الولايات المتحدة وبعث الأصولية المسيحية
تنبأ المفكر والكاتب الفرنسي أندريه مارلو بأن القرن الواحد والعشرون سيشهد بعثا دينيا. وما حدث هو أن سجلت الطوائف البروتستانتية انتشارا عظيما في العالم المسيحي بفضل ما يدعى بالتبشير الانجيلى التلفزيوني، تزامنا مع ازدهار طوائف مستعدة للتضحيات القصوى في العالم الإسلامي. هاتان الظاهرتان تمثلان قيدا مفروضا على الحياة السياسية.
تلقت الأصولية المسيحية قدرا أقل من انتباه وسائل الإعلام رغم قدمها. ففي عام 1993 نشر الفاتيكان وثيقة التفسير الكنسي للكتاب المقدس التى تضمنت إدانة قاطعة للأصولية. فقالت أن المنظور الأصولي "خطير" لأنه يطالب الكتاب المقدس بأجوبة فورية لمشاكل الحياة بدلا من الإقرار بأنه لا يحتوى بالضرورة على إجابة فورية لكل مشكلة.
وأضافت وثيقة الفاتيكان أن الأصولية تدعو في الحقيقة لضرب من "الانتحار المعنوي وتبعث يقينا زائفا في الحياة" لأنها تخلط دون قصد بين الجوهر الالهى لرسالة الكتاب مع ما هو في الواقع محدودية بشرية.
والملفت للانتباه مدى انتشار الطوائف البروتستانتية في الولايات المتحدة، بدفعة من مبشرين تلفيزيونين تقيم أنشطتهم ب 200،000 مليون دولار سنويا، ويصدرون الأصولية المسيحية إلى كافة أرجاء العالم، خاصة أفريقيا وأمريكا اللاتينية.
والواقع أن الأصولية قد ولدت رسميا في 1910، حين عزت جماعة من المؤمنين تآكل أسس العقيدة المسيحية إلى العادات والأفكار الحديثة ونشرت 12 كتابا: "الأصوليات". فأدت المبادرة في 1919 إلى تأسيس الجمعية العالمية للمسيحيين الأصوليين التى ضمت حينذاك 6،000 عضوا.
من المعروف أن التفسير المباشر للتوراة كمرشد للحياة اليومية، دائما ما يتوجه نحو رفض كل ما هو حديث وكل ما هو تدخل من قبل الدولة في حياة المواطنين.
رغم ذلك، يستخدم الأصوليون التكنولوجيات الحديثة، والسوق، وأحدث وسائل الاتصال. فقد نجحوا في الاستفادة من قرار الرئيس رونالد ريغان بتعديل اللجنة الفيدرالية للاتصالات التى تأسست في 1934 لضمان توزيع الرخص الممنوحة لوسائل الاتصال حسب مفهوم "الصالح العام".
وعين ريغان رئيسا للجنة قال أن "التليفزيون لا يختلف عن محمصة الخبز" أي مجرد بضاعة، وخفض ميزانية اللجنة إلى النصف. فأدى مفهوم أن السوق، لا السياسة، هي من يبت في التحكم في التلفزة والإذاعة، أدى إلى أن اشترت مجموعة صغيرة من الشركات أعدادا كبيرة من المحطات، وإلى تحويل كل البرامج، الإعلامية والرياضية وحتى تنبؤات الطقس، إلى برامج تجارية.
وهكذا هيمن الصالح الخاص على الصالح العام. وتغلغل المبشرون بسرعة ومهارة في الفضاء المفتوح. وساعدتهم الإعفاءات الضريبية التى تمنحها الدولة للمنظمات الدينية على إقامة شبكات على الصعيد الوطني وتحولت بعض المحطات التبشيرية إلى محطات عملاقة. وحاليا توجد في الولايات المتحدة 1600 محطة إذاعية و250 محطة تليفزيونية.
كان التأثير جبارا. فكشفت حملة "غالوب" لاستطلاع الرأي في 2004، أن 55 في المائة من الأمريكيين يؤمنون بأن كل ما ورد في الكتاب حقيقي، بما فيه سفينة نوح وخلق العالم في ستة أيام.
كذلك أن 71 في المائة من المسيحيين الإنجيليين يعتقدون أن العالم سينتهي بمعركة مروعة بين المسيح وعدو المسيح. وهنا لا يقتصر الأمر على كون مجرد نقاش نظري أو تجريدي: فهناك حملة تشمل غالبية الولايات، لحذف تدريس نظرية التطور من المقررات الدراسية.
هذا ويشجع جانب هام من الجماعة الأصولية على إدخال تغييرات جذرية على السياسة والمؤسسات التابعة للدولة. فيقود بات روبرتسون وطائفته المسماة "دومينيونيستا"، حملة دائمة لتحويل الولايات المتحدة إلى ثيوقراطية أو دولة خاضعة لحكم رجال الدين وتحت رقابة هذه الطائفة التى تؤكد أن الديمقراطية وسيلة بغيضة للحكم طالما هي ليست تحت إرشادها .
يصف غارى نورث، مساعد روبرتسون، إستراتيجية الطائفة بقوله "علينا أن نستخدم مذهب الحرية الدينية حتى يجيء جيل يدرك أنه لا توجد حكومة مدنية محايدة". هذا الجيل سوف يشكل أخيرا نظاما اجتماعيا ودينيا مبنيا على التوراة ورافضا الحرية الدينية لأعداء الله". وينادى روبرستون بإعدام علنا النساء اللاتي تجهضن ومن يدعمهن.
وبما أن العهد القديم يقول أن عدو المسيح أو المسيح الزائف سوف يقدم عندما تحتل إسرائيل كافة الأراضي التوراتية، فينظر إلى مسألة الشرق الأوسط من منظور توراتي بحت.
هذا ويشير تحليل التوجه الانتخابي إلى أن محور الحزب الجمهوري الحاكم لم يعد المحافظون ذوى الوعي الاجتماعي مثل روكفلر، إذ يمثل الإنجيليون 40 في المائة من الناخبين الأمريكيين و60 في المائة من الناخبين الجمهوريين، وهو ما يفسر دعمهم للرئيس جورج بوش الذي ينظر إلى العالم من أحد منظورين اثنين: أصدقاء الحرية وأعداء الحرية، ... الخير والشر.
يعتبر الخبير ستان غرينسبيرغ أن صحوة الأصولية قد غيرت المشهد السياسي الأمريكي بصورة لا رجعة فيها. لكن الأصولية تتجاوز حدود هذه الدولة العظمى وتنتشر في أمريكا اللاتينية خاصة.
ففي البرازيل، رشح الإنجيليون مرشحهم التابع لهم أمام الرئيس لويز اناسيو لولا لاعتباره "مرشح الشيطان". وفى غواتيمالا كان لهم رئيسا ذو ماضي دكتاتوري، الجنرال افرائين ريوس مونت، وفى بلدان كثيرة انتخبوا النواب والشيوخ والعمداء.
وأخيرا، قدر أنه باستمرار معدل النمو الحالي، فسوف يتجاوز الإنجيليون في عام 2025 عدد المسيحيين التابعين للكنيسة الكاثوليكية.
*روبرتو سافيو، مؤسس وكالة الأنباء العالمية "آي بى اس" ورئيسها الفخري، وعضو اللجنة الدولية للمنتدى الاجتماعي العالمي.
المصدر: آي بي أس
إضافة تعليق جديد