سعاد جروس تكتب عن الثقافة و الملوث بالخراب

21-11-2006

سعاد جروس تكتب عن الثقافة و الملوث بالخراب

الجمل- سعاد جروس:  «كثير من الدول يعتقد ان لديه ما يكفي من الثقافة الأميركية», قال مايكل كايزر مدير مركز جون كندي للثقافة والفنون في واشنطن لمجموعة من الصحفيين خلال لقاء جرى في دمشق شرح فيه أسباب وأهداف مشروع تنظيم نشاط ثقافي عربي ضخم في أميركا العام 2009, موضحاً أن الناس في بلده يحتاجون الى التعرف على الآخرين لمعرفة أنفسهم, معتبراً أن الثقافة أهم بوابة لمعرفة الآخر. وبالمناسبة, نظم المركز في العام الماضي مهرجاناً للثقافة الصينية على امتداد شهر كامل, شارك فيه 900 شخص.
أبدى السيد كايسر خلال اللقاء كثيراً من الود والاحترام للعرب وإعجابه بكرمهم, وحرص في بداية حديثه عن مركز كينيدي على التأكيد, أن مركزه لا علاقة له بالسياسة ولا يهتم بها, فهو مركز مستقل, ربما لإزالة الجليد الذي لا شك أنه لاحظه على وجوه الحاضرين, إذ كيف للعرب والسوريين على الأخص أن يكونوا بحالة من الاسترخاء في لقاء كهذا, بعد أكثر من أربع سنوات من شد الأعصاب, مارست خلالها أميركا تهديداً «ديمقراطياً» مشيناً وعنيفاً على المنطقة عموما وسوريا خصوصا!!
واجب الضيافة اقتضى الترحيب بضيف جاء باسطاً يديه للثقافة, والإنصات إلى صوت بدا نشازاً عما تنشده الجوقة الأميركية, تركز حديثه على ضرورة تعريف الأميركيين بـ«العرب» في اعتراف غير مباشر بأن معرفة الأميركيين بسائر الشعوب ناقصة إن لم تكن مغلوطة. وبالنسبة الى العرب, ربما انتبه المثقفون الأميركيون إلى أننا لسنا مجموعة من الأشرار «الإرهابيين» الذين يقتلون الأبرياء, ولا مجموعة من الأبرار الذين تطحنهم الحرب على الإرهاب كأضحية لا بد منها على محراب الحروب المقدسة, أي لسنا هذين فقط, ثمة مجموعة أخرى من المثقفين والمبدعين, الأخيار ربما, ينبغي عليهم معرفتها, ربما أمتلك هؤلاء المفاتيح السرية لكشف مكونات الدماغ العربي المطلوب إخضاعه لعملية «فرمتة» قبل تنزيل برامج جديدة في داخله تؤهله للاندماج في المشروع العولمي الكبير.
قد نكون حملنا نيات السيد كايزر أكثر مما تطيقه أو تحتمل, خصوصا أنه لم يأتنا مبشراً, وإنما مستبشراً بالتعاون الثقافي بين الشعوب بعيداً عن السياسة, وأياً كانت الغايات لا شك في أن الدعوة تنطوي على اعتراف متأخر, وإن كان متكرراً, بأهمية ثقافة الآخر, تلك التي لم نلمس دعماً أميركياً لها يوازي الدعم الأوروبي, ولا يتناسب على الإطلاق مع حجم الولع الأميركي بتزكية النزاعات وبؤر التوتر في منطقتنا, وتحريض الفوضى الخلاقة والمدمرة لتنفيذ مشاريعها التوسعية, بدل مساعدة شعوبنا على استكمال أسباب نهوضها عبر تشجيع حقيقي للعلوم والثقافة والفكر, بما يؤهلها لاندماج حضاري عميق وراسخ.
دأبت أميركا على تعميم ثقافة الرخاء والعنف معاً, والأهم الانحياز, لا التفاهم والتعايش بين الشعوب, وتوجتها إدارة بوش بالحرب على الإرهاب, قسمت على أساسها العالم إلى خير مطلق وشر مطلق, وجرّت معها أوروبا لتبني رؤيتها القاطعة, ولم يكن غريباً وقوف توني بلير الأسبوع الماضي ليعلن أن لا حرب على الإرهاب من دون قيادة أميركية. من هنا يبدو مشروع مركز كنيدي للثقافة والفنون نشازاً مثيراً, وسط رعب أشد إثارة, لا مناص من التشكيك في أهدافه, مهما كان صادقاً ونبيلاً وبريئاً, وهذا ليس ذنبنا وإنما ذنب إدارة لا تزال تصر على فرض القوة كوسيلة وحيدة للتعبير وللتغيير معاً, وكأنها صنعت العالم في ستة أيام, ويحق لها تقرير مصيره في اليوم السابع, بالعمل على نمذجته كتطبيق فريد لطموحات ثقافة امبراطورية باتت متخصصة في الإلغاء والتفرد.
ومع ذلك لا يجب أن يدفعنا التشكيك وكراهية السياسة الأميركية, الى تجاهل أهمية تنظيم مهرجان للثقافة العربية في واشنطن, كما لا يجب أن تترك المشاركة فيه لارتجال المؤسسات الرسمية كما جرى في تظاهرة معرض الكتاب العربي في فرانكفورت العام الماضي, فكل حضور ثقافي للعرب على الضفة الأخرى هو فرصة لكشف الغطاء عن وجه جميل للعرب ولو كان ملوثاً بالدماء والخراب. نحن شعب متنوع الثقافة والاتجاهات, مثلنا مثل بقية شعوب الأرض, نمور بالحياة ونرغب بالتقدم والأمان وأيضاً العدل, ونحب الأدب والفن؛ وهنا اذكر ما قاله في جلسة خاصة الشاعر الكبير محمود درويش لدى سؤاله عن موقفه من مهاجمة المتشددين لمشاركة شاب فلسطيني في مسابقة سوبر ستار, بما معناه «لقد أصبح لدينا مطرب وينقصنا راقصة لنصبح شعباً, فالشعب الفلسطيني ليس بندقية وحسب».
إن تقديم صورة واقعية للتنوع الثقافي العربي, ما من شك مسؤولية تقع بالدرجة الأولى على الحكومات العربية, وربما أفضل مشاركة لها هي في التخلي ولو لمرة واحدة عن دورها في طمس التعدد, والسماح للمغردين خارج أسرابها من دخول دائرة الضوء, وإعادة الألوان الحقيقية لمشهد ثقافي حالك سودته الأنظمة الشمولية على مدار عقود, بمعية مثقفيها وطباليها ومزمريها.
نحن أيضاً لا الأميركيون, بحاجة الى معرفة أنفسنا قبل تعريف الآخر بنا, لكن كيف السبيل إلى ذلك, ونحن ساكتون على تسخيف الثقافة وإذلال المثقف؟!

بالاتفاق مع الكفاح العربي
 

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...