المخطوطات الفارسية وطاقات الوجدان الإسلامي

15-11-2009

المخطوطات الفارسية وطاقات الوجدان الإسلامي

تتجلى شخصية الأمم والشعوب وتبرز قسماتها، دائماً، ممثلة لبؤرة الذاكرة الجمعية والهوية المعرفية ومتمثلة في تلك السير والملاحم الكبرى التي تظل كامنة في بواطنها وأغوارها تلهمها تنويعات من أصالتها وعراقتها ومحاور ثقافتها وتاريخها بكل ما حفل من بطولات ومآثر تظل متحدية لمتغيرات زمنية تصعب كثيراً الإطاحة بها من الخيال القومي.

وقد انطوت ملحمة «الرامايانا» على أروع روائع القصص البطولية وفلسفة الحياة والموت وإشكاليات العلوم وضروب الفنون وجدليات الفلسفة وقطوف المعرفة، وفضاءات الوجدان، كما كانت «المهابهارتا» من أشهر الملاحم العالمية وهي التي استغرق نظمها نحو أربعة قرون وبلغ حجمها نحو مئة ألف بيت وتعد من أعظم النصوص المقدسة في العقيدة الهندوكية. واندمجت كل من الملحمتين في النسيج الثقافي للبلدان الإسلامية، لا سيما في دول جنوب شرقي آسيا بحيث أصبح عزلهما عن الفنون الإسلامية أمراً محالاً. من ثم عرف التراث الإسلامي فن المنمنمات والزخارف والمصورات الفارسية التي رصدت الأساطير والحكايا والتي حملت في ثناياها روح الشرق العربي الإسلامي بكل زخمها وإشراقاتها وتألقها وإشعاعاتها شارحة تلك العبقرية الروحية المتفردة في أبعادها ومضموناتها على صعيد التراث الإنساني بأسره.

وتبنت «اليونسكو» مجدداً مشروعاً طموحاً يعد باعثاً على المشاركة الإسلامية في الساحة الحضارية وهو إدراج مجموعة المخطوطات الفارسية ضمن برنامج «ذاكرة العالم» ذلك نظراً لمكانتها الاستثنائية وما كان لذلك من أثر هائل في صدور مجلة «روائع المخطوطات الفارسية المصورة» الذي تصدت لإخراجه دار الكتب والوثائق القومية المصرية ضمن ذخائر التراث.

ويُعرف أن للتصوير الفارسي طبيعة مشتقة من الطابع العام للشخصية الفارسية حتى في تحوراتها عبر التاريخ، لكن وبصفة عامة كانت أخص خصائصه أنه كان يحمل وهجاً شرقياً صوفياً. ومع انتشار الإسلام في إيران، اتسم الفن الفارسي بالروحانية الإسلامية وانسابت في ضروبه إيقاعات الحس العربي وإن ظل محافظاً على طابعه وشخصيته على رغم استيعابه واحتوائه الكثير من التأثيرات الموجبة والسالبة التي لم تستطع طمسه أو تشويهه، إذ إنه يعد من أقدم الفنون تاريخاً وأكثرها تألقاً وريادة، ذلك أنه اتسم دائماً بمخاطبة العقل وإقامة علاقات منطقية ورمزية وجمالية، كما اتسم أيضاً بتلك الشاعرية الفياضة والمنسابة في اتجاهات كثيرة حتى صارت له قدرة خارقة للنفاذ إلى قنوات الإدراك عبر طاقات الوجدان، وعلى رغم ذلك تبقى السمة الغالبة والمتمثلة في تلك المسحة الصوفية التي تمنح هذا الفن أعماقاً خاصة وفتوحات نورانية وجاذبية خفية مطوقة بإتحافات خلاقة.

والمتأمل في صنوف هذا الفن الفارسي يجد أن الأعمال الدينية فيه إنما تنحصر في تصوير القصص المقدس في الشكل الذي يهز المشاعر ويفتنها تجاه مفهوم المقدس بصفة عامة، كما يؤكد المهتمون أن جلال المفهوم الديني الإسلامي إنما تمثل في هذا الفن في تصوير قصة الإسراء والمعراج، ذلك إضافة إلى تصوير الحكم والمواعظ والعبر الشائعة في الكتابات الصوفية بجانب إشارات التخويف بالنار وعلامات الترغيب بالجنة وحث بني البشر على الطاعة والفضيلة.

