حكايات من 1600 يوم لحامية قلعة حلب
بمحاذاة تلةٍ واسعة من الركام إلى جوار قلعة حلب، يجول «إ» العقيد في الجيش السوري بعينيه نصف المفتوحتين بحثاً عن أثر. يقلبُ الأحجار وبقايا المُفخّخات، وشريطاً من الصور، موغلاً جداً في عمق الذاكرة، يهمسُ لبعض الجنود أن المهمة ستنجز قريباً. هنا كان فندق «الكارلتون» الأثري، قبل أن يُحوّله نفقٌ ملغم حُفر أسفل الفندق تماماً إلى طبقات سميكة من الردم الثقيل، طمرت تحتها رفاقاً لهم.
طيلة أسبوع كامل، ظلّ الجنود في نقطة عسكرية عند «الكارلتون» يستمعون ليل نهار إلى أصوات حفر الأنفاق، «حاولنا حفر نفق كي نُؤخّرهم لأيام أو ساعات، لكن العملية لم تنجح ولم يتمّ اعتراض نفقهم». جاء الأمر بالانسحاب بعد إبلاغ القيادة العسكرية أن الحفر بات قريباً جداً، لكن الجنود اتخذوا قرارهم بالبقاء في المنطقة ظناً منهم أنه في حال إخلاء المبنى، فمن المحتمل أن يحتله المُسلّحون من دون أن يفجروه، ما سيُشكّل خطراً كبيراً على قلعة حلب الملاصقة. قرار الثبات في النقطة كان خيارهم الوحيد للمُقاومة والصمود، كان الثمن الأكثر كلفةً لإنقاذ القلعة، لكن الأرض التي تشبّث الجنودُ بأهدابها حتى اللحظة الأخيرة، ابتلعتهم إلى الأبد.
يستعيد المُجنّدون تلك اللحظات بغصّةٍ يتغلّبون عليها بمشقّة بالغة. أيّ ذاكرة جعلتهم يتذكّرون بدقّة صباح الثامن من أيار 2014، تمام العاشرة و17 دقيقة، لحظة تفجير النفق. كلّ الجنود قضوا في التفجير، ولا زال 70 شهيداً تحت أنقاضه إلى هذا اليوم. لم يشف الجنود من ذاكرتهم عن الحادثة الأليمة حتى لو رغبوا، الأجساد الفتية الرشيقة تحت الأنقاض، الشظايا المتطايرة في كل مكان وصولاً إلى جدار القلعة، الناجي الوحيد الذي خرج ليُحضر الماء، فطمرت الأنقاض بعضه وصارع الموت لساعات قبل أن ينتصر ويُنقذه الرفاق.
لم يحتلّ المُسلّحون «الكارلتون». أقام الرفاق على رفات الرفاق مراكز حراسة ميدانية، ودشماً وسواتر، «أهم شي الشهداء.. شباب بعمر العشرينات.. كانوا دائماً الأوائل بالإقتحامات.. كانوا الأشجع.. نحنا فرحنا فرحتنا بالتحرير لما دخلنا على الجامع الكبير واسترجعناه، بس هنن ما عاشوا هاللحظة، ويمكن لهلأ ما عرفوا أنو الحرب بحلب انتهت».
40 تفجيراً في حلب القديمة وحدها
عشرات الأنفاق التي تمّ اعتراضها بأنفاق معاكسة، حفرها المُسلّحون في حلب القديمة، وأخرى فُخّخت ونُسفت. حتى قلعة حلب طالها الحفر، أحد الأنفاق أوصل المُسلّحين في إحدى المرّات إلى داخل القلعة، وجرى الاشتباك مع حاميتها في أعالي القلعة الشاهقة، قبل أن يُقتل جميع المُتسلّلين.
هناك في إحدى النقاط العسكرية المُحصّنة، لا يزال مقرّ الفرقة الخاصّة على حاله. أكياس رملية بيضاء اتُّخذت دشما وسواتر، نوافذ للرصد والاشتباك عبر الجدران، ساعة قديمة، عكازان لأحد الجرحى، قطة صغيرة تلوذ بالجنود، هكذا صمدوا وهكذا أكملوا حياتهم. وفي نقطة كاشفة تربض قلعة، تُشرف على كامل المدينة من جميع جهاتها، هي إحدى أشهر قلاع العالم، وكانت المُرتفع الأكثر أمناً لإقامة مقارّ الحُكم المُحصّنة لمدينة حلب عبر تاريخها الطويل جداً. لا يرفّ جفنٌ لحُرّاس القلعة وحاميتها وهم يتجمّعون حول حطب ومدفأة، ينبشون الذاكرة الحيّة عن الأعوام الأربعة التي قضوها في حراسة المدينة القديمة وقلعتها. «كانت حرب عصابات وكان هناك مدنيون بادئ الأمر، التعامل العسكري مع المنطقة كان صعباً للغاية.. آثار وتاريخ ممتد، مدنيون، حفرٌ وأنفاق، وتفجيرات في بطن الأرض تارة وعلى وجهها أخرى».
40 تفجيراً أحصاها المُقاتلون في حلب القديمة وحدها، كان أضخمها في منطقة دوار السبع بحرات، وقُدّرت قوة التفجير بـ5.6 على مقياس ريختر .»كان بمثابة زلزال وكان الأضخم. سبعة أبنية انهارت بالكامل.. مدرسة الصناعة نزلت على الأرض.. وبناء الكهرباء أيضاً، هزّة التفجير شعر بها الجميع في حلب وريفها، وحتى إحدى الدبابات طارت في الهواء وانقلبت على رأسها». في ذلك اليوم، دُبّرت سلسلة تفجيرات، ستة بين مُفخّخات وأنفاق خلال ساعات، استهدفت كل الطرق المؤدية إلى قلعة حلب بهدف قطع الإمداد عن حامية القلعة، لقد فخّخوا كل الطرق ونسفوها لمنع دخول السلاح الثقيل والمؤازرات، وكانت تلك أعنف الهجمات على القلعة على الإطلاق. «كان الشباب يعرفوا في تحتن تفجير وما ينسحبوا شبر، مهامنا كانت تتمثّل فقط بالحفاظ على نقاطنا بالمدينة القديمة والقلعة، ولقد حافظنا عليها»، يقول أحدهم.
أنفاقٌ للتفجير وأخرى للإمداد
الإمداد إلى القلعة كان سابقاً يتمّ ليلاً، يحمل الجنود على الأكتاف المؤن والذخيرة، ويتسلّلون تحت رداء الظلام إلى درج القلعة، قبل أن يستحيل ذلك في فترات لاحقة. حفر الجنود نفقاً من القلعة وإليها، والتقت الأيدي التي تحفر في جوف الأرض. عبر النفق وطيلة عامين، كان يتمّ تبديل نوبة الحرس وتأمين المؤن والذخائر، ولربما من الصادم أن يُطلعك الجنود على أعداد الحرّاس في القلعة ومحيطها: «في بعض المرّات كان العدد لا يتجاوز ستّة مُقاتلين، كانوا قادرين على فتح جبهة مع العدو تُشعره وكأننا بالمئات».
كأصحاب الكهف كانت الشمس تطلع وتغيب على قلعة حلب، تحسبهم يقظين وهم راقدون، تحسبهم كثرة وهم قلّة، ولهم كلبهم. لا يُفارق «روكي» صحبتهم، تآلف مع حياة الحرب والجنود والعسكر، وبقي في القلعة طيلة أعوام. «كان يُخيف المُسلّحين ويسدّون الطلاقيات عندما يسمعون صوته»، يقول أحد المقاتلين قبل أن يقفز الكلب ويمد يده بالمصافحة عندما سمع منه عبارة «روكي سلِّم». يرقصان قرب النار بفرح، يبدو «روكي» وكأنه يُدرك كل ما جرى.
في رحلة البحث عبر الذاكرة، يحفر حرّاس القلعة تاريخ السابع من كانون الأول 2016 بعمق، لحظة التقاء القوات المُتقدّمة مع حامية القلعة، «كانت أول مرة منمشي على درج القلعة بعد سنين. بكينا وسجدنا، وعانقنا الحرية بأحضان رفاقنا اللي وصلوا لهون، تعلمنا الصبر من هالقلعة ومن أهل حلب».
غادر جزء من حامية القلعة إلى تدمر وجبهات أخرى بعيدة فور تحرير المدينة، وسيُغادر من بقي منهم خلال أيام. «وداع القلعة أكيد صعب، لكنه أقلّ صعوبة من وداع الشهداء» يقول أحد قادة الفرق في القوات الخاصة في الجيش السوري، والذي خسر 48 من أصدقائه الشهداء هنا. عندما سألته عن الحرب أجاب: «الحرب خلصت من زمان.. المعركة الآن هي في قدرتنا على العودة إلى قيمنا وأخلاقنا وآدميتنا».
وأسأله: شو يعني القلعة؟ «القلعة هي حلب، هي التاريخ كله، هي عاصمة العاصمة الثانية لسوريا وقطب رحاها، هي حاجز الصد الأهم عن كل هذه المدينة وعن كل هذه البلاد، وسيحكي التاريخ في يوم من الأيام أننا كنا قلّة، دافعنا عن وحدة سوريا، ومنعنا سقوط مدينة كاملة، أحياناً بأجسادنا فقط».
وهكذا صمدت القلعة طيلة 1600 يوم، هي حلب القلعة، مشوقة المتنبّي التي حار فيها الشعر والوصف، العتيقة، المكتملة، ربة الوجه الصبوح، وصاحبة القد الميّاس والقدود، المليحة بخمار نصرها، وقد فعلت وارتكبت كل الجمال الذي لا يُسبى، ليبقى الناسك المُتعبّد على أدراجها العزيزة يُمارس غواية الافتتان بحجرٍ أنطق كل من زاره شعراً وقصائد.
زهراء فارس
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد