حوار في العمق: من أجل التقريب الحقيقي بين المسلمين (7-7)
الجمل: بعد هذه الجولة نوجز وجهة نظرنا في المشروع التقريبي بما يلي :
1- إن التقريب الحقيقي الأمثل هو التقريب الذي يتحقق عن طريق تصحيح التراث الإسلامي وتنقيته من الأخبار والمفاهيم الدخيلة التي تراكمت في عصور النزاع، ولعبت الدور الأساس في تحويل النزاع السياسي إلى نزاع ديني طائفي.
2- إن وجود الإسرائيليات والأحاديث الموضوعة في مصادر المسلمين أمر مُسلّم به عند الجميع، وإن التدّين بها أمرُ مَحّرم عند الجميع أيضاً.
3- لقد لعب الغُلاة والَنواصِبُ دوراً بالغ الخطورة في تأصيل النزاع بين الفريقين، فقد صاغوا أهواءهم وعقائدهم الضالة في أحاديث وضعوها ونسبوها إلى النبي وأهل البيت والصحابة، فانتقلت هذه الأحاديث إلى مصادر المسلمين، فكان من الطبيعي إذن أن تترك آثارُها على آفاق التفكير العقائدي وكثير من المفاهيم، فما زالت أحاديثهم مبثوثة في مصادرنا، وما زالت الناس تقرأها: علماؤهم ومثقفوهم وطلبتهم وأوساطهم العامة، ويسمعها بسطاؤهم وجهالهم، حتى كانت سبباً رئيساً في هذا التشويش والاضطراب الملموس في عقائد الناس وتصوراتهم لكثير من المفاهيم، وهذا واقع ملموس قديماً وحديثاً.
وللتفصيل في هذه الظاهرة نبتدئ بمقولة الشيخ عبد الحسين مغنية : إن الداعين من السُنَّة إلى التهجم على الشيعة يحتجون بأقوال الغُلاة المرفوضين أصلاً من الشيعة، وإن الداعين من الشيعة إلى التهجم على السُنّة يحتجون أيضاً بأقوال الغُلاة من السنة – يريد بهم النواصب – لهذا يبدو أن الغلاة من الطرفين يشكلون فريقاً واحداً يصح فيه تسمية (الفريق الثالث) مهمته ضرب الإسلام وتمزيق المسلمين (1).
والحق أن هذه الصورة تمثل النصف فقط من الصورة الكاملة للأثر الذي تركه هذا الفريق الثالث. وأما نصفها الثاني: فيتمثل بتأثر كل فريق بأحاديث غلاته المنتسبين إليه في تصوره للفريق الآخر. فالشيعي قد ينظر إلى بعض المفاهيم التي تتصل بأهل السنة من خلال مجمل التراث الشيعي الذي امتزجت فيه أحاديث الغلاة وعقائدهم. وليس أدل على ذلك من سب بعض الصحابة الذي يجري على ألسنة بعض العوام وليس له مصدر قطعاً إلا أحاديث الغُلاة :
- فالإمام محمد حسين آل كاشف الغطاء يقرِّر أن الذي في أخبار أئمة الشيعة النهي عن ذلك(2). والسيد الشهيد محمد باقر الصدر يصف جيل الصحابة فيقول: بوصفهم الطليعة المؤمنة والمستنيرة، كانوا أفضل وأوسع بذرة لنشء رسالي، حتى إن تاريخ الإنسان لم يشهد جيلاً عقائدياً أروع وأطهر وأنبل من الجيل الذي أنشأه الرسول القائد (3). والشيخ محمد جواد مغنية ينفي أن يكون لسب الخصوم السياسيين لأهل البيت صلة في التشيع (4). والشيخ الدكتور أحمد الوائلي يقطع بأن هذا السب لم يظهر علي لسان أحد من شيعة على (ع)، لا في عهد علي (ع) ولا بعده في الجيل الأول من أجيال التابعين (5).
- أما الشيخ جعفر سبحاني فقد ناقش جملة من أحاديث المطاعن عامّة، وليس السب فقط، فطعن في أسانيدها، ثمّ قال: وظنّي أنّ هذه الروايات – المطاعن- صدرت من الغُلاة والحشوية، دعماً لأمر الولاية وتغابناً في الإخلاص، غافلين عن أنّها تُضاد القرآن الكريم وما روي عن أمير المؤمنين وحفيده سيّد الساجدين من الثناء والمدح لعدّة من الصحابة. (6)
ومع قسم آخر من أحاديث المطاعن وقف على حصيلة أُخرى، فقال: أمّا سبّ الصحابة ولعنهم، أو ارتدادهم عن الدين بعد رحلة الرسول، أو عدم حجية رواياتهم على وجه الإطلاق، فإنّها تُهم أُمويّة ناصبيّة اتّهم بها شيعة آل محمد عليهم السلام وهم براء منها، ونعِمَ الحكم الله.(7)
ومن الناحية الأخرى : السُنّي قد ينظر إلى بعض المفاهيم التي تتّصل بالشيعة والتشيّع من خلال مجمل التراث السنّي الذي امتزجت فيه أحاديث النواصب وعقائدهم، وليس أدلّ على ذلك من جهل عامتّهم بمنزلة أهل البيت وتفضيل آخرين عليهم ممن هم أدنى منهم بكثير علماً وديناً وفضلاً وكرامةً، حتّى إنّ منهم من يضيق صدره لذكر أهل البيت عليهم السلام مع كثرة ما يقرأه من آيات كريمة وأحاديث صحيحة في منزلتهم الخاصّة عند الله ورسوله.
وهكذا أصبح الصحابة وأهل البيت وكأنّهما محوران متضادان لعقيدتين لا يمكن أن تلتقيان في يومٍ ما. وباجتماع هذين الشطرين تكتمل الصورة الحقيقية لأثر الغُلاة والنواصب في عقائد المسلمين ورؤاهم.
يؤكّد السيد محمد حسين فضل الله هذا المعنى بقوله: إنّ القضيّة هي أن هناك إلحاحاً على أن لا يكتشف المسلمون فكرهم، أن لا يكتشف السُنّي الفكر الشيعي الأصيل الذي ينطلق من خلال القواعد الإسلامية الأصلية، وأن لا يكتشف الشيعة فكر السنة الأصيل الذي ينطلق من خلال القواعد الإسلامية، المهم أن يبقى الشيعة يتحدّثون أن السُنّة غصبوا الإمام علي (ع) موقعه، وأن يتحدث السنة أن الشيعة يسّبون الصحابة.
وهكذا أن يلتقط الفريق المخابراتي أو الفريق المتخلِّف الخاضع للفريق المخابراتي، أن يلتقط ما في كتب الشيعة من خرافات، وما في كتب السُنَّة من خرافات، وكتبنا مليئة بالخرافات، وما أنطلق هنا من حديث موضوع وضعه كذاب غالٍ، أو حديث هناك وضعه كذاب منحرف، من دون أن يسمحوا بوجود دائرة مستديرة أو مستطيلة ليجتمع علماء الشيعة والسنة ليتحدثوا عن كل ما يفكِّر فيه كلٌ منهم، أو كل ما يحمله كلُّ منهم عن الآخر من أفكار(8).
4- إن حرية التفكير حق للجميع، والاجتهاد حق لمن تأهل له، لكن هل يصح أن يتمتع دعاة الفتنة بهذا الحق، فلا يقف أحد بوجه دعوتهم، أو يستنكر عليهم ذلك بما يمتلك من أساليب الاستنكار؟ وإذا كانت مواجهتهم والاستنكار عليهم مطلوبة، فهل من سبيل إلى تنظيم هذه المواجهة؟ فلعل تنظيم هذه المواجهة، إن صحت، سيكون لمسة من لمسات التقريب وأثراً من آثاره...
إن الخطر الكبير الذي يواجه المسلمين اليوم من الداخل هو هذه الدعوات الشيطانية إلى تأجيج النزاع الطائفي خدمةً لأعداء الإسلام الذين تكالبوا على الإسلام والمسلمين، وبالخصوص في السنوات الأخيرة وبعد انهيار التوازن الدولي. وبدلاً من أن يتوجه المسلمون نحو تنظيم قواهم وتوحيد صفوفهم أمام هذا العدوان المتواصل – وهم قادرون على ذلك.
لو أرادوا ـ ترى هذه الدعوات التمزيقيّة تتصاعد وتشتدّ مع تأزّم أوضاع المسلمين وازدياد حاجتهم إلى التآلف.
إنها عملية مشبوهة بلا ريب.. وربما كانت الصحوة الإسلامية الصاعدة هي المستهدف الأول فيها.. ولكنها على أية حال حملة يَتَصدرُ قائمةَ رجاِلها أسماءُ كثيرٍ من طبقة علماء الدين!!
فلا بدّ أن يكون لدعاة التقريب ـ وعلى رأسهم علماء الدين والحركات الإسلامية المجاهدة ودُور التقريب والمثقفون الإسلاميون ـ الدور الكافي في التصدي لأولئك وكشف حقائق أغراضهم الشيطانية وإحباط مخططاتهم.
5- وأخيراً..
فإن المشروع التقريبي الأمثل الذي يتمّ عبر ثورة التصحيح لا بدّ أن يمرّ أولاً بمرحلة التمهيد، ليجتاز فيها مجموعة من المقدّمات العملية التي تضمن له إمكان الانتقال من حدود الأفكار والتخطيط، إلى حيز التنفيذ والتطبيق. ومن أهم هذه المقدمات التي تشكل مرحلة التمهيد :
أ- تحقيق المستوى الكافي من الوعي بمسؤولياتنا تجاه الإسلام والأمة المسلمة.
ب- إحياء مبدأ وحدة المصير الذي يربط جميع المسلمين في أنحاء الدنيا مهما اختلفت مواقعهم على الواقع والخارطة السياسية الآن.
ج- إزاحة الحواجز النفسية المتراكمة فينا تجاه بعضنا، والتي لم ترتكز على دليل من علم، ولا حجة من عقل، ولا أساس من دين.
د- توجيه النقد العلمي الهادئ لأسباب النزاع الطائفي ومصادره.
هـ- التركيز على المبادئ المشتركة بين المسلمين، وأوجه التقارب، والجهود التقريبية الكثيرة عبر التاريخ.
و- التصدي للدعوات التخريبية المضادة وتوعية الجماهير ضدها توعية كفيلة بإحباط آمالها.
ز- مناصرة وتأييد الصحوة الإسلامية بكل الأساليب والوسائل الممكنة لحمايتها والحؤول دون سقوطها، لأن سقوطها يعني سقوط هذه الأمة من جديد في الهوة السحيقة التي يعدها الغربيون لها اليوم، والكف عن توجيه اللوم والتقريع لبعض مواقع هذه الصحوة بسبب خطأ يرتكبونه عبر طريقهم الشاق والمضني والذي لا يدرك تعقيداته إلا من يسلكه معهم، فإن هذه النغمات التي تبدو إصلاحية إنما تزيد في الخناق المُسلَّط عليهم، كما أنها سوف لا ترضي أعداءنا عنّا. (وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ) (البقرة2/120).
ح- تتم معالجة الفقرات المتقدمة عن طريق: الخطب المباشرة، وأشرطة التسجيل، وأشرطة الفيديو، وصفحات الصحف والمجلات الإسلامية والثقافية الأخرى وإن لم تكن ذات طابع إسلامي، والنشرات الصغيرة الكثيرة الانتشار، والكراسات الصغيرة، والكتب، والاتصالات المباشرة وغير المباشرة بين المهتمين بهذا المجال.
وينبغي لمجمع التقريب أن يتبنى دوراً فعالاً في خلق ودعم وإغذاء وإدامة هذه الخطوات.
ونستطيع أن نقول واثقين : إن تلك المقدمات لو تحققت لوحدها لتحقق واقع جديد، و لأحسسنا بروح جديدة تجري بين جوانحنا، ولرأينا مستوىً من التقارب وحسن الظن بين أبناء هذه الأمة يرفع من مكانتها بين الأمم، ويُفوِّت على أعدائها كثيراً من فرص النفوذ المُهّيئةِ لهم الآن في ظل هذا الواقع المعاش اليوم.
(وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) (العنكبوت 26/69)
(وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ) (الحج 22/40)
(وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ ) (آل عمران 3/103)
الهوامش :
(1) مقدمة كتاب الجوامع والفوارق بين السنة والشيعة : 9.
(2) أصل الشيعة وأصولها: 13 بيان للمسلمين مطبوع في مقدمة الطبعة الرابعة عشرة، وانظر كلامه رحمه الله في ذكر الخلفاء وعموم الصحابة في ص 84-94، وآخر ص 124- 125 من هذه الطبعة.
(3) بحث حول الولاية: 48 الكتاب الرابع في ج 11 من المجموعة الكاملة.
(4) الشيعة في الميزان / محمد جواد مغنية : 15.
(5) هوية التشيع / الدكتور أحمد الوائلي: 38-39.
(6) مع الشيعة الإمامية في عقائدهم /جعفر السبحاني : 181.
(7) مع الشيعة الإمامية في عقائدهم / جعفر السبحاني: 183.
(8) من مقالة له بعنوان : السيد عبد الحسين شرف الدين الشخصية المتعددة الجوانب / ضمن كتاب: الإمام السيد عبد الحسين شرف الدين مصلحاً ومفكراً وأديباً : 152-153.
صائب عبد الحميد
الجمل
إضافة تعليق جديد