الشاعر الشهيد كمال خير بك في ذكراه الـ26
تثير حياة كمال خير بك الكثير من الدهشة عند المهتمين بالحركة الأدبية والسياسية على حد سواء، فصاحب الكتاب النقدي الشهير «حركة الحداثة في الشعر العربي المعاصر» ترك العديد من المجموعات الشعرية والمقالات التي طبع معظمها بعد استشهاده في بيروت عام 1980، إضافة إلى شهرته الكبيرة في مجال العمل الفدائي المقاوم ضد «اسرائيل» حيث لم يكن أقل شأناً من أدائه النقدي والشعري، وهي ميزة استرعت دائماً انتباه النقاد والمتابعين لمسيرته المليئة بالأحداث الكبيرة والتقلبات.
بدءاً من «مظاهرات صاخبة للجنون» الى «دفتر الغياب» و«وداعاً أيها الشعر» و«البركان». استطاع كمال خير بك أن يترك شيئاً من روحه على صعيد تجربة الكتابة الشعرية الحديثة، وقد نال شهادة الدكتوراه في الأدب من جامعة جنيف عبر أطروحته النقدية عن الشعر العربي المعاصر التي أصبحت مرجعاً هاماً للنقاد والباحثين المهتمين بحركة الحداثة بشكل عام.
تعد أطروحة الدكتوراه التي قدمها الشاعر كمال خير بك الى جامعة جنيف، مرجعاً نقدياً وفكرياً هاماً يواكب حركة الحداثة في الشعر العربي في الاطار الاجتماعي الثقافي للاتجاهات والبنى الأدبية السائدة، بدءاً من شعر بدر شاكر السياب وبدايات الشعر الحديث في العراق الى تطور الحداثة وتوجهاتها في تجمع شعر في لبنان، وذلك عبر قراءة تاريخية للأسئلة الخطيرة في حياة العالم العربي وأهمها طبيعة العلاقة مع التراث والذاكرة حيث سيكون لهذه الاجابة الدور الكبير في رسم ملامح الحياة القادمة إن كان على صعيد الأدب والثقافة أو سواها من الاتجاهات الأخرى في المجتمع. وحيال ذلك يقول خير بك:
«إذا كان تحرير الحاضر من عبودية الماضي يطرح نفسه كمهمة أساسية على أجيالنا، فإن هذا لايعني عدم الدخول في علائق ديالكتيكية مثمرة مع الحقول المشعة من هذا الماضي» ويشير الى تيارين تقدميين بقيا مطمورين تحت الوجه المغطى للتراث وهما العقلانية الفلسفية والذاتية الصوفية، حيث كان ممكناً لهما أن يشكلا قطبي جدل ثري من الناحيتين المادية والروحية، ومصدرين أساسيين لتركيبة تضمن في آن معاً المبادرة الانسانية ومعناها التاريخ وغائيته.
ويرى خير بك أن الصراع بين النية في تجديد الحياة والمقاومة التي تبديها نزعة الخصوصية يقود النشاط الثقافي في العالم العربي على طريق مضللة وتغريبية فنزعات التجديد تطالب بالابدال الكلي للمجتمع والنزعة المقاومة لاتدافع إلا عما هو سلفي وخانق ومفروض عبر قرون من الركود والاستعباد، وأنه في ظل غياب التمثل الحقيقي لجوهر تراثنا وتراث الغرب فان هذه المناظرة حصرت المشكلة في مجرد صراع بين الصيغ والأشكال.
في هذا الاطار يقرأ كمال خير بك ولادة الشعر العربي الحديث وتوجهاته وبناه، ويعتبر أن تجارب الشعراء الرومانطيقيين أو الرمزيين تعد العتبات الأولى للدخول الى حركة الحداثة. ومن ثم فإن تجربة نازك الملائكة والسياب والبياتي هي المرحلة الأكثر خطورة وحسماً إذ قدمت نفسها كقفزة نوعية في سياق التجديد الشكلي وفجرت الأوزان والبنى العضوية للقصيدة العربية، لكن هذه العملية ستتضح أكثر في تجربة تجمع «شعر» كمسيرة للفكر ومقاومة العالم وكيفية رؤيته وتمثله وكذلك وسيلة هدمه وإعادة بنائه..!
يرى خير بك أن هناك مرحلة ثانية في تجمع شعر يمكن تسميتها «مرحلة التعمق» وهي التي تلت مرحلة التأسيس وصدور بيان يوسف الخال الشهير حول هذه الحركة وفيها اقتصرت اجتماعات خميس شعر على الأعضاء بغية تعميق النقاشات وبلورتها لتشمل القضايا الفلسفية الأخيرة للشعر حيث ظهر أدونيس كمنظر أكثر عمقاً لهذه الحركة إضافة الى جبرا ابراهيم جبرا وأسعد رزوق وخالد سعيد، ويمكن متابعة المقالات والكتب النقدية في تلك المرحلة من خلال كتاب «البحث عن الجذور» لخالدة سعيد و« الشعر في معركة الوجود» لعدد من النقاد.
ورغم أن هناك بعض التباينات النقدية في الآراء بين أعضاء الحركة إلا أنه يمكننا الحديث عن ناظم واحد جمعهم في الأساسيات التي تبدأ من إدانة القصيدة التقليدية الوصفية أو المشهد من أجل إفساح المجال للقصيدة الرؤيا أو الخلق.
وفي هذا الاطار يلحظ خير بك مسألة الموقف من التراث والتباين في مفهوم ومعنى هذه الكلمة تبعاً للأساس الايديولوجي عند الشاعر أو الناقد إلا أن يوسف الخال كان واضحاً في طموحه من أجل تحقيق «ثورة حقيقية» و اقتياد العالم العربي نحو الخلاص بحيث لاتكون تلك الحركة انفصالية بل نابعة من صميم الشعر العربي وترفض أي انقطاع مع الماضي.
يشير خير بك الى الأزمة التي أحدقت بتجربة مجلة شعر عام 1963 مع العدد السابع والعشرين حيث اختفى اسم أدونيس من عضوية لجنة التحرير، وألمحت افتتاحية أنسي الحاج الى الصعوبات التي اصطدم بها التجمع كاللغة، والانتماء الثقافي، والابداع، والخارج وقلق الحاضر أمام الماضي والمستقبل.
دون أن يعني هذا الموت المفاجئ لمجلة شعر وصدور العدد الأخير منها، توقفاً في عملية الكتابة الجديدة والبحث المستمر عند أعضائها عن مفاهيم التخطي والمستقبلية وإن كان بشكل نسبي بينهم.
يدرس خيربك في كتابه تحويل اللغة الشعرية والقاموس الجديد وأيضاً الجملة الشعرية ومسألة الغموض في الشعر الحديث، ويفرد قسماً للبنى الايقاعية وتطور العروض العربية حتى الحركة الحديثة، حيث يبدو السؤال مطروحاً بشكل دائم حول مايعنيه الانسلاخ عن الجذور الاجتماعية والثقافية وما يتطلبه السياق الثوري لحركة التجديد، وهل ان الشاعر الذي يرفض أن يمتثل إلى تراثه الخاص، قادر على القبول بامتثالية جديدة؟.
الجدير ذكره أن جمع العديد من آثاره الشعرية وإعادة طباعتها تم على يد عدد من أصدقائه إثر رحيله المفاجئ ،وقد صدرت له أربع مجموعات شعرية إضافة الى كتابه النقدي عن الحداثة الذي نال بموجبه شهادة الدكتوراه في الأدب.
زيد قطريب
المصدر: تشرين
إضافة تعليق جديد