السلفيون متهمون: ظلاميون ولكن [1/2]
أن تقول سلفياً في الإعلام، فذلك يعني أنّ المتلقين سيستحضرون صورة ملتحٍ يستلُّ سيفاً يتهيّأ به ليضرب عنق أحدهم أو ليذبح آخر. أن تقول سلفياً في مجتمع غير إسلامي، فإنّك تستحضر إلى أذهان أبنائه تفجيرات انتحارية وأعمالاً إرهابية ورعب الإبادة المحدقة بهم. أن تقول سلفياً حتى في الأوساط الإسلامية نفسها، فإنك تستدرجهم بذلك إلى التعبير عن مفاهيم خاطئة تطغى فيها السلبية المفرطة والمتطرفة على الوسطية الواقعية. «جهاديون متطرفون قتلة وقاطعو رؤوس وأدوات قتل. بشرٌ لا يُشبهون البشر»، كلّها أوصاف ومفاهيم نمطية زرعها مشتبهٌ فيهما اثنان في المخيلة الجماعية للمشاهدين: الإعلام والسلفيون أنفسهم.
في طرابلس، يتركز الوجود السلفي في منطقة أبي سمراء. يعيش هؤلاء جنباً إلى جنب. تنقسم المنطقة هنا إلى أحياء، يبرز فيها الحضور السلفي طاغياً. يمكنك ملاحظة ذلك من عدد المنقبات والرجال أصحاب اللحى. ويظهر تكاتف هؤلاء في ما بينهم جلياً: تجمعات وأحياء وسيارات رباعية الدفع. هنا التقت «الأخبار» شيخاً سلفياً جاره شيعي من آل الموسوي. يُصلّي الاثنان معاً في المسجد المجاور للمبنى الذي يقطنان فيه. مشهد الصلاة الذي يجمعهما يكاد يكون سوريالياً. السلفي يرفع سبّابته بعد السجود، فيما يضم الشيعي كفّيه ويرفعهما إلى الأعلى في وضعية القنوط. وهكذا يتجاور الاثنان بشكلٍ قد يبدو للوهلة الأولى أنه «إعلانٌ يدعو إلى الوحدة الإسلامية». الجولة في مناطق الشمال تكشف لك بعضاً من واقع السلفية هناك. تُضيّع البوصلة للوهلة الأولى، لكنك لا تلبث أن تجدها. تطرد أفكار الإرهاب التي تراودك بين الحين والآخر. وتغوص في التفاصيل فتختفي سوداوية النظرة، باستثناء ما خفي من بعض بذورها التي تستمر تلحظها أو تشعر بها. تقرر أن تطرد الأحكام المسبقة مستنداً إلى معيار تراه معتمداً بالنسبة إلى كثيرين هنا، وخصوصاً عندما يتعلّق الأمر بالحكم وفقاً لـ«الممارسة الميدانية». انطلاقاً من ذلك، يُصنّف أصحاب اللحى هنا إلى ثلاث فئات: السلفيون المُرتزقة، السلفيون المنفتحون والسلفيون المتطرفون. الفئة الأولى لا تمتّ إلى السلفية بصلة، ما خلا الهيئة الخارجية. قالبٌ من دون جوهر. هكذا يوصفون، فيكيل علماء السلفية الاتهامات لهذه «الفئة الضالّة». يكشفون أنّ بالإمكان تمييزهم من «الأوشام التي تملأ أجسادهم». ويذكرون أيضاً أنّ هناك علامة فارقة أخرى تتجلى في «الألفاظ النابية التي لا يرتدعون عن الجهر بها علانية»، فضلاً عن ارتباطهم بـ«جهات أمنية وسياسية تُحرّكهم». هكذا يرون أنّ «ورقة المئة دولار تصبح بوصلة يميل معها أصحاب اللحى المزيفة أينما تميل». لا يُشبه السلفيون المرتزقة أحداً، بل لا تجوز المقارنة هنا أصلاً. خلاصة يتفق عليها بعض مشايخ السلفية. وخاتمة تفتح على ما بعدها؛ إذ تبعاً للتصنيفات المذكورة، ينقسم السلفيون فعلياً إلى «منفتحين ومتطرفين». كلتا الفئتين قلّة، لكن تكاتفهما يجعل منهما كتلةً صلبة يصعب اختراقها. التصنيف الذي يوافق عليه السلفيون أنفسهم يلقى إجماعاً في أوساط غير المتدينين. يحكي هؤلاء عن إيجابيات أسهم فيها السلفيون في المجتمع الطرابلسي، فيذكر البعض أنهم «أسهموا في جمع الشباب التائه وانتشلوه من إدمان المخدرات وغيرها». الحسنة هذه لا يلبث أن يراها آخر سيئة، مشيراً إلى أن «الغاية من الاستقطاب تحويل طاقات هؤلاء الشباب إلى خدمة أهداف المجموعات السلفية التي قد لا تصبّ في مصلحة الوطن». كذلك يحكي هؤلاء عن تنظيم قلّ نظيره مقارنة بباقي التنظيمات والمجموعات، لكنهم في الوقت نفسه يتذمّرون من ممارسات يرتكبها أصحاب اللحى في حق أبناء الطوائف الأخرى. يستنكر أحد الشبّان قيام السلفيين بإحراق متجر لبيع الخضار يملكه علوي في منطقة أبي سمراء؛ إذ إنّ «الأخير موجود في المنطقة منذ أكثر من عشرين سنة، ولا دخل له بالسياسة». يُعدد الشاب المذكور عشرات الحالات المشابهة. يوافقه في الرأي شبّان سلفيون ينأون بأنفسهم عن تلك الممارسات، فيصفون أنفسهم بـ«سلفية الانفتاح وقبول الآخر». يُرشد أحدهم إلى «شيخ سلفي تولى الدفاع عن جاره العلوي في وجه شبّان سلفيين أرادوا إحراق متجره». هنا للعملة الواحدة وجهان أيضاً. سلفية مظلمة وأخرى مضيئة، ينقسم حيال نموها المجتمع الشمالي. فتستعيد الأذهان بدايات تنظيم حزب الله. يكاد الصراع الدائر هنا يماثل الصراع نفسه الذي خاضه التنظيم الوليد في ثمانينيات القرن الماضي في مواجهة أشقائه في الطائفة نفسها، حركة أمل.
في أبو سمرا أيضاً، يجهد السلفيون لتلميع صورتهم، وتحديداً أولئك الذي يحملون همّ الطائفة، وربما، المستاؤون من تصرفات أتباع الوجه المظلم للسلفية. يُبدي هؤلاء بشاشة زائدة، فيتسابقون في خطب ود الجيران. يختلطون مع جميع الفئات دونما استثناء، هادفين إلى أن يكونوا دعاة لمنهجهم بالألسنة وغيرها. تؤرق السلفيين هنا نظرة قاتمة إلى المستقبل؛ إذ تروج شائعة مفادها أن «السلفيين يُسمّنون إعلامياً تمهيداً لذبحهم». وفي سياق النبذ الذي يعانونه، يروي أحدهم حوادث يتعرّضون لها دوماً لدى خروجهم من منطقتهم. يتحدث شاب سلفي عن أكثر من موقف أبدى له فيه أبناء الطوائف الأخرى أنه غير مرغوب فيه بينهم. ليس هذا فحسب، بل يتحدث الشاب عن «اشمئزاز» يُظهره له الآخرون بشأن لحيته الطليقة، يدفعهم إلى التمييز في معاملته.
يرى هؤلاء أن التركيز على الجانب المظلم في الممارسات المنسوبة إلى السلفيين الجهاديين، حقيقية كانت أو مفبركة، أسهم في إذكاء حال النفور من أصحاب اللحى والشوارب المحفوفة، وخلقت صورة نمطية ربطت بينهم وبين الإرهاب وأعمال القتل والإجرام. وأسهم انعزال متّبعي المنهج السلفي ضمن مجتمعاتهم في مفاقمة هذا النفور. وزاد الوضع سوءاً، ابتعاد مشايخ السلفية عن الإعلام، نتيجة تبادل النظرة السلبية المسبقة بين الطرفين. وبالتالي، تُركت الساحة خالية أمام منتحلي صفة السلفيين لغايات مادية ومعنوية، فزادوا الطين بِلّة. هكذا بات السلفيون، دائماً وأبداً، في دائرة الشبهة والاتهام حتى إشعارٍ آخر. وطغت صورة السلفي السيئ على الجيد، فلم يعد يلتفت الآخر، أي المتلقي السلبي، إلى أنّ بين هؤلاء أباً يشقى لإعالة أبنائه ووالدة تكافح لتربية أولادها وتعمل لإعالة زوجها. لم يعد هناك، بنظر الجمهور، وجود لشباب لديهم هوايات. يألمون ويعشقون، لا بل إن بعضهم قد يستمع إلى الموسيقى سرّاً ويحفظ أسماء مقطوعاتها حتى. هكذا بات السلفي مرادفاً لـ«مصدر قلق لجيرانه وأهله حتى». رجلٌ يُعتقد أنه يسير مرتدياً حزاماً ناسفاً لن يتوانى عن تفجيره وسط حشود الأبرياء. ترافق ذلك مع تورّط عدد من السلفيين الذين يحملون الفكر الجهادي في بعض التفجيرات التي طاولت عدداً من المرافق العسكرية. فصدف أن كان هؤلاء من أبناء الشمال اللبناني. وهكذا أصبحت القاعدة كالآتي: «أن تقول سلفياً، ذلك يعني أن الأنظار ستتجه تلقائياً إلى الشمال اللبناني». ورغم أن السلفية موجودة في كل لبنان، وينتشر متّبعوها في بيروت وخلدة وصيدا وإقليم الخروب والعرقوب والبقاع وغيرها من المناطق، إلا أنّ طرابلس باتت تُتّهم دوماً بأنّها معقل للسلفية والأصولية. «قلعة المسلمين» ترفض التهمة. وكذلك يفعل سلفيوها أيضاً. ولا يجد الاثنان ضيراً في تهمة يعتبرونها مفخرة في جوهرها، لكنهما يرفضان أن تُسبغ عليهم وفقاً للمفهوم الإعلامي السائد. والحقيقة أن عاصمة الشمال التي خرج منها رائد السلفية الشيخ سالم الشهّال ليست سلفية الهوى كما تُصوّر. فالسلفيون فيها هم الأقلية. ويمكن أياً كان أن يلاحظ ذلك، سواء بالعين المجرّدة لدى زيارته المدينة ومحيطها أو بإطلاعه على نتائج الانتخابات أو استطلاعات الرأي التي تُظهر أنّ حجمهم لا يزيد على خمسة في المئة في أفضل التقديرات، علماً بأن السلفيين لا يشاركون في الانتخابات النيابية أصلاً لأسبابٍ دينية، باستثناء بعض السوابق، أبرزها ما سجّله سلفيون في انتخابات 2009 بعد فتوى أصدرتها جمعية «وقف التراث الإسلامي» التي يرأسها الشيخ صفوان الزعبي بجواز المشاركة تصويتاً وترشّحاً.
غداً: حسام الصباغ... الشبح يطوف في طرابلس
نصرة وجهاد
يفتقد السلفيون القيادة الموحّدة؛ إذ لا وجود لشخصية محورية يدور في فلكها متتبعو المنهج السلفي. فما يراه كُثر دليل ضعف، يجده السلفيون دليل عافية. هكذا ينطلق مشايخ السلفية من التنوّع الذي تشهده ساحتهم، ليُعبّروا عن هدف استراتيجي جوهره «إقامة دولة الإسلام». بعيداً عن التنظير، يؤكد السلفيون أن تفرّقهم لا ينسحب على الموقف من الأزمة السورية. فهناك إجماعٌ في الأوساط السلفية على الوقوف ضد النظام. ولا يتوقف السلفيون عن العمل ليل نهار لإنجاح «ثورة المسلمين المظلومين في سوريا». ينطلق هؤلاء من دافع ديني يعتبر «نصرة الشعب في سوريا فرض عينٍ»، فتنقسم مساراتهم إلى اثنين: سلفي داعم للنازحين في المأكل والمسكن والملبس، وسلفي آخر «يُعدّ ما استطاع إليه سبيلاً من سلاح ومقاتلين يُرسلهم للقتال في سوريا».
رضوان مرتضى
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد