علماؤنا «بحماية الربّ»: من المسؤول عن سلامة «عقول سورية»؟!
خبر يُخط باللون الأحمر: «عاجل: اغتيال العالم عزيز إسبر، مدير البحوث العلمية في مصياف». الاسم غير معروف لعدد كبير من السوريين فيتركنا الخبر أمام بلاهة السؤال: من هو؟ ولماذا تم اغتياله؟ ومن هي الجهة التي تقف وراء اغتياله؟ ماهي إلا دقائق لنعرف عبر وكالات الأنباء العالمية ومحطات التلفزة كل تفصيل في سيرة العالم السوري الذي لم نكن نظن أن مثيله يعيش بيننا.
جرت العادة أن يتم منع من يعمل في البحوث العلمية السورية من الإفصاح عن طبيعة وأماكن عمله، وهذا أمر مبرره طبيعة العمل المناطة بهذه الفئة، لكن أن تتمكن وكالات الأنباء العالمية من نشر سيرة هؤلاء العلماء بعد دقائق على اغتيالهم وبمعلومات دقيقة فهذا يشي بأنهم لم يكونوا يعيشون حياة سرية، وأن ثمّة من كان يتابعهم ويعرف كل شيء عنهم!
عودة إلى الوراء.
خبر مفاجئ وصادم كان هو خبر اغتيال العالم الشاب عيسى عبود (تولد 1984)، حيث تناقلت وسائل الإعلام صور لشابين مقتولين. قيل وقتها إن الاغتيال الذي وقع في يوم 18 نيسان عام 2011 في حمص تم على أيدي مسلحين مجهولين، حيث تم إطلاق النار على عيسى وابن عمه علاء مصطفى عبود في سيارتهما، وهما على طريق العودة إلى قريتهما من حمص، وتم نشر صور عبر التلفزيون السوري لجثمان عبود وقد تم التمثيل به. الاغتيال الذي كان بداية لسلسلة طويلة من الاغتيالات ستشهدها سورية لاحقاً تم إسناده للأحداث التي بدأت حكايتها في حمص، فالبعض علق جريمة مقتل هذا العالم النابغة على شماعة الانتقام الطائفي.
قد يكون هذا البعض محقاً في هذا الإسناد أو قد يكون مخطئاً، لأننا حتى يومنا هذا لم نسمع عن مخرجات ونتائج لأي تحقيق حول عملية الاغتيال، التي راح ضحيتها شاب وعقل سوري تم تصنيفه عالمياً واحداً من أذكى العلماء الصغار، ليس هذا فحسب، فهذه الجريمة الشنيعة لم تكن كافية بالنسبة إلى «الجهات المختصة» لقرع جرس الإنذار، واتخاذ تدابير من شأنها حماية عقول سورية وعلمائها، والدليل أن عمليات الاغتيال تواصلت حتى يومنا هذا رغم مرور أكثر من سبع سنوات على جريمة الاغتيال الأولى!
قائمة من العقول
عصر يوم 25 من شهر تشرين الثاني 2011 أعلنَ ما سمي وقتها «الجناح الإلكتروني للجيش السوري الحر» في بيان له عن اغتيال سبعة ضباط طيارين من مطار (التيفور) أثناء عودتهم بسيارة المبيت إلى منازلهم (وهو المطار الذي استهدفته «إسرائيل» فيما بعد أكثر من مرة خلال سنوات الحرب) وبحسب البيان، قامت «كتيبة الفاروق» (وهي أولى التشكيلات العسكرية التابعة «للأخوان المسلمون» خلال الأزمة، وهم الذين عُرفوا بأنهم أشهر من نفذ عمليات الاغتيال بحق علماء سورية خلال حقبة الثمانينات).
وكما هو عهدهم وديدنهم منذ ثمانينات القرن الماضي، استهدف هجوم «الفاروق» باص مبيت يقل ضباطا طيارين من مطار التيفور على طريق حمص – تدمر عند بلدة الفرقلس وكانت النتيجة استشهاد كل من:( العقيد الطيار محمد عصفور، العقيد الطيار خالد هرشوش، العقيد الطيار محمد الأحمد، العقيد الطيار منهل أيوب، الرائد الطيار علي المحمد، الرائد الطيار نزار إسبر، الملازم الأول الطيار وليم ياسين الصالح).
وبحسب المعلومات التي تم تداولها فإن الطيارين السبعة كانوا قد تلقوا بمعظمهم تدريبات في روسيا بعد تخرجهم من الكلية الجوية، ويقودون قاذفات وطائرات اعتراضية بعيدة المدى، أي أنهم كانوا مجهزين لقتال كيان الاحتلال الذي تبدو يده واضحةً في كل جريمة اغتيال تمت في سورية خلال السنوات السبع الماضية، مباشرةً أو عبر أدواته.
مهندس «البرنامج الصاروخي»
في صباح (22تموز2012) وسط العاصمة دمشق، عدد من الرصاصات الغادرة كانت قادرة على اغتيال المهندس نبيل زغيب مع زوجته وولديه. هذه المرة لم يكن هناك الكثير من المعلومات حول زغيب، هي كلمات قليلة وصفت زغيب بأنه «العقل الأساسي في البرنامج الصاروخي السوري». وأما المجرمون فهم مجموعة مسلحة فتحت النار على سيارة زغيب، ولم يتم إلقاء القبض على أحد منهم، أو على الأقل لم نسمع بذلك، كما لم نسمع أن أحداً قد حوكم على خلفية هذه الجريمة.
في ذات العام تمكنت مجموعة مسلحة تطلق على نفسها «كتيبة شهداء حلب للمهام الخاصة»، من اختطاف الأستاذ الجامعي الدكتور سمير علي رقية الحائز على شهادة دكتوراه في مجال هندسة الطيران من فرنسا، تم تعذيبه ومن ثم قتله. عمل رقية مدرساً في أعرق الأكاديميات العسكرية والجامعات الروسية، ومدرساً لهندسة الطيران في «البحوث العلمية العسكرية» في حلب، ومدرساً في جامعة حلب، وهو صاحب 13 براءة اختراع عالمية بالطيران ومطوّر طائرة «ميغ» الروسية، ويصفه تلامذته على أنه العقل السوري الأول الذي صنع مع طلابه أول طائرة سورية حلقت فوق حلب عام 2011، وبعدها صنع طلاب البحوث في حلب تحت إشرافه التام أول مروحية في العالم العربي وحلقت أيضاً فوق حلب.
لاحقاً، في تموز 2014 تناقلت وسائل الإعلام خبر استشهاد ستة من العاملين في مركز البحوث العلمية وإصابة 19 آخرين، إثر سقوط قذيفة هاون على منطقة برزة مسبقة الصنع في دمشق، مر الخبر كغيره من أخبار الموت ولم نعرف أية تفاصيل عن المستهدَفين.
في عام 2015 شكّل اغتيال عالم الآثار خالد الأسعد صدمةً للعالم أجمع بعد أن أقدم تنظيم «داعش»، على قطع رأس العالم الثمانيني الموسوعي والخبير بكنوز تدمر وآثارها، التي كانت هي الأخرى ضحية الاغتيال والنهب.
هنا كان المجرم وقحا جدا، وكان غريم السوريين معروفا نوعا ما، لكن ذلك لم يمنع من رؤية المشهد الأكبر خلف جرائم التنظيم، الذي يتم تحريكه من قبل أجهزة مخابرات دولية، استثمرت في وحشيته وغذتها وأدارتها بما يخدم مصلحتها، في الكثير من الأماكن في سورية والعراق.
عالِم… بحماية ربّ العالمين!
عالم سوري جديد يتم استهدافه ليكون شهيداً أخر في قائمة العلماء الذين ارتقوا في هذه الحرب على سورية وعقولها، حيث أعلن في مساء 4 من شهر آب الحالي عن اغتيال الدكتور عزيز إسبر مدير البحوث العلمية في مصياف.
لم تكن هذه هي المرة الأولى التي يتم فيها استهداف الراحل. يامن إسبر الشقيق الأصغر للراحل قائلا: لقد كان الراحل يدرك جدياً أنه مستهدف منذ العام 2008 لكن عدداً قليلاً من المقربين يعرفون ذلك، ويضيف: قبل ثلاث سنوات تقريبا تم إلقاء القبض على خلية تابعة للاستخبارات التركية كانت تحاول استهداف الشهيد إسبر، لكن ذلك لم يجعله يتراجع عن عمله الذي كان يقضي معظم أوقاته فيه.
ويضيف شقيق العالم إسبر: رغم أنه كان يقول لنا دائما (بس يخلص العمر رح ودعكم)، إلا أننا حتى اليوم تحت وقع الصدمة بعد اغتياله. وعند سؤاله عن طريقة حياة الراحل عزيز إسبر قال الشقيق: كان رجلاً هادئاً لا يحب الضجة، وكان محباً لعمله لدرجة أنه كان يعمل لساعات متواصلة من دون راحة. أما الحماية التي كانت تحيط بإسبر كأحد أهم العقول السورية، فيقول يامن: لم يكن يحب أن يحيط نفسه بمثل هذه المظاهر، لذلك لم يكن لديه حراسته الخاصة به.
وعن نوع السيارة التي كان يستقلها ودرجة الحماية التي تتمتع بها، يقول يامن: لم يكن الشهيد عزيز يملك سيارة خاصة به، بل كان يستخدم ثلاث سيارات تعود ملكيتها للبحوث وجميعها غير مصفحة. وبما يخص مكان سكن العالم عزيز، وإذا كان بإمكان أي أحد تتبع تحركاته أو التنبؤ بها! يقول: كان أخي يقيم مع عائلته في ضاحية المساكن التابعة للبحوث، ولم يكن مكان سكنه سرياً. يضيف يامن الذي يعمل أيضا في البحوث العلمية «نحن ننتمي لعائلة متوسطة الحال، أخي لم يكن يملك سوى منزل ولديه شاب وفتاتان، نحن لا نخشى الموت والذي يأتي من عند رب العالمين أهلا وسهلا به».
الاستثمار المجدي
يرى كريم أبو حلاوة رئيس قسم الدراسات الاجتماعية وعضو الهيئة العلمية في مركز دمشق للأبحاث والدراسات «مداد»، في حديثه لـ «لأيام» أنه يجب على الحكومات السورية أن تستثمر في العقل البشري وتؤمن له الحماية بمعنى الرعاية، والاهتمام بهذه الفئات التي تعد ثروات حقيقية، عبر تأمين طرق عيش كريمة تجعلهم لا يفكرون بالهجرة، إضافة إلى إيجاد حماية حقيقية للعقول التي اجتهدت على نفسها وأصبحت في أماكن علمية حساسة، حيث تم خلال الأزمة الحالية استهداف عدد من العلماء السوريين، وهذا فيه خسارة كبيرة للبلد، ويشكّل استنزافاً لفئة هم في الأساس فئة قليلة في سورية.
ويضيف أبو حلاوة لدينا معطيات تبين من خلالها أن أغلبية موجات اللجوء والهجرة إلى أوروبا بشكل خاص، كانت من فئة الشباب الخريجين والحاصلين على تعليم جامعيٍّ عالٍ، ومن ذوي الكفاءات، هذا ما ينطبق على الشباب الذين هاجروا من المناطق الآمنة نسبياً، الأمر الذي شكّل نزيفاً بشرياً وتنموياً حاداً، ذلك لأن إعداد كفاءة علمية واحدة يحتاج إلى مليون دولار ونحو 20 سنة، هذا إلى جانب ما ينطوي عليه ملف اللجوء من معاناة إنسانية وتجارة ومافيات وأجندات سياسية، سوّقتها وروجت لها البلدان الأوروبية المستفيدة.
من جانبه يرى المختص بالتنمية البشرية شادي العمر أن استمرار استهداف حياة العلماء يؤكد أن حياة بعض الأشخاص تمثل بحد ذاتها سلاحاً استراتيجياً في أي مواجهة مع العدو، لذلك فالعلماء يستحقون درجة أعلى من الحماية، ليس لأجل قيمة الحياة الإنسانية فحسب، وهي طبعا في الدرجة الأولى، بل ولأجل القيمة المضافة التي يمثلها هؤلاء الأشخاص أيضا، وهي قيمة عملية وضرورية للوطن بأكمله.
ويتابع العمر لذلك ربما تفيد بعض الإجراءات الوقائية والاحترازية في حماية كثير من العلماء المستهدفين، فهم أصلاً ليسوا بحاجة إلى مرافقات أمنية كبيرة بقدر ما هم بحاجة إلى مستوى أعلى من الحماية المهنية، والتي من أهم مسلماتها الالتزام بالإجراءات الروتينية للحماية، والحفاظ على مستوى أعلى من السرية المتعلقة بحياة هؤلاء الأشخاص وطبيعة عملهم ومسكنهم وروتين حياتهم. وربما ينبغي التأكيد على الالتزام بقواعد السلامة والحماية تحت جميع الظروف، حتى تلك التي تبدو ظروفا آمنة وطبيعية، لأن الظرف الآمن والطبيعي هو الأنسب لتنفيذ جرائم الاغتيالات.
تجربة العراق… شاهدة
عمليات اغتيال العقول ليست جديدة، وخاصةً في البلدان التي تعاني حروباً، وتجربة العراق ما زالت شاهدة على كم الاستنزاف المهول، الذي طال البلد المصنف بأنه الأغنى عربياً في العقول والعلماء.
وتتحدث التقارير عن الاستنزاف الذي عاشه العراق بعد الاحتلال الأمريكي، حيث بدأت خطة الولايات المتحدة الأمريكية و»إسرائيل» لتصفية علماء العراق بعد الاحتلال مباشرة.
وتشير إحصائية أعدّتها «رابطة الأساتذة الجامعيين» في بغداد، إلى أن ٨0% من عمليات الاغتيال التي وقعت في العراق استهدفت العاملين في الجامعات، وأكثر من نصف المستهدفين يحملون لقب أستاذ أو أستاذ مساعد، وأكثر من نصف الاغتيالات وقعت في جامعة بغداد، ثم البصرة، ثم الموصل والجامعة المستنصرية، و٦2% من العلماء الذين تمّت تصفيتهم، يحملون شهادة دكتوراه دولة من جامعات غربية، ثلثهم مختص بالعلوم والطب، و١7% منهم أطباء ممارسون، وقد قتل ثلاثة أرباع الذين تعرّضوا لمحاولات اغتيال والربع الذي نجا فرّ إلى الخارج.
ويكشف تقرير صدر عن مركز المعلومات الأمريكي أن الموساد قام باغتيال 530 عالما عراقيا وأكثر من 200 أستاذ جامعي، وشخصيات أكاديمية ما بين 2003 و2006. وتذكر دراسة للأستاذ إسماعيل جليلي بعنوان «محنة الأكاديميين العراقيين»، قُدّمت إلى مؤتمر مدريد الدولي في نيسان 2006، إن «الموساد» الإسرائيلي شنّ 307 اعتداءات على الأكاديميين والأطباء، وتمكّن من اغتيال 74% منهم.
كي لا تتكرر التجربة:
لا يحتاج السوريون إلى أدلة كبيرة ليعرفوا من هو خصمهم الحقيقي، وما هو هدفه من قتل العلماء والخبراء السوريين، لكن هل يتوجب علينا أن نفقد علماء أكثر كي نؤمن حماية حقيقية لهذه العقول؟! التي يحظى أصغر أبناء أحد المسؤولين بحماية أكبر وأعلى من أي حماية لعالم من علماء سورية.
ورغم أهمية هذا الحديث والدلالة التي يشير إليها شقيق العالم عزيز إسبر، عن استعداد أبناء سورية مهما علت مرتبتهم العلمية للتضحية في سبيلها، إلا أن ذلك يجب ألا يكون مجاناً، بمعنى أن حياة هذه الفئة من السوريين هي غالية وثمينة بحد ذاتها، لأنها لا تعنيهم وحدهم، بل تعني وتخص مستقبل سورية عامةً، فهؤلاء ثروات وطنية لا يجب الاستهانة في حمايتها.
إلا أن كل ما سبق، لا بد وأن يترك الباب مفتوحاً على مصراعيه أمام تساؤل كبير يوجّه للدولة وسلطاتها التنفيذية، وليس للفئة المستهدفة من علماء سورية وأدمغتها الفذّة: كيف يمكن ترك علماء بمثل هذه القيمة والأهمية من دون حماية؟! أيّ بلد يمكن أن يكون مستهتراً في حماية عقوله وخبراته النادرة إلى هذه الدرجة؟! في وقتٍ يخوض فيه إحدى أشرس الحروب في العصر الحديث، حرب كان واضحاً منذ اليوم الأول أنها تستهدف مستقبل سورية، ومستقبلها يصنعه علماؤها بشكل أساسي؟
بالمقابل، من منا لا يعرف ماذا يحصل في المقلب الآخر، في عالمنا الحقيقي، عالم المسؤولين الحكوميين وغير الحكوميين، عالم المتنفذين والفاسدين وأثرياء الحرب وما قبل الحرب، ألم ير ويعاني السوريون من مواكب الحماية التي ترافق وزراء ونساءهم وأولادهم الفاشلين، ألم يروا كيف تخصص «الحمايات» والمفارز أمام فيلاتهم وشققهم الفخمة في وسط العاصمة، ألم نرَ كيف تقطع أو تغلق الطرقات أمام الناس بسبب مرور هذا المسؤول أو ذلك المتنفّذ، أو تلك الزوجة وهي في طريقها إلى «الكوافير»؟
إلا أن السؤال الأكبر والممض: ما هو مصير بلد يهتم بحياة ورفاهية وحماية فاسديه وبعض مسؤوليه؟! ممن امتصوا وما زالوا يمتصون دماء السوريين جهاراً نهاراً، فيما يُترك علماؤه وصانعو مستقبله المنشود نهباً للفقر، وتاليا للقتلة والأعداء في الداخل والخارج على حدٍّ سواء؟!
نسرين علاء الدين – جريدة الأيام
إضافة تعليق جديد