تداعيات الحدث السوري على دول الجوار
الجمل: استمرت فعاليات الحدث الاحتجاجي السياسي السوري لحوالي ستة أشهر تقريباً، وبرغم الضغوط الخارجية وضغوط التداعيات الداخلية، فإن دمشق ما زالت الأكثر قدرة لجهة الإمساك بزمام المبادرة والسيطرة وضبط التفاعلات الداخلية؛ ولكن برغم ذلك، فإن عدوى الحدث السوري أصبحت على وشك أن تأخذ طابعاً إقليمياً عابراً للحدود: فما هي طبيعة تأثيرات عدوى الحدث السوري الإقليمية وما هي أبرز تداعيات الضغوط على دول الجوار الإقليمي السوري وإلى أي مدى سوف تستطيع أنقرا ـ بغداد ـ عمان ـ بيروت احتجاز وصد ضغوط هذه التداعيات إضافة إلى تل أبيب والتي تبين أنها من الصعب إن لم يكن من المستحيل أن تكون بمنأى عن تداعيات الحدث السوري؟
* ماذا تقول الإشارات المنطلقة من الحدث السوري؟
يعتبر علم الإنذار المبكر من العلوم الاستقرائية الحديثة النشأة، فهو يهتم بالتركيز على بؤرة الحدث والتعرف على مكوناتها وكيفية عمل أدائها السلوكي، ثم التقاط إشارات البث المنطلقة ومحاولة معرفة وقراءة وفك شيفرة هذه الإشارات وذلك وصولاً لمعرفة طبيعة وشكل السيناريو القادم المحتمل. بما يتيح وضع الاستعدادات والترتيبات اللازمة لاحتواء المخاطر وتعزيز الفرص.
وتأسيساً على ذلك، فإن الحدث الاحتجاجي السياسي السوري، أصبح بالضرورة يمثل نقطة البؤرة المركزية الشرق أوسطية، والتي بالضرورة أيضاً أصبحت تنطلق منها المزيد من إشارات البث ذات الطبيعة الجيوسياسية النوعية، ولقراءة وفك شيفرة هذه الإشارات، يمكن التطرق إلى الآتي:
• البعد الاقتصادي: استمرار الفعاليات الاحتجاجية طول الستة أشهر الماضية، وإن كانت متقطعة، فإن تأثيراتها بدأت تظهر في العديد من الأنشطة التجارية والمالية، إضافة إلى احتمالات أن تتزايد هذه التأثيرات وذلك على النحو الذي سوف يؤثر على المبادلات التجارية والمالية العابرة للحدود مع كل من العراق ـ الأردن ـ تركيا ـ ولبنان، وبكلمات أخرى، فإن قطاعات الأعمال في هذه البلدان سوف تتأثر سلباً، وذلك لأن قيام محور واشنطن ـ دول الاتحاد الأوروبي بفرض العقوبات ضد دمشق، سوف لن يلحق الأضرار الكبيرة بالأوضاع الاقتصادية الداخلية طالما أن الاقتصاد السوري قادر على تلبية احتياجات المواطنين المعيشية، وبدلاً عن ذلك فإن الضرر الكبير سوف يقع على عاتق البلدان التي تصدر سلعها إلى سوريا، وفي مقدمتها تركيا. إضافة إلى البلدان التي ظلت تستفيد من حركة الترانزيت التجاري مع سوريا وفي مقدمتها لبنان والأردن، والعراق. وبالتالي، فإن استمرار فعاليات الحدث الاحتجاجي السياسي السوري لفترة أطول، سوف يترتب عليها بالضرورة دخول هذه البلدان ضمن دائرة الخطر الاقتصادي والتجاري.
• البعد السياسي: السياسة السورية، ليست جزيرة معزولة؛ فهي أحد المكونات الهامة المركزية للسياسة الشرق أوسطية بمعناه الإقليمي، وإضافة لذلك تتميز السياسة السورية بمكانتها الدولية، وذلك لجهة العديد من الاعتبارات المتعلقة بالتفاعلات الإقليمية والدولية، إضافة إلى علاقات الصراع والتعاون الدولي والإقليمي.
* جغرافية الحدث السوري: إشكاليات التغذية العكسية المرتدة
تأسيساً على معطيات وثوابت الجغرافية السياسية ـ الإقليمية، فإن استمرار الحدث الاحتجاجي السياسي السوري، وبهذه الطريقة، سوف يترتب عليه بالضرورة المزيد من عمليات التعبئة السياسية السلبية الفاعلة، في كل من العراق ولبنان والأردن وتركيا، إضافة إلى إسرائيل نفسها. ولتوضيح ذلك نشير إلى أنماط العدوى الاحتجاجية السياسية السورية التي حدثت خلال الأشهر الماضية، وذلك على النحو الآتي:
ـ الأردن: شهد مطلع العام الحالي انطلاق فعاليات الاحتجاجات السياسية الأردنية التي قادتها وأطلقت شرارتها الحركة الإسلامية الأردنية، وهدأت هذه الفعاليات بسبب بعض التنازلات التي قدمتها عمان. ولكن، وبفعل استمرار فعاليات الحدث الاحتجاجي السياسي السوري التي يسيطر عليها الإسلاميون السوريون، فإن الحركة الإسلامية الأردنية عادت وأشعلت الاحتجاجات السياسية الأردنية مرة أخرى بحيث يصبح الأمر على السواء في المسرحين الاحتجاجيين السياسيين السوري والأردني.
ـ العراق: بعد انطلاق فعاليات الاحتجاجات السياسية السورية، انطلقت مباشرة فعاليات احتجاجية عراقية، سعى بعضها إلى استهداف حكومة الزعيم نوري المالكي، وسعى بعضها الأخرى إلى استهداف الوجود الأمريكي إضافة إلى التنديد بالدور السعودي الخليجي الداعم لاستمرار الوجود الأمريكي في العراق. وعلى خلفية انخفاض شدة الاحتجاجات العراقية، برزت وبشكل متزامن المزيد من عمليات العنف الهيكلي المرتفع الشدة، بسبب تزايد الانفجارات وعمليات إطلاق النار والتي أسقطت من المدنيين العراقيين أكثر مما أسقطت من الجنود الأمريكيين. وبكلمات أخرى أكثر وضوحاً، سوف تسعى الأيادي الخفية لجهة استغلال عدوى فعاليات الحدث الاحتجاجي السوري داخل العراق وتحديداً عن طريق إطلاق المزيد من عمليات العنف بما يؤدي بالضرورة إلى توفير المزيد من الذرائع والمبررات التي تدفع إلى بقاء واستمرار الوجود العسكري الأمريكي في العراق.
ـ لبنان: سعت قوى 14 آذار اللبنانية، وتحديداً مثلث سمير جعجع ـ الجميّل _ الحريري، لجهة القيام بتقديم الدعم المالي واللوجيستي والعسكري لعناصر إشعال الاحتجاجات السورية، إضافة إلى القيام بدور جسر عبور للمساعدات الغربية والسعودية والخليجية، على أمل أن يؤدي ذلك من جهة إلى انهيار دمشق، وفي نفس الوقت من الجهة الأخرى إلى تحقيق الأرباح والمنافع الخاصة، إضافة إلى إدراك مثلث زعماء 14 آذار القائم على الاعتقاد بأن انهيار دمشق سوف يؤدي بالضرورة إلى انهيار معسكر حزب الله اللبناني وحلفاءه اللبنانيين. ولكن، تبين أن هذا الاعتقاد هو مجرد وهم افتراضي، وذلك لأن الساحة السياسية اللبنانية وتحديداً الرأي العام اللبناني تعرض بفعل تأثيرات الحدث السوري إلى عملية اصطفافات واستقطابات جديدة، منها على سبيل المثال لا الحصر، أن إدراك المجتمع المسيحي السوري لخطر التوجهات السلفية الوهابية المتطرفة، هو إدراك انتقلت عدواه بالضرورة للمجتمع المسيحي اللبناني، وبكلمات أخرى لقد التقط المجتمع المسيحي اللبناني، وأيضاً مجتمع الموحدين الدروز اللبناني الإشارات القادمة من امتداداتهم المجتمعية الموجودة في سوريا. وتأسيساً على ذلك، فقد أدت عملية التغذية العكسية إلى جعل معسكر جعجع ـ الجميّل يدفع الثمن، وذلك لأن الرأي العام المسيحي اللبناني أصبح يقف إلى جانب موقف العماد ميشيل عون زعيم التيار الوطني الحر الحليف لدمشق وحزب الله اللبناني وفصائل المقاومة الوطنية اللبنانية. وبكلمات أخرى، كلما استمر دعم أطراف مثلث جعجع ـ الجميّل ـ ومن ورائهم سعد الحريري لفعاليات الاحتجاجات السياسية السورية ذات الطبيعة الوهابية الأصولية المتشددة كلما انكمشت قاعدة الدعم الشعبي اللبناني لأطراف مثلث قوى 14 آذار.
ـ تركيا: يوجد اعتقاد شائع بأن التأثيرات السياسية السورية على تركيا، سوف لن تتعدى ملف الحراك الانفصالي الكردستاني التركي، ولكن من مزايا الحدث الاحتجاجي السوري الجاري حالياً، أنه كشف بكل وضوح عن جملة من التأثيرات الجديدة، وفي هذا الخصوص نشير إلى الآتي:
• تأثيرات المكانة السياسية: بدا واضحاً أن تركيا لن تستطيع اكتساب أي مكانة أو دور إقليمي في المنطقة بمعزل عن دمشق، وبالتالي، فقد أكدت هذه الاحتجاجات بأن مكانة سوريا هامة بالنسبة لمكانة أنقرا. واللافت للنظر هنا، أن أنقرا قد اكتشفت أنها لن تستطيع ممارسة الدور واكتساب المكانة عن طريق "ردع دمشق"، وذلك لأنه خلال الفترة الممتدة من نهاية حكم الباب العالي العثماني وحتى الآن، جرت مياه كثيرة في طاحونة شرق المتوسط، ولم تعد دمشق اليوم هي دمشق القرن الثامن عشر والسابع عشر.
• تأثيرات الدور السياسي: تشير الحقائق إلى تلازم التاريخ التركي بالجغرافيا السورية، وإلى تلازم التاريخ السوري مع الجغرافيا التركية، وبكلمات أخرى لقد استخدم السوريين الأمويين الممر التركي وصولاً إلى القوقاز وآسيا الوسطى. ونفس الشيء، فقد استخدم العثمانيون الممر السوري وصولاً إلى مصر وشمال أفريقيا والجزيرة العربية. وبرغم وضوح هذه الحقائق، فقد سعت حكومة حزب العدالة والتنمية إلى استبدال قناعاتها السابقة بقناعات جديدة تقوم على تجاوز دمشق والذهاب مباشرة إلى الرياض. ولكن، وكما هو واضح حالياً، فقد أبت جغرافية سوريا إلا أن تؤكد بأنها عصية على التجاوز والتخطي أياً كان طراز الطائرة التي أقلت أردوغان من أنقرا إلى الرياض وبالعكس.
إذا حاولنا أن نعدد تأثير سوريا على معطيات تفاعلات الجغرافيا السياسية ـ الإقليمية الشرق أوسطية، فإن النتائج سوف تتخطى حدود الشرق الأوسط إلى ما هو وراء وأبعد من الشرق الأوسط. ولهذه الأسباب، فقد سعت أمريكا إلى لملمة حلفاءها وقدراتها لجهة القيام باستغلال فعاليات الحدث الاحتجاجي السوري، ونفس الشيء أدركته روسيا والصين، مما أدى إلى قيامهم بعمليات عرقلة وإعاقة اندفاع زخم الاستهداف الأمريكي. وهو الأمر الذي لم تدركه أنقرا، والتي سعت إلى تكشير أنيابها في أول الأمر لجهة القيام بسيناريو "الإنكشاري" ذي الشوارب التركية الضخمة الطويلة. ولكن، وبعد فترة أدرك هذا الإنكشاري أن شواربه تحت قبضة دمشق، وعلى ما يبدو فإن شهرزاد (الإسطنبولية) قد أدركت قدوم الصباح، وبدأت تسكت عن الكلام المباح.
الجمل ـ قسم الدراسات والترجمة
إضافة تعليق جديد