الفرصة اللبنانية الضائعة في القمة العربية
بضربة واحدة، استطاعت سوريا أن تستعيد صورتها «الطبيعية» ودورها العربي غير القابل للحذف، بالموقف المسؤول لقيادتها، وبالترحيب الحار من شعبها، في استضافة القمة العربية العشرين وفي توفير الشروط الضرورية لنجاحها، ثم في التصرف الرصين في إعلان هذا النجاح.
لعلها أول قمة عربية يسبقها هذا القدر من التوتر: حرب أميركية معلنة، وبتعليمات أبلغت إلى العديد من القادة العرب بضرورة مقاطعتها، استنكاف دولتين عربيتين كبيرتين ومؤثرتين عن الحضور بمواكبة حملة إعلامية شرسة (مصرية أساساً) لم يكن لها ما يبررها غير محاولة تبرير غياب غير مبرر...
ثم هناك «الأزمة اللبنانية» التي كان الظن أنها ستستخدم بمثابة «مفجّر القمة»، وخصوصاً أن المخاصمين الكثر صوّروا دمشق وكأنها وحدها تملك مفاتيح الحل، متناسين المواقف الأميركية اليومية المحرضة على الانشقاق والتفرد بالسلطة، والمواقف العربية الموازية بل المكملة والتي دأبت على التنصل من المسؤولية الجماعية عن حل هذه الأزمة الخطيرة لتحصرها بالموقف السوري... وكأن دمشق ما تزال «سلطة الوصاية» في بيروت.
ولعل ما أثار «دهشة» الجميع، لا سيما القلة من اللبنانيين الذين واكبوا القمة من دمشق ذاتها، هو ذلك «التجاهل» العربي العام للأزمة اللبنانية وتداعياتها المحتملة، وهي خطيرة بالتأكيد... ولم يكن ثمة من تفسير لهذا التجاهل إلا بالحرص على نجاح القمة من جهة، ثم بالافتراض أن سوريا ومن موقع رئيس القمة لا بد أن تساعد ـ أكثر ـ على «تمرير» الحل الذي يتصرف الجميع الآن على أن الإدراة الأميركية هي التي عملت وتعمل على منع إنجازه.
وبرغم أن مشهد المقعد اللبناني الفارغ في القمة كان «مستفزاً»، وكان إعلاناً مدوياً عن الأزمة في بيروت، والمرشحة لأن تصير مشكلة عربية متفجرة إذا ما تم ربطها بالوضع الفظيع بدمويته في العراق تحت الاحتلال الأميركي وفي فلسطين تحت «المحرقة» الإسرائيلية، إلا أن القادة العرب المشاركين في القمة لم ينتبهوا إليه، ولم يتوقفوا ليسألوا عن سبب شغوره، ولا أظهروا اللهفة على استعادة لبنان، برغم كل ما يظهرونه في تصريحاتهم من «اهتمام» بحل الأزمة، وبعودة لبنان ـ برئيسه المسيحي ـ إلى صفوفهم ليكون شهادة جدارة لهم...
ومن أسف فإن رسالة الرئيس فؤاد السنيورة إلى القمة العربية في دمشق لم تستقبل بالاستحسان، بل إن كثيراً من القادة كما من أعضاء وفودهم رأوا فيها استفزازاً مجانياً ليس لدمشق وحدها، بل للقمة بكل من فيها من المسؤولين العرب المؤكد تعاطفهم مع شعب لبنان.
لقد رأى بعضهم أن الرئيس السنيورة قد تحدث بلهجة «المحارب»، وليس «المتظلم»، وأنه قد طعن في القمة وأهليتها، حتى وهو يتوجه إليها، وبدا لهم وكأنه يضع شروطاً عليهم، بل وكأنه يمتحنهم في عروبتهم، ويتحدى دمشق مستقوياً بالغائبين عن القمة على حساب الحاضرين الذين مهما كان تقديرهم للغائبين فليسوا على استعداد لأن يتقبّلوا «التهميش» والطعن في أهليتهم للتعامل مع مسألة بمثل هذه الخطورة.
بل إن واحداً من المشاركين قال بأعلى صوته: «طالما أن السنيورة يريد «الحرب» فلماذا لم يأت ليواجه السوريين بمسؤولياتهم عن لبنان وفيه، إن كانوا هم المسؤولين، مستفيداً من تعاطفنا ـ مبدئياً ـ مع لبنان؟ إنه لو جاء لكان حظي بتكريم القيادة السورية، ولاستقبلناه استقبالاً لائقاً، ولكان لبنان صار موضوعنا الأول... أما أن يقول لنا فؤاد السنيورة «اذهبوا أنتم وربكم فقاتلوا» بينما هو معتصم في مقره ببيروت، لأمر لا نفهمه، إلا إذا استحضرنا «الخارج» البعيد، فهذا أمر لا يقبله عقل ولا يقره منطق! هل هو صاحب القضية أم نحن؟ كنا مستعدين لأن نسمعه ولأن نظهر تعاطفنا مع لبنان، وكانت القيادة السورية التي دعته محرجة، كما يقال، مضطرة لأن ترحب بمشاركته، وربما لأن «تعطيه» أكثر مما يتوقع! باختصار لقد ضيّع فؤاد السنيورة فرصة لا تتكرر، وكنا نفترض أنه «أذكى» من أن يضيّع هذه الفرصة مقابل «خطاب عنتري» لن يزيد من قدره عندنا نحن العرب الـــذي لبينا دعوة دمشق وجئناها مسبوقين بحرصنا على استمرار هذه المؤسسة اليتيمة، القمة، على قيد الحياة».
وقال رئيس لدولة عربية كبرى: «لقد خرجت القيادة السورية من القمة أكثر قوة من أي يوم مضى. وهي قد تصرفت بالكثير من الحكمة واللياقة، وكان استقبالها حاراً بحيث أعاد إلينا دمشق التي نحفظ لها الألقاب المهيبة وأهمها «شام الله في ملكه»، فضلاً عن الشعار الأثير على قلوب الســوريين «قلب العــروبة النابض»... لقد عدنا إلى دمشــق وعادت إلينا، ولا أقول استــعدناها».
أما ذلك المسؤول العربي الذي اشتهر بأنه يحترف «اللعب بالبيضة والحجر»، فقد قال وهو يشير إلى وزير خارجية الجمهورية الإسلامية في إيران الذي كان يجلس في مقاعد الضيوف: «إن وجودنا هنا ينفي أسطورة أن سوريا قد صارت «مستعمرة إيرانية»! في أي حال، إن من يطلق مثل هذا الاتهام لا يسيء إلى سوريا وحدها، بل يسيء إلى العرب جميعاً، ثم إلى إيران. أما الإساءة للعرب فتتمثل في محاولة تشويه صورة دمشق، عاصمة الأمويين والتي منها انطلقت حملة الفتوح العربية حتى بلغت إسبانيا... فمن يشكك في عروبة سوريا إنما يستهدف تحقير العرب جميعاً، ولعل هذا ما لم يتنبّه لخطورته ذلك النفر من القادة العرب الذين اتخذوا قراراً متعجلاً وغير مبرر بالدواعي الداخلية، فقاطعوا القمة العربية في دمشق».
- مع ساعات بعد الظهر، استعادت دمشق حركتها الطبيعية بعد مغادرة ضيوفها الكبار. بقيت لافتات الترحيب الرسمية في الشوارع والساحات، وبقي الفرح في نفوس الدمشقيين الذين يستشعرون، الآن، قدراً من الزهو: لقد استعادت بلادهم دورها القيادي، بقرار إجماعي عربي... فحتى من غاب سيكون الآن أكثر تحفظاً وهو يحاول التقليل من أهمية هذا الدور. ولعل مثل هذه الدلالة مؤكدة في تصريحات الأمير سعود الفيصل، التي افترض البعض أنه سيرد على «تطرف» الرئيس بشار الأسد، أو أنه سيحاول الانتــقاص من حقيقة نجاح القمة، فإذا به يتصرف بحنكة عرف بها، فــيركز حملته على المعارضة في لبنان بدلاً من إنقاص قيمة النــجاح الذي تحقق لبشــار الأسد شخصياً الذي تعاظم دوره الآن إذ بــات «رئيســاً للقمة العربــية» لمدة عام كامل...
... وهو عام طويل جداً على اللبنانيين إذا ما استمرت بعض قيادات سلطة الأمر الواقع القائمة تتصرف وكأن فراغ مقعد لبنان في القمة هو... استثمار ناجح، بضمانة الإدارة الأميركية شخصياً!
طلال سلمان
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد