تغريبة السوريين مستمرّة: «مفوضيّة اللاجئين» تبيع الأمل
«تشهد المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين اتجاهاً ملحوظاً إلى العودة التلقائية إلى سوريا وداخلها في عام 2017». هذه هي الجملة التي تصدرت تصريحات المتحدث باسم «المفوضيّة السامية لشؤون اللاجئين» أندريه ماهسيتش، خلال مؤتمر صحافي عُقد في جنيف قبل أسبوع.
التصريحات التي شغلت وسائل الإعلام منذ إطلاقها أوحت بوجود تحسّن (ولو طفيف) في قضية النازحين واللاجئين السوريين، فيما ذهبت بعض القراءات المتفائلة حدّ عدّها مقدمة لانفراجة يوشك الملف أن يشهدها. لكنّ الغوص في تفاصيل «التغريبة السورية» والوقوف على أحدث الإحصاءات والأرقام (الصادرة بدورها عن منظمات أممية) سيكون كفيلاً بتبيان أن هذا التفاؤل يبدو أشبه بـ«بيع الأمل» وسط واقع قاتم. تقدّر وكالات الإغاثة أنّ «أكثر من 440 ألف نازح داخلياً قد عادوا إلى مناطقهم في سوريا في الأشهر الستة الأولى من هذا العام». وفي المقابل «راقبت المفوضية عودة أكثر من 31 ألف لاجئ سوري من البلدان المجاورة حتى الآن خلال عام 2017»، ليصبح عدد اللاجئين العائدين تلقائياً من دول الجوار «حوالى 260 ألف لاجئ منذ عام 2015، لا سيما من تركيا إلى شمال سوريا».
من أين جاءت الأرقام؟
إذا كان التوصل إلى معرفة أعداد اللاجئين العائدين من دول أخرى أمراً يسيراً استناداً إلى بيانات توفرها حكومات تلك الدول، فإنّ الأمر يبدو معقّداً في ما يتعلّق بأعداد النازحين الذين عادوا من مناطق سوريّة إلى مناطق سكنهم الأساسيّة. سكوت كريغ، الناطق الرسمي باسم المفوضية السامية لشؤون اللاجئين يقول إنّ «كلّاً من المفوضية الأمم المتحدة والمنظمة الدولية للهجرة قد توصلتا إلى عدد النازحين السوريين العائدين إلى ديارهم بالاعتماد على الأعداد التي أحصتها مجموعة من المنظمات الإنسانية ومنظمات الإغاثة». يؤكد كريغ أن «البيانات تأتي من مجموعة واسعة من المصادر، وتجمع وتقاطع وفق الأساليب المستخدمة في حالات النزوح الجماعي المشابهة»، ويوضح أن هذه البيانات «تُجمع عبر أساليب ومصادر مختلفة بما في ذلك رصد المعابر الحدودية، رصد عمليات التسجيل وإلغاء التسجيل للنازحين داخل سوريا وفي دول الجوار، وعبر التواصل مع المجتمعات المحلية، وبيانات السلطات المحلية، والتسجيل في المدارس والمراكز المجتمعية وغيرها من منصات تقديم الخدمات المحلية، وأساليب أخرى عديدة».
بدوره، يوضح فراس الخطيب، مسؤول الإعلام في مكتب مفوضية اللاجئين في دمشق أنّ الأرقام المذكورة قد جُمعت بعد «مقاطعة بيانات من منظومة الأمم المتحدة، ومجموعة من الشركاء العاملين على الأرض (19 شريكاً للمفوضية) واستبيانات وزيارات موظفين للعائدين إلى البيوت». يقول الخطيب إنّه «لا يستطيع الكشف بدقة عن آليات الوصول إلى العدد الإجمالي»، ويضيف «طبعاً الحكومة السورية هي أحد المصادر عبر وزاراتها المختلفة». الأرقام وفقاً للمصدر نفسه «لا يمكن أن تكون دقيقةً بشكل تام، لكنها مؤشر على وجود حركة في هذا الاتجاه للعودة، خاصة داخليّاً مع تحسن الأوضاع الأمنيّة». كما يحرص الخطيب على تأكيد أن «سلوك العائدين طوعي، والمفوضيّة لا تحثّهم أو تضغط عليهم من أجل العودة».
هوامش خطأ؟
تتوافر كثير من المؤشرات التي تجعل من الأرقام التي أوردتها المفوضية حول أعداد العائدين إلى بيوتهم (من النازحين داخلياً) محكومةً بهوامش خطأ واسعة على أقل تقدير، لا سيما أن تلك الأرقام جاءت مجملة ولم يتم توضيحها تبعاً للمدن المذكورة بوصفها وجهاتٍ للعائدين. ومن بين العوامل التي تؤثّر في هذه الأرقام يأتي سلوك النازحين أنفسهم. وعلى سبيل المثال، فإنّ شرائح واسعةً من النازحين الذين سجلوا أسماءهم كعائدين إلى مناطق سكنهم الأساسية في حمص لم يعودوا فعليّاً، لكنّهم عمدوا إلى إلغاء أسمائهم من قوائم المعونات في مناطق نزوحهم، وتسجيلها في قوائم الجمعيات العاملة في مناطق سكنهم الأصليّة لأنّ هذه الأخيرة تقدّم معونات أكبر. وتتقاطع معلومات تقدمها مصادر عدة عاملة في مجال الإغاثة في حمص حول تحوّل هذا السلوك إلى ظاهرة متنامية، حيث «تستمر بعض العائلات النازحة إلى المناطق والأرياف القريبة في سكن مناطق النزوح، ويذهب واحد أو أكثر من أفراد العائلة إلى حمص مرة في الشهر لتسلّم مخصصات العائلة والعودة بها». وتعزو المصادر هذا النمط من السلوك إلى «عدم توافر كل مقومات العودة إلى الأحياء الأساسية»، سواء على صعيد «توافر الخدمات الحكومية، أو فرص العمل، أو جهوزية القطاع التعليمي».
يقول رامي (اسم مستعار) إنّ «مخاوف كثيرة ما زالت تحول بين عائلتي وبين تغيير نمط حياتها بشكل جذري، بعدما عانينا كثيراً للتأقلم مع واقع النزوح سواء في ما يتعلق بأعمالنا، أو مدارس إخوتي، أو المحيط الاجتماعي». ويضيف «أذهب إلى حينا الأساسي بواقع مرة أسبوعياً، أتفقد المنزل، وأراقب ظروف الحي التي تتحسّن بشكل بطيء جداً، وأتسلم مخصصاتنا الإغاثية. حتماً نحن نأمل في العودة لكن في الوقت المناسب».
من بين العوامل المؤثرة في دقة أعداد النازحين الذين غادروا مناطق سكنهم المؤقتة يُسجّل عامل فريد في اللاذقية هو «الشائعات». ومنذ عودة كامل أحياء حلب إلى سلطة الدولة السورية سرت على نحو غريب في المدينة الساحلية التي تؤوي عدداً كبيراً من نازحي حلب شائعة مفادها أنّ «المحافظة أصدرت تعليماتٍ بعدم تجديد عقود العقارات المؤجّرة للحلبيين». ورغم أن مصدرين من المحافظة وثالثاً من مجلس المدينة قد نفوا وجود قرار من هذا النوع، غير أننا وصلنا إلى حالات لعائلات حلبيّة قد «احتاطت» للأمر عبر الاتفاق مع مالكي العقارات على تجديد الإيجارات من دون عقود (في هذه الحالة ينتهز المؤجرون الفرصة لرفع مبلغ الإيجار ويأخذون ضمانات من المستأجر مثل وضع إشارة حجز على سيارة أو تحرير سندات أمانة)، أو عبر تسجيل عقود الإيجار بأسماء أشخاص من أبناء اللاذقية. ومن شأن هذه المعطيات أن تؤثر على أي قاعدة بيانات توفرها وزارة الإدارة المحلية اعتماداً على عقود الإيجار المسجّلة، أو وزارة الداخلية اعتماداً على الموافقات الأمنية الممنوحة لعقود الإيجار (تعتبر الموافقة الأمنية شرطاً أساسياً لإبرام عقود الإيجار أو تجديدها؛ الأخبار العدد 2469 ).
لا أرقام حكوميّة
في خلال رحلة البحث عن أرقام وإحصائيات حكوميّة لأعداد النازحين داخليّاً العائدين إلى منازلهم، سعينا للتواصل مع جهات مركزيّة عدّة، لكن هذه المساعي اصطدمت بإجراءات روتينيّة معقّدة تتطلّب وقتاً طويلاً للحصول على «موافقة» لتقديم أي إجابات أوّل الأمر، من دون أن يعني هذا اشتمال الإجابات على الأرقام المطلوبة بشكل مؤكد. وتبدأ هذه الإجراءات بمخاطبة مديرية الإعلام الخارجي في وزارة الإعلام وتقديم شرح عن طبيعة الموضوع المطلوب الخوض فيه والجهة الحكومية التي ترغب الوسيلة الإعلامية بمخاطبتها، وفي حال الحصول على موافقة تقوم الوسيلة الإعلامية بمخاطبة الجهة الحكومية خطيّاً وانتظار الرد.
ونظراً إلى وجود مدينة حلب على رأس المدن التي أشارت إليها «مفوضية اللاجئين» بوصفها مدناً شهدت حالات عودة واسعة، سعينا إلى التواصل مع محافظ حلب (حسين دياب، وهو رئيس اللجنة الفرعية للإغاثة) عبر مكتبه الخاص، وعبر المكتب الإعلامي في المحافظة من دون جدوى. ولم تسفر الاتصالات الهاتفية المتكررة (21 اتصالاً في خلال أربعة أيام) مع مدير الشؤون الاجتماعية والعمل في حلب (د.صلاح الراعي) عن نتيجة تُذكر، إذ أكد الراعي لدى تلقيه المكالمة في المحاولة الثانية والعشرين أنّ «الإحصاءات المطلوبة لا تتوافر لدى المديرية، وربما توافرت إحصاءات جزئيّة فقط، أما الإحصاءات الدقيقة فلا سبيل للحصول عليها إلا عبر اللجنة الفرعية للإغاثة».
«من أجل حلب»
تُعتبر جميعة «من أجل حلب» واحدة من أنشط الجمعيات العاملة في المجال الإغاثي في حلب، وهي أحد الشركاء المحليين لمنظمات الأمم المتحدة الذين يعملون على توفير مقومات عودة النازحين إلى منازلهم (المساعدة في تأهيل محال، إنارة شوارع، توزيع مواد غذائية وغير غذائية.. إلخ). ومنذ عودة القسم الشرقي من المدينة إلى كنف الدولة السورية نقلت الجمعية أنشطتها إلى ذلك القسم، واختصّت بقطاع جغرافي يشمل أحياء عدة: بستان القصر، الكلاسة، المغاير، الجلّوم، قلعة شريف، العقبة.
ووفقاً لبيانات اطلعنا عليها ، فقد «سُجلت في جداول الجمعية حتى الآن قرابة 7900 عائلة في الأحياء المذكورة». تشتمل البيانات المقدّمة على 3693 عائلة عادت من القسم الغربي (يضاف إليها 99 يتيماً). علاوة على 976 عائلة عادت من مدن ومحافظات أخرى (يضاف إليها 13 يتيماً). توزعت العائلات العائدة على الأحياء وفق التالي: بستان القصر 3949، الكلاسة 1896، المغاير 1073، الجلوم 618، قلعة شريف 262، العقبة 8، أيتام 150.
ثمة فجوة لافتة في الأرقام المذكورة قد تصلح نموذجاً لهوامش الخطأ المحتملة، فلدى جمع عدد العائلات العائدة من القسم الغربي مع عدد العائلات العائدة من مدن أخرى يكون الناتج 4669 عائلة فقط. أما لدى جمع العائلات وفقاً لتوزعها على الأحياء فيغدو الناتج 7806 عائلات. ويكمن السر ببساطة في أن العائلات المسجلة على قيود الجمعية ليست عائدة من النزوح بأكملها، بل ثمة قسم كبير منها لم يغادر تلك الأحياء أصلاً.
الرّقّة ودير الزور: الواقع الأسود
ثمّة جزء مهم من الصورة ينبغي أخذه في عين الاعتبار قبل أن يُسمح للتفاؤل بالتسلّل من تصريحات المفوضيّة الخاصة بعودة النازحين، وهو الجزء المتعلق بمحافظتي الرقة ودير الزور. وبفرض أن العدد الذي أوردته المفوضيّة حول أعداد النازحين العائدين كان دقيقاً، فهذا لا يعني على الإطلاق أن إجمالي النازحين السوريين قد نقُص قرابة أربعمئة ألف نازح. ففي مقابل عودة هؤلاء المفترضة، خلّفت العمليات العسكريّة في محافظة الرقّة وحدها ما يقارب مئتي ألف نازح منذ انطلاقتها في تشرين الثاني 2016.
ووفقاً لأحدث بيانات مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا) الصادر قبل قرابة أسبوع، فقد «بلغ عدد النازحين من الرقة منذ 1 نيسان حتى 22 حزيران 184705 أشخاص، بما في ذلك أكثر من 108779 شخصاً منذ 1 أيار». ويوضح التقرير نفسه أن «من بين هؤلاء، حدثت 89932 عملية نزوح داخل محافظة الرقة، في حين تم تهجير 14527 فرداً إلى حلب، و2721 إلى إدلب، و1599 إلى دير الزور».
وفي شأن دير الزور، يكتفي التقرير بالقول إنّه «يجري الإبلاغ عن تزايد النزوح من دير الزور، وقد تم تقديم طلب من قبل الإدارة الذاتية الكردية إلى الأمم المتحدة لفتح مواقع جديدة لاستضافة الأشخاص الذين يحاولون الفرار من المنطقة».
«قسد»: تجنيد إلزامي للنازحين واحتجاز!
يشير تقرير «أوتشا» إلى قيام «قوات سوريا الديموقراطيّة» بتجنيد الشبّان بين سن 18 و30 تجنيداً إلزاميّاً في صفوفها. يقول التقرير إن «حرية التنقل داخل مخيمات النازحين داخلياً في المناطق الخاضعة لسيطرة قوات سوريا الديموقراطية تشكل مصدر قلق رئيسياً في مجال الحماية». ويوضح أن «النازحين يواصلون الإبلاغ بأن وثائقهم لا تعاد أحياناً من إدارة المخيم بعد إكمال عملية الفرز».
ووفقاً للتقرير نفسه، فقد لوحظ انخفاض كبير في نسبة النازحين الذكور الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و40 عاماً، الأمر الذي يرجع إلى «خوف الكثيرين من التجنيد الإجباري والاحتجاز العسكري القسري عند نقاط التفتيش». وخلال الفترة المشمولة بالتقرير «وردت أنباء عن حملة تجنيد كبيرة أطلقتها الإدارة الذاتية الكردية في المناطق التي تسيطر عليها في شمال شرق سوريا، ويشمل ذلك النازحين داخلياً بصرف النظر عن المنشأ والعرق».
ويرد أيضاً أن «نحو 1700 شخص يقيمون حالياً في مخيم المبروكة (ريف الحسكة الغربي) يحملون بطاقات هويتهم وبطاقاتهم العائلية، فيما تم احتجاز هواتفهم النقالة ولم يُسمح لهم بمغادرة المخيم منذ 1 حزيران».
صهيب عنجريني
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد