القامشلي تعيش الأزمة السورية بمستوى جيد
تحط الطائرة السورية في مطار القامشلي، الذي أجبرت ظروف الأزمة مدرجاته على عدم استقبال غيرها نتيجة القطيعة الدولية لسوريا.
المطار الذي تحول إلى نقطة الاتصال الوحيدة لمحافظة الحسكة بمحافظات سوريا والعالم الخارجي، وإن كان يفتقد مقومات الحداثة العالمية وهيكلية المطارات الدولية يراه أكثر من مليون نسمة بوابة من بوابات الجنة.
لا يختلف مشهد الحراسات والحواجز العسكرية في محيط المطار عن مشهد الاحتياطات الأمنية المتبعة لحماية المرافق الحيوية والمواقع الإستراتيجية. لا تحتاج للكثير من الوقت للوصول إلى دوار الباسل، مدخل القامشلي من الجهة الجنوبية الغربية. يصعب على من لا يألف مناخ الجزيرة أن يتحمل حرارة الطقس. لا يمكن أن تكون زيادة سرعة السيارة عاملاً بالشعور بالراحة، حيث انه كلما زادت السرعة زادت حدة الهواء الساخن.
خارج المدينة الطرق مفتوحة ومؤمنة داخل حدود الجزيرة السورية فقط. لا طريق إلى الرقة ولا إلى دير الزور بسبب الوجود «الداعشي». أمّا التحرك في المدينة التي تضج بأصوات مولدات الكهرباء، فإنه يحتاج إلى خبير بأزقة المدينة وشوارعها. فوضى الأزمة جعلت الكثير من الأزقة، التي لا توجد فيها أي نقطة عسكرية أو حكومية، مقطوعة، والاحتياطات الأمنية هي سبب ومبرر بعض المتنفذين.
لا يقف الأهالي عند هذه التفاصيل، فباقي مشاكل الحياة في القامشلي هي الأهم.
الدولة غائبة بنسبة كبيرة من خدماتها، وعلى الرغم من أن الظروف في هذه الفترة هي أفضل بكثير من السنتين الماضيتين إلا أن مشهد صفوف السكان، من رجال ونساء وأطفال، أمام أفران الخبز في المدينة تؤكد أن هذه المنطقة تعيش الأزمة السورية بمستوى جيد، فهذا المشهد ارتبط بكل منطقة تعيش هذه الأزمة جيداً.
الجولة برفقة جورج ملكون على منازل أقاربه المغلقة بسبب الهجرة تشبه الجولة برفقة أي شاب من أهالي القامشلي، فالحالة يتشارك فيها الجميع هناك. يبدأ الشاب الثلاثيني بالدلالة على محطات وذكريات لم يبق منها إلا أطلال. يقف أمامها عندما يؤلمه الشوق لإخوة وأخوات ووالدة وأعمام وأصدقاء. الكل بين أوروبا وأميركا أخذ صفة «مهاجر». ينفخ جورج دخان سيجارته بحرقة قلب المشتاق والدمعة على أسوار الرموش تتبخر قبل أن تنهال بسبب حرارة الطقس.
الشمس بدأت تغيب عن القامشلي التي تعيش على أصوات المولدات الكهربائية المكلفة بالنسبة للأهالي. المدينة لا تصلها كهرباء الدولة السورية لأكثر من ساعة في اليوم منذ عامين أو ثلاثة. عتمة الليل بدأت تمتد في شوارع المدينة، وينسال مع رياح الظلام فجأة غاز مسيل للدموع، لا تشم رائحة فجأة فقط، بل ترى المارة في الشوارع يفركون عيونهم تشعر بحرقة في الجهاز التنفسي. تزداد الحالة الغريبة، وتجعلك في حيرة، ربما ما يخفف من حالة الخوف من العارض المفاجئ تشابه الحالة هو أن الناس في الشارع تصيبهم الحالة ذاتها. لا يستغربون هذا الموقف الذي اعتادوه، هي ليست المرة الأولى التي يحدث فيها ذلك، يقول أحد المارة وعيونه شديدة الحمراء. ويوضح «إنه الغاز المسيل للدموع الذي تطلقه الشرطة التركية على المتظاهرين الأكراد في مدينة نصيبين التركية، والتي لا تبعد سوى 500 متر كخط نظر عن القامشلي». ويضيف ساخراً «الجغرافيا فرضت علينا أن نتحمل تبعات الأزمة في بلدنا وتبعات المشاكل والأزمات في تركيا».
وفي الشوارع الأولى في منتصف المدينة يلفت الانتباه أصوات شباب وفتيات يرددون أغاني بلغة غير عربية. الصوت آتٍ من منزل من طابق واحد على طراز البيوت القديمة. هذا المكان هو لفريق شبابي تطوعي يسمى بـ «تجمع سوريا الأم». الأغنية باللغة السريانية التي يرددها الفريق تقول كلماتها «تحية لكم يا أبطال لأنكم أصبحتم أمل الأمة - الوقفة التي وقفتــموها ستتــحدث عنهــا الأزمان - تحيا سوريا الأم».
هذه الكلمات تتحدث عنهم، وهم عبارة عن مجموعة شباب من فئات عمرية مختلفة. لكل منهم مكان عمل أو جامعة أو مدرسة، لكن يجمعهم في هذا المكان النشاط التطوعي لخدمة القامشلي والحسكة. في ساحة البيت يعد أحيقار عيسى، عضو الأمانة العامة لـ «تجمع شباب سوريا الأم» ومجموعة من المتطوعين السلل الغذائية وتجهيزات المعيشة لإرسالها إلى الأهالي الوافدين من الحسكة بسبب المعارك الأخيرة التي دارت في أحياء الحسكة الجنوبية.
ويقول عيسى، «منذ غابت الدولة في كثير من النواحي الخدمية كنا أهالي القامشلي يداً واحدة في حل مشاكلنا. غياب الكهرباء أوجدنا له الحلول، وأنرنا شوارعنا أيضاً بأيدينا. النظافة والقمامة أيضاً قمنا بإزالتها بأيدينا. الخبز والكثير من المشكلات كان حلها بيد شباب المدينة. بكل تأكيد لن تكون المشاكل التي يتعرض لها أهلنا كالنزوح من منازلهم بسبب المعارك من غير حل».
وليس بعيداً عن مكان التجمع الشبابي ترتفع أصوات السيارات والزغاريد والأهازيج الشعبية. يأخذك حب الاستكشاف لترى حفل إكليل على باب كنيسة العذراء للسريان الأرثوذكس. ويقول موريس، والد العروس وهو رئيس الدوريات في مكتب الحماية (السوتورو) المسؤول عن حماية أحياء المسيحيين في المدينة، «نحن نحارب لنحافظ على أرضنا ووجودنا بوجه هذه الحملة التي تبتغي أفراغ المنطقة من مكوناتها. لذلك يجب أن نقاتل ونرفع السلاح ونقاوم، وفي نفس ذاته يجب أن يستمر التزاوج لتستمر سلالتنا وحضارتنا. لذلك نؤمن بنصرنا. ثقافة الحياة هي دائما التي تنتصر على ثقافة الموت. هذا ما أثبته التاريخ على مر العصور».
بعد حفل الزفاف بوقت قليل يبدأ أهالي القامشلي بالعودة إلى منازلهم. اقتربت الساعة من الواحدة ليلاً، وهو موعد إطفاء مولدات الكهرباء. فهذه المولدات التي تعمل لما يقارب 18 ساعة في اليوم تحتاج إلى إطفاء، فالأهالي المشتركون لا ينقصهم تحمل أعباء مصروف زائد للكهرباء المكلفة، وقد تراجعت، تلقائيا، موارد أعمالهم وتجارتهم في ظل هذه الأزمة. في الواحدة ليلاً تطفئ الأنوار ويسود شبح الظلام الدامس شوارع المدينة، لا يتحرك فيها سوى اللجان الشعبية، من العشائر والأكراد و «السوتورو».
تنام القامشلي وينام الأهالي على هدوء الحياة في المدينة وأمانها، على رغم من أنهم بانتظار يوم جديد للخوض في المشاكل ذاتها واللجوء إلى الخيارات ذاتها بانتظار الفرج. لا أحد يعلم متى سيأتي، لكن الجميع متفق على انتظاره على أبواب الأمل.
سيف عمر الفرا
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد