عن وقاحة ابن الإنكليزية: هل تكون الحرب؟
الجمل ـ محمد صالح الفتيح: تفاجأ السوريون بالخبر الذي تم تناقله هذا الصباح قبل أن يروا بأم أعينهم صورة الرسالة التي وجهتها الخارجية الأردنية إلى السفارة السورية في عمان، والتي استهلتها بإهداء التحيات لتعود في الجملة التالية وتكشف أن هدف الرسالة هو مطالبة السفير السوري في عمان، الدكتور بهجت سليمان، بالمغادرة وأنه قد أصبح شخصاً غير مرغوب به. القرار الأردني أثار الكثير من التساؤلات إن كان لناحية التوقيت أو المضمون أو لكونه مقدمة لحدث جلل مقبل. فمن ناحية التوقيت، جاءت هذه الخطوة مفاجئة تماماً بتوقيتها؛ فبالرغم من صدور تحذير رسمي، في السادس من حزيران الماضي، من وزارة الخارجية الأردنية للسفير السوري بأنه سيتم اعتباره شخصاً غير مرغوب به إن استمر في اطلاق تصريحاته التي تمحورت حول استضافة الأردن لمؤتمر أصدقاء سورية وحول مطالبة الأردن الولايات المتحدة بنشر بطاريات صواريخ باتريوت على أراضيه. إلا أن ذلك التحذير كان مفهوماً في الحقيقة، إن لم يكن متوقعاً. فغياب ذلك التحذير يومها كان يعني اعتراف الأردن بحقيقة الاتهامات التي أطلقها السفير السوري ممايعني بالتالي تشجيع التيار الشعبي الأردني المعارض للسياسة الحكومية تجاه سورية. لذلك كان من الضروري يومها أن ترد الحكومة الأردنية بشيء ما حتى لو كان من باب التحذير فقط.
أما من ناحية المضمون، وبالرغم من أن العلاقات الرسمية السورية الأردنية تاريخياً لايمكن وصفها بالعلاقات المستقرة، فقد تبادلت دمشق وعمان سحب السفراء عدة مرات خلال العقود الماضية ولكن في كل مرة كان ذلك يأتي كنتيجة، أو كمحصلة، لخلافات سياسية ذاتية بين البلدين كما حصل عندما كان الأردن يدعم جماعة الإخوان المسلمين، وأداتها العسكرية الطليعة المقاتلة، في نهاية السبعينات وبداية الثمانينات، أو، قبلها، عندما دخلت القوات السورية إلى الأردن ووصلت الدبابات إلى إربد في أيلول 1970، إلا أن التصرف الأردني اليوم يأتي ترجمة واضحة لا لبس فيها للضغوط الخارجية عليه من ناحية وانقلاباً على المواقف الأردنية السابقة التي كانت تحاول إبقاء الباب موارباً مع دمشق.
فالسياسة الأردنية تاريخياً كانت تعمل لضمان تحقيق هدف واحد وضع في قمة قائمة الأولويات، قبل أي شيء آخر، وهو الحفاظ على استقرار العرش الأردني الهش. وصف العرش الأردني بالهش ليس من باب التطاول أو التجريح وإنما هو توصيف لطيف، في الحقيقة، لحكومة تحكم بلداً بلا موارد طبيعية وأقل من نصف سكانه من هم من حملة الجنسية الأردنية. هذا الوضع أجبر العرش الأردني، طوال العقود الماضية، على ممارسة سياسة تقود الأردن إلى التقلب في الاصطفافات والتمايل في وجه العواصف التي تضرب المنطقة ولكن ماكان يسجل للملك حسين هو مقدار، ولو ضئيل، من الاستقلال في القرار، كما حصل عندما ساند دخول الجيش العربي السوري إلى لبنان في العام 1976 بالرغم من أن معظم الدول العربية الأخرى قد عارضت ذلك حينها، وماكان يسجل له من مقدار، ولو ضئيل أيضاً، من الحس السيادي، كما حصل عندما قامت المخابرات الإسرائيلية بمحاولة اغتيال خالد مشعل حيث هدد الملك حسين نتنياهو بقطع العلاقات مع إسرائيل إن لم يتم تقديم الترياق لمشعل فوراً.
أما اليوم فقد فقدت السياسة الأردنية كل ما كان متبقياً لديها من استقلال وسيادة حيث تحولت لمزيج من ببغاء يردد الخطاب الإعلامي الغربي المعادي وأداة تنفيذ تكتيكية واستراتيجية للمخططات الغربية. حيث كرر الأردن ماتم الخروج به في مؤتمر أصدقاء سورية مؤخراً، مؤتمر لندن 11، حول عدم صحة إجراء الانتخابات الرئاسية السورية الآن. ويبدو أن الأردن قرر المساهمة في تلك المساعي الغربية لإحباط الانتخابات من خلال اغلاق السفارة السورية في عمان. هذا الإغلاق كانت بادرته المطالبة اليوم بخروج السفير السوري. فمن الطبيعي أن يقود هذا الإجراء دمشق إلى الطلب من القائم بالأعمال الأردني في دمشق أن يغادر أيضاً وربما يتم إغلاق السفارة الأردنية بالكامل. هكذا سيكون من المنطقي بالنسبة للحكومة الأردنية أن تطلب إغلاق السفارة السورية ممايعني عملياً إلغاء إمكانية إجراء الانتخابات الرئاسية السورية هناك. وبذلك تكون الحكومة الأردنية نفذت من جانبها مقررات المؤتمر الذي حضرته ووافقت على مانوقش فيه.
إن الحرص الأردني على توصيف السفير السوري بالشخص غير المرغوب به هو بكل تأكيد خطوة تصعيدية، بل ويمكن وصفها بالخطوة الوقحة، فالحكومة الأردنية لم تطلب مثلاً تخفيض التمثيل الدبلوماسي السوري ليصبح مساوياً لنظيره الأردني في دمشق، وهو مستوى القائمين بالأعمال، وهو مايمكن وصفه بالخطوة المحايدة نسبياً، بل تعمدت انتهاج طريق يقود إلى خلق جو معادي بكل تأكيد.
هنا قد يقلق بعض السوريين من أن القرار الأردني اليوم هو مقدمة، من نوع ما، لعمل عسكري تجاه سورية، وخصوصاً أن هذا القرار صدر مع بداية مايعرف بمناورات الأسد المتأهب وهي المناورات التي تشارك فيها قوات عسكرية من حوالي 24 دولة في الأردن. مثل هذا القلق قد يكون مفهوماً، خصوصاً لكون الانخراط الأردني في المخططات الأمريكية قد تجاوز المراحل السابقة ويكاد يقطع نقطة اللاعودة. ولكن هذا القلق، في الحقيقة، مبالغ فيه كثيراً وذلك لأسباب كثيرة. فالتغييرات الميدانية التي حققها الجيش العربي السوري في باقي الجبهات تشير إلى أن موازين القوى قد تغيرت إلى غير رجعة. وكذلك فإن الأحداث الدولية، التي لم يكن أخرها الفيتو الروسي الصيني المزدوج لحماية سورية في مجلس الأمن، ومحاولات الأطلسي التمدد في أوكرانيا والتصدي الروسي لذلك، كلها تشير إلى أن التأجيج العسكري في الشرق الأوسط هو خيار مستبعد الآن لتجنب تأزيم العلاقة بين القوى الدولية وإيصالها إلى نقطة اللاعودة. وقد أصبح مفاعيل التغييرات الدولية الأخيرة واضحة بعد زيارة نائب رئيس الوزراء الروسي ديمتري روجوزين، رئيس اللجنة الصناعيّة العسكرية الروسية، إلى دمشق الأسبوع الماضي حيث تم التأكيد على أهمية إجراء الانتخابات في موعدها وأيضاً تطوير العلاقات الثنائية وتقديم ماتحتاجه سورية بمافي ذلك بطبيعة الحال تطوير العلاقات الدفاعية.
إضافة إلى أن الجيش السوري قد نفذ في الفترة الماضية عمليات واسعة في الجبهة الجنوبية، وبحسب مصادر ميدانية، فإن القوات المنتشرة الآن تفوق من حيث العدد والعتاد ماكان منتشراً في أي مرحلة سابقة خلال السنوات الثلاث الماضية، ممايجعل أي عمل عسكري الآن أقل احتمالاً من أي وقت مضى. وفي كل الأحوال، ومن ناحية عسكرية بحتة، فإن القوات المنتشرة الآن في الأردن لاتزيد عن 12 ألف عسكري من بلدان متعددة منهم 8 ألاف عسكري أمريكي ولكن هذا العدد الإجمالي لايصل إلى 8% من العدد الذي انتشر في الكويت قبيل تنفيذ عملية غزو العراق 2003. وحتى في ذلك التاريخ، لم تكن قدرات الطرف الثاني، أي قدرات الجيش العراقي، تعادل 10% إلى 25%، على أحسن تقدير، من قدرات الجيش العربي السوري اليوم. إضافة إلى أن القدرات العسكرية العراقية يومها لم تكن تكفل القدرة على الضرب داخل الأراضي الكويتية، وبالتالي لم تكن توفر رادعاً للكويت. لكن الوضع مختلف بالنسبة للأردن الذي تقع قواعده كلها في مرمى الصواريخ السورية بداية من الرمثا التي تبعد 6 كيلومترات عن الحدود السورية وصولاً إلى العاصمة عمان التي تبعد حوالي 70 كيلومتراً، وبين الرمثا وعمان مدن المفرق وإربد والبلقاء وعجلون وجرش والزرقاء. أي أن كل الأردن تحت رحمة الصواريخ السورية ونحن هنا نتكلم عن صواريخ الراجمات وليس عن ما أعده الجيش السوري في السنوات الماضية لمواجهة الكيان العبري. من نافل القول أيضاً التذكير بأن أي عمل عسكري ينطلق من الأردن سيطيح بالكثير من التوازنات الهشة القائمة حالياً هناك، وخصوصاً في ضوء أحداث معان مؤخراً.
إن التصرف الأردني اليوم، وبعيداً عن كل الوقاحة التي تم تغليفه بها، ليس أكثر من خطوة إعلامية تهدف إلى رفع معنويات من سحقوا في أكثر من موقع، ليس أخرها سجن حلب المركزي، وإفشال اقامة الانتخابات السورية في السفارة السورية في الأردن. هذا التصرف يجب أن لاينظر عليه لناحية كونه تصرفاً مفاجئاً في الخط العام، فهذا ما عودنا عليه الأردن منذ سنوات الاستقلال الأولى. ولعل الشيء الوحيد المفاجئ، في الحقيقة، هو الصبر السوري طوال تلك السنوات.
إضافة تعليق جديد