعريف كهذا، يزيل الكاتب ما يسميه الالتباس الذي بات يحيط بتعبير الحوار لكثرة ما تناوله السياسيون والعامة، بعيدا عن موجباته والقواعد القيمية التي يرتكز عليها.
واذ هو صحيح ان الحوار يمثل للكاتب قيمة بذاته، الا انه يرى فيه في الوقت عينه ضرورة لتحقيق العيش المشترك ولخلق الهوية الوطنية المتماسكة في اطار يتسم بالتنوع. فهو يؤسس لموجبات المواطنة، في ما تعنيه من تقديم للمصلحة العامة على الخاصة، وفي ما تترجمه من مدى وعي الفرد بكونه عضوا فاعلا واصيلا في بلاده، وفي ما تثبته من احقية وقوفه جنبا الى جنب مع سائر ابناء وطنه، مساو لهم في الحقوق والواجبات، محررا واياهم من الاستقطاب الفئوي والطائفي والمذهبي ومما يستتبعه ذلك الاستقطاب من استقواء وغلبة وهيمنة. والمواطنة في تقديره لا تأخذ مداها ان لم تكن فعل ممارسة على مستوى العلاقة مع الآخر في شتى الدوائر والحلقات وعلى جميع المستويات في اطار ديموقراطي منفتح.
وبعيدا عن العموميات يقرب الكاتب المفاهيم الى صورة الواقع، فيتحدث عن الصورة المشوهة للمسلم وللعربي كما هي متداولة في الغرب والتي سعى، بصفته رئيسا للفريق العربي للحوار وخلال زيارات الفريق الى الولايات المتحدة ان يعمل على تصحيحها وعلى توضيح معالمها وعلى اعادة الثقة المهتزة بين العالم العربي والغربي، واعطاء شهادات عن حقيقة العيش المشترك بين المسلمين والمسيحيين في هذه المنطقة من العالم وفي لبنان تحديدا. وان هو يصف نتائجها بكثير من الرضى، نجده يتحدث بألم عن الغياب العربي والاسلامي وعن تأخره في ادانة الارهاب وعن عدم مخاطبة الغرب بعقلانية الحوار، سيما اولئك المتعطشين للوقوف على حقيقة الاسلام، مدركا رغم ذلك مدى صعوبة ان يحاول المسلم توضيح حقيقة موقعه في طل الهمجية الشرسة التي تشن ضده لاظهاره في صورة همجية ودموية، وواعيا في الوقت عينه ان معالجة الامور لا تكون بالتنديد بل بسلوك طريق المعالجة لوقف مظاهر العنف. فالاسلام دين السلام، وهو مدعو لتجديد خطابه للتمييز بين التدين والتطرف وللتفريق بين التأصيل الديني والاصولية التي تقوم على الغلو والتعصب.
سلوى السنيورة بعاصيري
المصدر: النهار
إضافة تعليق جديد