عن الفقراء و المجازر
يحاول الإعلام الذي يعبر عن القوى السائدة أن يجعل من محاكمة كارادزيتش تبدو و كأنها مركز الممارسة السياسية في العالم , لكن تواقت هذه المحاكمة مع إطلاق سراح نائبته السابقة و شريكته في المجازر التي قتل فيها الآلاف أكثر من مجرد مصادفة . لا يدل هذا إلا على السهولة التي يمكن فيها للقتلة أن ينجو بفعلتهم أكثر مما يعني أنه قد أصبح من الممنوع قتل البشر البسطاء هكذا دون عقاب . في كل مكان وصل جنون الموت إلى حد المجزرة , ترسل السلطة في باكستان و اليمن دباباتها و طائراتها لتقصف أي منزل و أية بقعة تراها "خارجة عليها" بكل ما فيها من بشر , و يرد من يسمي أنفسهم الجهاديون بقصف البشر أيضا و لو كنتيجة ثانوية لقصف مؤسسات السلطة التي تعتبر السجون و آلات الموت تلك من أهمها , المستوى الجنوني الذي وصلته الحرب على الإرهاب أو الحرب المقدسة ضد الصليبيين يذكر بالحربين العالميتين أو تلك الحروب المجازر التي يصبح فيها القتل ممارسة يومية جماعية و معمدة بالمقدس , الوطني تارة و الديني تارة , في الحقيقة يمكن استخدام أي مقدس كوقود لهذه المجازر . الموت المجاني قد يكون حقيقة محلية في صعدة أو بيشاور , لكن هناك حقيقة جرت عولمتها في كل مكان , و هي أنه اليوم لا يوجد مكان آمن للفقراء على هذه الأرض . في الحقيقة ما حققته العولمة هو ملاحقة الفقراء و محاصرتهم و الإمعان في إفقارهم , فالسياسات النيو ليبرالية لم تذهب دون أن تذهب ببيوت ملايين الأمريكان و مدخراتهم , في ضربتها الأخيرة , على ما يبدو , لكن السياسات النيو ليبرالية لم تفعل إلا أنها فاقمت المشكلة إلى حدود غير مسبوقة . و لأن الليبرالية تعبر عن عبادة القوة و المال فإنها لا تعتقد أن ملايين الأمريكان أو الأوروبيين الذين فقدوا بيوتهم و وظائفهم يستحقون المساعدة , بينما تضخ تريليونات الدولارات و ما شابه في خزائن الشركات التي دمرت حياة الملايين "في مقابل" بعض الحد من سطوتها المطلقة على حياة الناس و نهبها المنفلت , هكذا يعاقب النظام الشركات الفاسدة على فسادها و يكافئ الناس على سذاجتهم . أما تلك الحقيقة المعولمة فهي أنه لا يوجد اليوم أي مكان آمن يمكن للفقراء أن يلجئوا إليه هربا من العوز و الحاجة . حتى الهروب إلى أوروبا أو الخليج لا يعني أكثر من أن الحياة على الهامش هناك هي أفضل بما لا يقاس من الحياة على الهامش في بلادهم الأصلية , فعلى الأقل يمكن هناك استبعاد الجوع الفعلي أما تهديدات العنصريين أو المعاملة السيئة , التي تصل في بعض الأحيان إلى درجة العبودية الحقيقية , فهي تصبح جزءا عاديا من الحياة اليومية , جزءا من المعاناة اليومية , التي تقابل الكفاح اليومي في سبيل لقمة الخبز في بلده حيث حولت الخصخصة النيو ليبرالية غالبية حصة الناس من الدخل الوطني , أي من إنتاجهم , إلى جيوب أقارب و أصدقاء الديكتاتور الحاكم . لا يجب التسرع باتهام النيو ليبراليين بأنهم هم من يخرب هذه الأرض , كل ما فعلوه هو أنهم قد فاقموا على طريقتهم الخاصة التدمير المنتظم الذي مارسته الطبقات السائدة على الدوام لحياة الناس البسطاء , أنهم قد بالغوا بنهب إنتاج الناس لصالح الأقلية التي تدعي أحقية ملكيتها لكل شيء في هذا العالم أنتجته الطبيعة أو أنتجه البشر نفسهم الذين يستغلونهم , يشبه هذا "التغيير" ما جرى مؤخرا في مصر , فقبل عدة سنوات شب حريق في إحدى القطارات المتوجهة إلى الصعيد ليحترق الكثير من الفقراء في عربات ذلك القطار , استقال الوزير المسؤول يومها أو "أقيل" , قبل أيام ماتت دفعة جديدة من الفقراء في تصادم قطارين في العياط , مرة أخرى استقال الوزير الجديد أو "أقيل".
مازن كم الماز
إضافة تعليق جديد