الناقـــد صـــلاح صالــــح يقتفـــي أثـــر المدينـــة فـــــي الروايــــــة العربيـــــــة
صحيحٌ إن مبتدأ الرواية في العالم العربي كان قد نشأ في مهد ثلاث مدنٍ عربية هي على التوالي تاريخياً: «لست بأفرنجي» في بيروت، و«غابة الحق» في حلب، و «زينب» في القاهرة، وثلاثتها كانت أواخر القرن التاسع عشر،غير أنه رغم كل هذه القدامة في السرد الروائي، ورغم كل هذا الاحتضان المديني لها، فإن الناقد صلاح صالح الذي اقتفى أثر المدينة في أكثر من مئة رواية عربية، لم يجد غير تلك «المدينة الضحلة» كما وسم كتابه الصادر حديثاً عن وزارة الثقافة السورية، وبعنوان فرعي آخر «تثريب المدينة في الرواية العربية».. فهل كان هذا «الفقر الجدلي والإنجدالي» بين الرواية وحاضنها المدينة يعود لثمة عيبٍ أو لبسٍ، في الرواية، أم في حاضن الرواية، أم في كليهما معاً ؟؟!!
ذلك ما سعى لكشفه الناقد صالح في كتابه الذي أتى أشبه بالإحاطة ببحثه الأقرب إلى الشغل الموسوعي، حيث قدم الوافر من التفاصيل، وحتى تفاصيل التفاصيل في هذا المجال، ليصل إلى نتائج لا يصرّح بها، غير أن متلقي الكتاب يتلمسها بكل وضوح، وهي إن «المدينة العربية» لم يتوفر لها الروائي الذي يكتب نصها، كما توفر للمدينة في الغرب، وذلك يعود لـ «التباسين» التباس وجود المدينة العربية الحقيقية التي تتوفر فيها الشروط المدنية والمدينية، والتباس توفر الرواية العربية الحقيقية التي يتوفر فيها الشرط الروائي..!!
ربما من هنا نُفسر هذا العنوان الملفت للكتاب «المدينة الضحلة» ثم في العنوان الفرعي «تثريب المدينة في الرواية العربية» أي إن النتائج التي نُشير إليها نكاد نلمحها في العنوان، فمنذ البداية نتلمس «مدينة ضحلة» وهي إما ضيعة حاولت أن تتمدن، وغالباً هي فشلت في التوصل إلى ذلك، أو واحة صارت محطة قوافل، فكانت تجمعاً سكانياً كبيراً فشل هو الآخر في إقامة، أو إنشاء مدينة، أو كما يقول الروس «خرجنا من الريف، ولم نصل المدينة» فالمدن العربية توسم أنها مدن زراعية، لاسيما على أساس صلاتها الوظيفية بالقرى، فهي سوق لتصريف المنتجات الزراعية، وبيع السلع التي يحتاجها الريفيون، وهو وسم - على مايراه الباحث - يرمي من جملة ما يرمي إليه تقليص الصفة المدينية لهذه المدن، وخاصة في سياق مقارنتها بمدن الغرب التي صنعت ازدهارها الصناعات الجبارة والمصارف.
ومن ثم كان السرد الروائي في هذا المجال هو سرداً لنواقصها في أغلب الأحيان، استطاعت سردها من غير أن تكون قد تعمدّت سرد المدينة على هذا المستوى، وذلك عبر اعتمادها بؤرياً للسرد، وبالتأكيد من غير أن نعدم وجود روايات عربية متميزة تشي عناوينها بأنها تجعل سرد المدينة مقولتها، أو أطروحتها المركزية كما في «أبواب المدينة» لإلياس خوري، و«حارس المدينة الضائعة» لإبراهيم جبرا، و«خماسية مدن الملح» لعبد الرحمن منيف.
ولعلّ أبرز ما ذهبت إليه الرواية في سردها المدينة العربية جدلية الجمال والقبح، ومنها عدد من تجليات الجمال مثل: جماليات الوفرة والتنوع، جماليات السيولة، جماليات المتاهة، جماليات الألفة، جماليات سرد القبح، وبالمقابل هناك المدينة المقفرة، المدينة القذرة، المدينة المُريّفة والمبداة، وهنا ثمة صورة سوداوية للمدينة القائمة في المنطقة، والمدينة التي يحلم بها، ويُبشر بها السلفيون، يظل التساؤل مؤلماً إلى حد الجنون. فقد تجلت الاتهامات الموجهة للمدينة العربية في أربع مسائل هي: الخليط البشري الهجين، والبناء الخالي من العراقة والجمال، والأنوثة المتسيبة أو المفتوحة إلى درجة العهر، ثم الشخصيات السلبية، وشغلت الاتهامات مساحات متفاوتة الحجم والقيمة.
بعد القراءة الشاملة التي تأخذ ما يُقارب نصف الكتاب حول مختلف الروايات التي تناولت المدن العربية بأكثر من منطقة في العالم العربي، يُخصص الباحث بالتفصيل السرد الروائي لمدن عربية بعينها، وهي: بيروت، بغداد، دمشق، القاهرة، القدس، الجزائر، والحسكة.
وكما هو معروف فإن ثلاث مدن منها شكلت المهد الأول لنشؤ الرواية العربية كما سبق وذكرنا، فقد توفر لبيروت مستويين من الكتابة الروائية، مستوى اكتفى بجعل بيروت مجرد حاضن مؤطر للأحداث، ومستوى منح المدينة إسهامها الفعّال في التكوين الكلي للعمل الروائي، وغالباً ما مضى سرد بيروت إلى قتلها، أو تصويرها قاتلة، أو قتل بعضها، أو قتل صفتها المدينية عبر إقصاء الآخر.
فيما وقف نجيب محفوظ كل أعماله الروائية للقاهرة، ومع ذلك بدت رغم احتشادها السكاني قرية إذا ما قورنت بيروت، ومع ذلك فقد اختزلت قاهرة نجيب محفوظ الوجود كله، لا مصر فقط.، لكن القدس بقيت ذلك الفردوس المفقود في مختلف الكتابة الروائية. فيما بدت كل من بغداد ودمشق بحالة من التذمر والتلون بين مختلف العقود، وصورة لأقوام مروا من هنا.
أما الجزائر فقد بدت مدينة متمنعة، ولأنها كذلك فقد كانت مدينة قمامة كما وصفتها المدونة الروائية التي تناولتها، ومثلها نُظر إلى الحسكة كمدينة أصل ومرجع، أو مدينة نابذة وجاذبة بالآن عينه.
وفي مجمل الأحوال تقارب التناول الروائي للمدينة العربية على اختلاف وجودها في مختلف المناطق العربية بذات الرؤية تقريباً، طبعاً باستثناء «المدينة» في الجزيرة العربية، فكان ثمة شط دائم بتوفرها، ومن هنا كان أن أطلق عليها عبد الرحمن منيف «مدن الملح» أي القائمة على الفورة النفطية، والتي ستزول مع نفاذه، وأحياناً بذات العدسة، مدينة قزمة تجاه المدينة الأوروبية النظيفة التي تقبل الآخر وتتعايش معه، وفيها من الوفرة الكثير، فيما عنوان المدينة العربية كان الضحالة في مختلف مناحي الجمال وقبول الآخر..
والرواية العربية المعاصرة التي سعت إلى صناعة مدن بواسطة الحكاية روايات نادرة، حيث يبدو أن مدن الواقع أغنتها عن جهد اختلاق مدن يقتصر وجودها على حلم ابن المنطقة في هذا العصر على غرار المدن اليوتوبية في «فخ الأسماء» وغيرها، وكان من أبرز الأعمال الروائية التي سردت ضحالة المدينة العربية على مختلف المستويات هي «المدينة الملونة» لحليم بركات، وغيرها.
الهيئة العامة السورية للكتاب
إضافة تعليق جديد