رسائل المعلم من بغداد
زيارة وزير الخارجية السوري وليد المعلم الى بغداد يمكن اعتبارها «تاريخية» لأنها أول زيارة لوزير خارجية سوري منذ ربع قرن. لكن الفترة المقبلة ستؤكد ما إذا كانت الزيارة تحولاً في الاتجاه أم سيقتصر تأثيرها في كونها واحدة من المحاولات التي جرت سابقاً للاتفاق بين سورية والعراق.
وكان المعلم زار بغداد بين 19 و21 الشهر المنقضي، على رأس وفد رسمي مصغر ضم معاونه أحمد عرنوس ومدير إدارة الإعلام بشرى كنفناني ومدير المكاتب الخاصة بسام الصباغ إضافة الى خبراء أمنيين مطلعين على وضع العراق.
وكان لافتاً ان الرئيس العراقي جلال طالباني حرص على ان يقيم الوفد السوري في قصر الضيافة الرئاسي، مع عناية خاصة، من لحظة وصول الوفد الى مغادرته. وضمت المحادثات لقاءات مع وزير الخارجية العراقي هوشيار زيباري ورئيس الوزراء نوري المالكي ووزير الداخلية جواد البولاني ووزير المال بيان جبر صولاغ ورئيس البرلمان محمود المشهداني، إضافة الى جلسة محادثات صريحة مع رئيس «المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق» عبدالعزيز الحكيم في حضور قادة أحزاب الائتلاف الشيعي، وعشاء رسمي مع الرئيس جلال طالباني شمل جلسة مغلقة مع المعلم.
وبالتزامن مع المحادثات عقدت جلسة بين الخبراء الأمنيين السوريين ومسؤولين في الاستخبارات العراقية، كانت بمثابة «جس النبض» للوضع الذي يمكن أن تكون عليه العلاقات بين البلدين.
وبحسب المعلومات المتوافرة فإن المحادثات السورية – العراقية أسفرت عن النتائج الآتية:
1 – في المجال السياسي: أعلن استئناف العلاقات الديبلوماسية الكاملة على مستوى سفارة بعد انقطاع استمر منذ عام 1980 عندما بادر الرئيس العراقي السابق صدام حسين الى سحب سفيره من دمشق.
وبذلك تحول مكتبا رعاية المصالح في دمشق وبغداد الى سفارتين رسميتين. ومن المقرر أن يتبادل الطرفان تعيين السفيرين في القريب العاجل.
يذكر ان سورية التي «طبّعت» علاقتها مع النظام السابق في أيار (مايو) 1997 الى حين سقوطه في ربيع العام 2003، لم ترسل وزير خارجيتها الى بغداد، بل اقتصرت الزيارات على وفود اقتصادية وعلى رئيس الوزراء السابق محمد مصطفى ميرو، لحصر العلاقات بالجانب الاقتصادي.
لكن قرار الرئيس بشار الأسد إيفاد المعلم الى بغداد في هذه المرحلة، تضمن أكثر من رسالة سياسية: أولاً، رسالة الى الدول العربية بضرورة الحفاظ على «الهوية العربية» في العراق وتدعيمها. هناك من يلوم إيران على تنامي دورها في العراق، من دون الانتباه الى ان الجانب العربي هو المسؤول عن هذا «الفراغ السياسي» الذي ملأته إيران لحماية مصالحها. ثانياً، رسالة الى العراقيين، تتضمن حرص دمشق على وحدة العراق واستقراره والعمل على عدم انزلاقه الى الحرب الأهلية أو التقسيم، لأن في ذلك تهديداً للمصالح السورية ومصالح الشعب العراقي. ثالثاً، رسالة الى السلطة العراقية تضمنت تقديم سورية الدعم للعملية السياسية وللحكومة و «الاعتراف الكامل» بهذه المؤسسات وشرعيتها الإقليمية. رابعاً، رسالة الى الأطراف الدولية، تحديداً أميركا وبريطانيا، من أن سورية تريد أن تلعب دوراً إيجاباً إذا جرى احترام مصالحها الاستراتيجية.
ويأتي في السياق، إجراء تغييرات في الخطاب الإعلامي – السياسي في سورية. فالصحف الرسمية كانت تصف القوات المتعددة الجنسية في العام 2003 بأنها «قوات احتلال» مع تأييد كامل للمقاومة. ثم انتقلت في مرحلة لاحقة الى التمييز بين المقاومة ضد الاحتلال والعمليات الإرهابية ضد المؤسسات العراقية. لكن اللافت ان تصريحات وزير الخارجية السوري خلال زيارته كانت منتقاة ببراعة ديبلوماسية، حيث أشار الى أن «وضع جدول زمني لانسحاب القوات الأجنبية يساهم في وقف العنف». وكان لافتاً ان تغييراً طرأ في تغطية الصحف الرسمية، من التركيز على تصريحات رئيس هيئة علماء المسلمين حارث الضاري الى إبراز كلام المسؤولين العراقيين كالرئيس طالباني ورئيس الوزراء المالكي.
2 – في المجال الاقتصادي: أسفرت المحادثات عن الاتفاق على تشكيل لجان متخصصة للبحث في تطوير العلاقات الاقتصادية والتجارية والنفطية، وتحقق بعض التقدم في حل مشكلة الأموال المتبادلة العائدة الى فترة الحكم السابق، إذ كانت سورية حولت في دفعتين مبلغ 265 مليون دولار أميركي، مع استقبالها وفوداً مالية للبحث في موضوع الـ 500 مليون دولار التي لا يزال النزاع قائماً في شأنها. كما ان الجانب العراقي وافق على سداد نحو مئة مليون دولار الى التجار السوريين، من أصل نحو بليون دولار.
كما تناولت المحادثات البحث في ترميم أنبوب النفط الذي يربط كركوك العراقية بمدينة بانياس السورية، مع البحث في إمكان إنشاء أنبوب جديد بطاقة 1.4 مليون برميل يومياً، إضافة الى احتمال ربط العراق بشبكة الغاز العربية الممتدة من مصر الى الأردن وسورية انتهاء بتركيا.
وينوي الجانبان تطوير التعاون التجاري والعودة الى ما كان عليه في نهاية التسعينات، حين بلغ معدل التبادل التجاري نحو بليون دولار أميركي، مع تقديرات بتجاوز مكاسب سورية خمسة بلايين في فترة «التطبيع» الممتدة خمس سنوات.
3 – في المجال الأمني: الجديد في نتائج هذه المحادثات ان تطوير العلاقات السياسية والاقتصادية سيكون متزامناً مع تعزيز التعاون الأمني، بهدف جعل التعاون في مصلحة الطرفين.
وفيما طالب المسؤولون العراقيون بتعزيز إجراءات ضبط الحدود و «تفكيك» شبكات دعم «المتمردين» في العراق ووقف تمويلهم و «تسليم أو طرد» مسؤولين عراقيين سابقين بينهم نائب الرئيس عزت الدوري ومدير الاستخبارات طاهر الحبوش وعضو قيادة «البعث» محمد يونس وآخرون، فإن الجانب السوري يقدم مقاربة مختلفة تستند الى التأكيد على ان دمشق اتخذت إجراءات لضبط الحدود بعد احتلال العراق عام 2003 بما يشمل زيادة عدد المخافر الحدودية لتصل الى 557 مخفراً يخدم فيها نحو خمسة آلاف عنصر، إضافة الى 25 دورية أمنية ترفد هذه القوات، الأمر الذي أدى الى توقيف نحو 1600 شخص والتحقيق مع أربعة آلاف سوري.
وهناك تأكيد على ان ضبط الحدود مسؤولية سورية – عراقية، مع انتقاد الإدارة الأميركية لطلبها في العام 2004 توفير الوسائل الفنية للمراقبة وتراجع لندن عن تقديم مليون جنيه استرليني لشراء 700 جهاز رصد ليلي.
وكان الجانبان توصلا خلال زيارة رئيس الوزراء الأسبق إياد علاوي في تموز (يوليو) 2004، الى عدد من الاتفاقات. لكن دمشق تأخذ على الحكومة العراقية عدم التجاوب مع بروتوكول ترسيم الحدود ومع الاتفاقية الأمنية الموقعة في أيلول (سبتمبر) 2005.
واتفق على قيام مسؤولين عراقيين أمنيين وسياسيين واقتصاديين، بزيارة دمشق لتشكيل لجان مشتركة تدخل في تفاصيل آليات تعزيز العلاقات بين البلدين وصولاً الى زيارة الرئيس طالباني دمشق، بحيث يجوز تشبيه «التحول» السوري نحو العراق بما حصل عام 1998 بين سورية وتركيا عندما شكل الجانبان لجاناً أمنية بعد خروج رئيس «حزب العمال الكردستاني» عبدالله أوجلان من سورية، ما فتح صفحة جديدة في العلاقات بين البلدين بلغت ذروتها بزيارة الأسد أنقرة في بداية عام 2004.
صحيح ان الهدف المباشر لزيارة المعلم مصلحة البلدين وانه لم يذهب الى العراق لـ «إرضاء أحد أو بأوامر من أحد»، لكن، لا شك في أن الزيارة – الاختراق، ستترك أثرها في النقاش داخل الإدارة الأميركية وداخل الإتحاد الأوروبي، فليس صدفة ان محادثات المعلم حصلت في هذا التوقيت: بعد لقائه رئيس «مجموعة البحث الخاصة بالعراق» وزير الخارجية الأسبق جيمس بيكر في نيويورك في أيلول (سبتمبر) الماضي. عند ظهور تسريبات من أنه سيقترح انخراط سورية وإيران، وبعد زيارة نايجل شاينولد كبير مستشاري رئيس الوزراء البريطاني توني بلير وإعلان الأخير عن ضرورة انخراط سورية، وبعد ظهور «انشقاق» داخل الاتحاد الأوروبي في كيفية التعاطي مع دمشق و «كسر جدار العزلة» الأميركي – الأوروبي.
الزيارة – الاختراق ستترك أثراً في طبيعة النقاش السياسي بين صناع القرار في أميركا وأوروبا وستقوي الأصوات الداعية الى الانخراط مع دمشق في عملية سياسية تؤدي الى حصول سورية على «ثمن سياسي» في الشرق الأوسط، خصوصاً أن هذه الخطوة تزامنت مع جهود مكثفة بذلتها دمشق مع رئيس المكتب السياسي لـ «حماس» خالد مشعل لتشكيل حكومة وحدة وطنية فلسطينية، فكأن سورية تريد القول إنها تريد أن تكون جزءاً من الحل وليس جزءاً من المشكلة.
إبراهيم حميدي
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد