دولة العراق في عراء الخيانات وظلام «داعش» وهجمات على تكريت وسامراء واحتلال مصفاة بيجي
غفت الموصل ليلة أخرى في عين العاصفة. لم يغير من بؤسها كل التصريحات والمواقف التي صدرت عن مختلف القوى السياسية العراقية، أو الإقليمية والدولية، والكلام عن مؤامرات وخيانات وتخاذل.
لكن مشهد الأمس، حددته العناصر البارزة التالية: الأزمة تتجه الى تصعيد عسكري واسع، مع استمرار تمدد تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش)»، واحتلال تكريت والتحرّش بمدينة سامراء مجدداً والاستيلاء على مصفاة بيجي النفطية، فيما ألمح رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي إلى احتمال نشوء ما يشبه المقاومة الشعبية ضد «داعش»، وحديث السيد مقتدى الصدر عن تشكيل سرايا مسلحة لحماية المراقد المقدسة، فيما كانت صورة الحدود المفتوحة بين مناطق المسلحين في العراق وسوريا وعمليات نقل العتاد والأسلحة، تطرح تساؤلات إضافية عن وجهة العراق والمنطقة عموماً، من دون أجوبة شافية.
وفي الوقت الذي وجدت فيه تركيا نفسها متورطة بوضوح في النزاع العراقي بعد استيلاء «داعش» على قنصليتها في الموصل واحتجاز عشرات الرهائن الأتراك، ما اجبرها على دعوة حلف شمال الأطلسي إلى اجتماع عاجل، كان من اللافت استمرار الصمت المريب لغالبية العواصم العربية، خصوصا في الخليج، فيما برزت أمس، مواقف كل من دمشق وطهران، وهما تعرضان على بغداد تعاونا لمواجهة الأزمة.
كما أن المؤكد في تطورات اليومين الماضيين أن كل المكونات العراقية ستجد نفسها خاسرة، أولا أن العراق الممزق لن يكون سوى مصدر للنزاعات بين مذاهبه وقومياته، وثانياً لأن التشرذم سيدفع ثمنه الشريك السني في الحياة السياسية إن صح التعبير، باعتبار أن تمدد «داعش» سيلتهم رصيده في الشارع في وقت قد يجد الاكراد انفسهم مضطرين الى مواجهة «الجهاديين» في قلب كردستان، ومناطق النزاعات النفطية، بينما سيلوح امام شيعة العراق «شبح» حقبة صدام، بعدما أكدت التقارير أمس ظهور مسلحي الجماعة النقشبندية بقيادة عزة ابراهيم الدوري، الى جانب «داعش» في المواجهات التي خاضوها مع الجيش العراقي.
وتظل الأسئلة كثيرة: ما هو حجم الخيانات في صفوف قيادات الجيش العراقي؟ وماذا سيعني ذلك على استقرار الحكم والدولة؟ وهل ستنجح الملاحقات التي بدأتها قيادة الجيش ضد الضباط المتخاذلين في انقاذ المؤسسة العسكرية؟ وهل يسقط العراق في فخ الاقتتال الطائفي مثلما جرى في عامي 2006 و2007؟ وهل سيكون هناك تقارب بين بغداد وأربيل لمواجهة «الخطر الداعشي»؟ ام ان البديل سيكون اعادة تنشيط قوة «الصحوات السنية» لقتال تنظيم «الدولة الاسلامية»؟
وتتوالى الاسئلة: ماذا يعني استمرار التجاهل السعودي للمأساة العراقية المتجددة؟ وماذا سيعني الغمز الإيراني من الصمت السعودي عما يجري في العراق ومطالبة طهران الرياض باتخاذ موقف صريح؟ وما هي المصلحة الاميركية في تباطؤ تسليم المشتريات العسكرية لحكومة بغداد وتأخير اعادة تأهيل سلاح الجو العراقي؟ ولعل السؤال الابرز هو الى متى ستظل الموصل، وغيرها من المدن والبلدات منكوبة بالسيطرة «الجهادية»؟ وبمعنى آخر، الى متى سيحتمل الوضع العراقي والاقليمي، بقاء الموصل خارج سيادة الدولة، ويصدر قرار يبدد المعادلة الميدانية التي استجدت؟
وبالتوازي مع محاولات الحكومة العراقية استعادة زمام المبادرة، أمس، فقد كانت خريطة الحراك الإقليمي والدولي تجاه الأزمة العراقية لافتة حيث تصدرته أبرز العواصم، إضافة إلى مجلس الأمن الدولي.
وعبرت الولايات المتحدة، أمس، عن قلقها من الوضع الأمني المتدهور في العراق وتعهدت بتقديم «أي مساعدة ملائمة» للحكومة العراقية للتصدي للهجمات المتزايدة. وفي وقت، أوضحت جين بيساكي أنّ وزارة الخارجية الأميركية لا تملك تأكيداً للأنباء التي أفادت أن المتشددين في طريقهم إلى بغداد، قالت إنّ «الوضع مائع للغاية على الأرض. ونحن قلقون جدا بالطبع من تدهور الوضع ولكن ليس لدي تأكيد لهذه الأنباء». كما لم تؤكد علم واشنطن بالسيطرة على مصفاة بيجي.
وسئلت بيساكي عما إذا كانت الولايات المتحدة تدرس مساعدة الحكومة العراقية في استعادة السيطرة على أراضيها، فقالت إن واشنطن أرسلت شحنات من المعدات العسكرية إلى الحكومة هذا العام وكثفت التدريب لقوات الأمن العراقية. وأضافت «نحن نعمل مع القيادات العراقية في مختلف أنحاء البلاد لدعم رد منسق ويمكن أن تتوقعوا أن نقدم مساعدات إضافية للحكومة العراقية لمحاربة التهديد القادم من تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام... لست في موقع يؤهلني لشرح المزيد في هذه النقطة».
وتابعت إن وزير الخارجية الأميركي جون كيري تحدث عبر الهاتف إلى نظيره التركي أحمد داود أوغلو والمسؤولين العراقيين بشأن الهجوم على القنصلية التركية في الموصل حيث احتجز المتشددون المسلحون ديبلوماسيين وأطفالا. وقالت «نحن على تواصل مع حكومتي تركيا والعراق ومستعدون لتقديم أي مساعدة ملائمة».
بدورها، عبّرت وزارة الخارجية الروسية عن «القلق الشديد» مما يجري في شمال العراق ومن التطورات الخطيرة هناك، مشيرة إلى وجود دلائل على محاولات «داعش» توسيع مناطق سيطرتها في الأراضي العراقية. وتعليقا على تصريحات من واشنطن وغيرها من العواصم الغربية حول التطورات الأخيرة في العراق، أعربت الخارجية الروسية عن أملها بأن يعلن جميع أعضاء المجتمع الدولي «رفضا قاطعا لا لبس فيه للإرهاب ويتجنبوا التعاطي الانتقائي في تقويمه».
وأعربت الخارجية، في بيان، عن أسفها من اعتماد «معايير مزدوجة في تقويم نشاطات جماعة واحدة هي داعش في كل من العراق وسوريا». وأشارت إلى أن النشاط الإرهابي بات يكتسب بعدا إقليميا على نحو متزايد، بما لذلك من تأثيرات سلبية واسعة النطاق لا يمكن تفاديها على شعوب المنطقة واقتصادات دول الشرق الأوسط، إضافة إلى تهديد وحدة أراضي دول المنطقة.
دولياً أيضاً، قال وزير الخارجية البريطاني وليم هيغ، أمس، إنه «من غير الوارد» إعادة إرسال قوات بريطانية إلى العراق. وأضاف «تركنا العراق بأيدي القادة العراقيين المنتخبين مع قوات مسلحة ومع قواتهم الأمنية الخاصة وبالتالي فإن إدارة الأمر تعود إليهم في المقام الأول»، مشيراً في الوقت ذاته إلى انّ بريطانيا ستقوم «بكل ما هو ممكن لتخفيف المعاناة الانسانية وبالطبع حل الازمة الطويلة في سوريا» التي «تزعزع استقرار العراق». وبعدما أبدى «قلقه» إزاء الوضع، دعا الوزير البريطاني إلى تشكيل «سريع لحكومة جديدة» في العراق بعد إقامة الانتخابات التشريعية في 30 نيسان الماضي.
وفي السياق ذاته، دان أعضاء مجلس الأمن الدولي أيضا «الهجمات الإرهابية الأخيرة المرتكبة ضد الشعب العراقي في محاولة لزعزعة الاستقرار في البلاد والمنطقة».
إقليمياً، برز أمس الاتصال الذي أجراه وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف بنظيره العراقي هوشيار زيباري، حيث أكد له «ضرورة دعم الأسرة الدولية للحكومة والشعب العراقي»، معتبرا أنّ «زمرة داعش وباقي الزمر التكفيرية أعداء للشعب العراقي»، وفق ما نقلت وكالة الأنباء الإيرانية. وأعلن ظريف عن دعم بلاده «للحكومة وللشعب العراقي في مواجهة الإرهاب».
بدورها، اعتبرت السلطات السورية، أمس، أنّ «الإرهاب» الذي يواجهه كل من العراق وسوريا واحد، مبدية استعداد دمشق للتعاون مع بغداد «من أجل مواجهة هذا العدو المشترك».
وكان الحراك التركي المتابع أساساً لقضية المواطنين الأتراك الرهائن في الموصل الأبرز، حيث عقد سفراء الدول الأعضاء بـ«حلف شمال الأطلسي» اجتماعا طارئا، مساء أمس، بناء على طلب أنقرة لبحث الوضع في شمال العراق. وقال مسؤول في الحلف «أطلعت تركيا الحلفاء الآخرين على الوضع في الموصل واحتجاز مواطنين أتراك بينهم القنصل العام رهائن».
وتابع إنّ الاجتماع عقد لأغراض الإطلاع على المعلومات وليس بموجب المادة الرابعة من معاهدة تأسيس الحلف والتي تسمح لأي عضو بطلب التشاور مع الحلفاء عندما يشعر بتهديد لسلامته الإقليمية. وأضاف المسؤول «يواصل الأعضاء متابعة الأحداث عن كثب بقلق بالغ»، مضيفاً أنّ الهجمات التي ينفذها متشددو «داعش» تمثل «تهديدا خطيرا لأمن العراق ولاستقرار المنطقة». وجدير بالذكر أنّ أنقرة لجأت مرتين للفقرة الرابعة العام 2012 لطلب إجراء مشاورات مع الدول الأعضاء بشأن الصراع السوري.
وتوعد وزير الخارجية التركي احمد داود اوغلو مقاتلي «داعش» بـ«أقسى رد» إذا الحقوا ضررا بالمواطنين الأتراك. وقال اوغلو، في تصريح بثته وسائل الإعلام التركية مباشرة من مقر الأمم المتحدة في نيويورك، «على كل الأطراف أن يعلموا بأنهم سيتعرضون لأقسى رد إذا الحقوا حدا أدنى من الضرر بمواطنينا». وأكد «انهم بخير»، مضيفاً «أمرنا بإخلاء (القنصلية) قبل يومين ولكننا ابلغنا بأن مواطنينا سيتعرضون لخطر اكبر اذا كانوا خارج القنصلية»، لافتا الى ان «اولويتنا الان هي اعادة مواطنينا احياء الى بلدهم، وهو امر اكثر اهمية من اتخاذ مبادرات مهما كان نوعها».
ووسط تضارب التقديرات بشأن عدد الأتراك المحتجزين، التي وصلت خلال النهار إلى 80، عادت وزارة الخارجية التركية في وقت لاحق وقدرت العدد في بيان بـ49 شخصا. وكان مقاتلو «الدولة الإسلامية» احتجزوا في بداية الأزمة أيضا 28 سائق شاحنة تركيا.
عربياً، كان بارزاً الموقف الكويتي، حيث أجرى رئيس الوزراء الشيخ جابر المبارك الحمد الصباح اتصالا هاتفيا بـ«أخيه» العراقي نوري المالكي، فيما أعرب وكيل وزارة الخارجية خالد الجارالله عن ثقته في «قدرة الحكومة العراقية على احتواء التطورات الأخيرة الخطيرة» على امن العراق وامن المنطقة. وردا على سؤال حول مدى خطر تنظيم «داعش» على الكويت أوضح، «بكل أسف تهديدات (داعش) ليست خطرا على الكويت فقط ولكن على المنطقة كلها وعلينا ان نكون حذرين وان ننسق بيننا وان نحصّن جبهتنا الداخلية في الكويت وفي جميع دول المجلس». وأضاف أنّ «تهديد (داعش) مباشر وحقيقي علينا وعلى دول المنطقة»، مشددا على ضرورة الوعي بخطورة هذه التهديدات «وأن نتصرف بما يحقق لنا تحصين جبهتنا الداخلية لتعزيز قدرتنا على مواجهة هذه التهديدات الخطيرة والمتزايدة».
وفي التطورات العراقية الداخلية، كان رئيس الوزراء نوري المالكي يرمي بثقله خلف القوات الأمنية لاستعادة زمام المبادرة، متحدثاً في الوقت ذاته عن تطوع شعبي للمشاركة في هذه المعركة، وواصفاً ما حصل في نينوى قبل يومين بـ«المؤامرة»، في وقت كانت الجماعات المسلحة، تتقدّمها «داعش»، تواصل اكتساحها مساحات في الأراضي العراقية تقع بين شمال بغداد وجنوب مدينة الموصل، لتُسقط مدينة تكريت في قلب محافظة صلاح الدين، وسط أنباء غير مؤكدة عن احتجاز محافظ صلاح الدين أحمد الجبوري. (تفاصيل ص 10)
وواصل تدفق النازحين الهاربين من أحداث ثاني اكبر مدن العراق إلى إقليم كردستان المجاور والى مناطق أخرى قريبة، أمس، حيث بلغ عددهم أكثر من 500 الف شخص، بحسب ما أعلنت «المنظمة الدولية للهجرة». وقالت المنظمة إنّ «هناك عددا كبيرا من الضحايا بين المدنيين»، مشيرة إلى أنّ «مركز العلاج الرئيسي في المدينة المؤلف من أربعة مستشفيات لا يمكن الوصول اليه نظرا لوقوعه في مناطق معارك». وأضافت انه «تم تحويل مساجد إلى مراكز طبية لمعالجة الجرحى». وتابعت أنّ استخدام السيارات ممنوع في المدينة والسكان يفرون سيرا على الأقدام ومياه الشرب مقطوعة عن محيط الموصل بينما الاحتياطي الغذائي ضئيل.
وبرز، ليلاً، الاجتماع الذي عقده رئيس «التحالف الوطني» إبراهيم الجعفري، بحضور رئيس الوزراء نوري المالكي ورئيس مجلس النواب أسامة النجيفي ونائب رئيس الجمهورية خضير الخزاعي.
من جهته، دعا الزعيم الديني مقتدى الصدر، في بيان، إلى تشكيل «سرايا السلام» التي تهدف إلى الدفاع عن «المقدّسات». وأكد الصدر «لا استطيع الوقوف مكتوف الأيدي واللسان أمام الخطر المتوقع على مقدساتنا، المراقد والمساجد والحسينيات والكنائس ودور العبادة».
وفي خطاب بث في وقت متأخر من ليل أمس، طلب المتحدث الرسمي باسم «داعش» أبو محمد العدناني من أنصاره ومقاتليه الاستمرار في القتال حتى الوصول إلى بغداد حيث قال: «واصلوا زحفكم فإنه ما حمي الوطيس بعد.. ولن يحمى إلا في بغداد وكربلاء.. فتحزّموا وتجهّزوا». وأضاف: «لا تتنازلوا عن شبر حررتموه ولا يطؤه الروافض ثانية إلا على أجسادكم وأشلائكم.. وازحفوا إلى بغداد الرشيد بغداد الخلافة فلنا فيها تصفية حساب.. صبّحوهم على أسوارها ولا تدعوهم يلتقطوا الأنفاس». ووجه كلاماً قاسياً إلى رئيس الحكومة العراقية نوري المالكي حيث وصفه بـ«الأحيمق» وقال له حرفياً: «نعم نعم بيننا حساب طويل ثقيل ولكن تصفية الحساب لن تكون في سامراء أو بغداد بل في كربلاء «المنجسة» والنجف «الأشرك». من جهة أخرى أقر العدناني بمقتل الرجل الثاني في التنظيم بفرعه العراقي والعقل المدبر للهجمات الأخيرة أبو عبد الرحمن البيلاوي.
المصدر: السفير+ وكالات
إضافة تعليق جديد