وتجلى كل ذلك في مجلد المخطوطات الفارسية الراجع عهدها إلى بدايات القرن الرابع عشر وحتى نهايات القرن التاسع عشر ومنها: «شاهنامه الفردوسي» أو ملحمة الملوك والتي تصور مناظر لمعارك وبطولات، كما أنها تمثل تجميعاً حياً لتاريخ بلاد فارس وملوكها، لذا فإنها تعد من أهم المخطوطات الفارسية وأندرها وقد ألفها أبو القاسم الفردوسي في شكل شعري ملحمي وهي تضرب أروع الأمثلة في فن المنمنمات الفارسية على الإطلاق. وكذلك مخطوطة «خمسة أشرفية» وهي تشكل ملحمة شعرية من خمسة فصول نظمها الشاعر (أمير خسرو دهلوي) الذي عرف بولعه بالموسيقى الصوفية الهندية، ولعل أبدع ما جاء في هذه المخطوطة هو تصوير المعراج لرحلة الرسول الكريم (صلى الله عليه وسلّم) بفرس مجنح «البراق» عبر السموات إلى الفردوس الأعلى.

وتختلف ألوان هذه الصورة عن تلك الشائعة في القرن الخامس عشر حيث تميل إلى استخدام الألوان الخفيفة والتشديد على الأرضيات الفاتحة اللون أيضاً مع القليل من التباين، كما تمثل مخطوطة «حيدر نامه» نوعاً من أبدع المخطوطات التي يتناول النص المكتوب فيها غزوات الرسول وإنجازات الخلفاء الراشدين، لا سيما إنجازات علي بن أبي طالب وهي تتميز بالأسلوب الكشميري في فن الرسم بجانب الإفراط في استخدام اللون الأحمر، أما مخطوطة «مثنوي معنوي» لجلال الدين الرومي في علم التصوف، فإنها تحتوي على ستة وعشرين ألف بيت مقسمة في أجزاء عدة كان أولها حول أصول الدين في كشف أسرار الوصول إلى اليقين، ويبدأ كل جزء بحلية افتتاحية محلاة بالذهب وبقية الأوراق كلها مجدولة بالذهب والمداد الأسود والأزرق. وهناك مخطوط «يوسف وزليخة» الذي قام بتأليفه الشاعر نور الدين الجامي. وتدور فيه القصيدة حول قصة يوسف مع امرأة عزيز مصر وتتخللها أربع منمنمات ولها مقدمة مبهرة وتزخر بالزخارف الهندسية والنباتية، بينما مخطوطة «الكواكب الثابتة» للصوفي ناصر الدين الطوسي فهي تعتبر من أهم المراجع في علم الكواكب وأساسيات علم الفلك وتتميز برسم لوحة للسماء في مرحلتين إحداهما للكواكب كما تظهر في السماء والأخرى للكواكب كما ظهرت في الكرة الأرضية. أما مخطوطة «عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات» للقزويني فإنه يرجع أسلوب الفن فيها إلى مدارس الفن في خراسان وهو مخطوط يقع في عشرة أبواب أولها باب الملائكة ثم النار ثم الأرض ثم المدن ثم النباتات ثم التماثيل فالإنسان ثم الجن ثم الطيور وآخرها باب المخلوقات الشريرة.

وينبهنا صدور مجلد المخطوطات الفارسية إلى ضرورة طرح تساؤلات عابرة لكنها تستوقف حتماً كل الذين لديهم حمية على التراث العربي الإسلامي في مناحيه المتعددة، وأول هذه التساؤلات: هل ينهض عالمنا الإسلامي لإحياء تراثه ممثلاً بالمخطوطات خلال آليات مشروع وثائقي معاصر؟ إذا كان عالمنا الإسلامي لا يطرح مشروع مشاركة حضارية فاعلة، فلماذا لا يجدد ذاته بتفعيل مكنونات التراث التي بلغ الاعتزاز بها حد القداسة؟ وما هي انعكاسات هذه القداسة على الاهتمام بالتراث؟ ولماذا لا تقدم شروح وتحليلات معاصرة لدرر ونفائس التراث العربي الإسلامي الذي أثرى بالفعل العقل الأوروبي والغربي في زمن ما؟ وهل يمكن توظيف هذا التراث على تنوعه لإقامة جسور مع المستقبل؟

إن التراث العربي الإسلامي إنما تتصاعد قيمته مع المستقبل في الشكل الذي لا يجعله ممثلاً لمحور زمني ماض، لذا فهو بهذه الخاصية وحدها إنما يتفوق على تراث أمم شتى.

محمد حسين أبو العلا

المصدر: الحياة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...