غزة والقدس تعيدان الاعتبار لدائرة الصراع الأولى
رغم أن الصراعات في جميع أرجاء العالم تخلق سيروراتها وتكتشف قوانينها الخاصة وتحاول العثور على حلول مؤقتة أو دائمة إلا أن الصراع العربي الإسرائيلي يمتلك آلية مغايرة. ومن الجائز أن أساس الاختلاف بين الصراع القائم في منطقتنا وباقي صراعات العالم يكمن في نقطتين جوهريتين هما: تضارب الوهم والحقيقة من ناحية وتناقض الطبيعي والمصطنع.
فإسرائيل التي نشأت ضمن رؤية عالمية لمكانة هذه المنطقة في محيطها وفي العالم حاولت التظاهر بأن الصراع كان فلسطينيا ـ إسرائيليا وجرى تحويله إلى صراع إقليمي. كما أنها، وهي تعلن أنها امتداد للخارج الأوروبي المختلف، تصر على أنها تريد من الآخرين المحيطين بها الإقرار بأنها استدراك لتاريخ انقطع. والأدهى أنها التي فرضت نفسها بالقوة تحاول طوال الوقت أن تعيد روايتها للحدث بالقوة على أنها نبت طبيعي وليس مصطنعا.
غير أن المفارقات والتناقضات الأولية هذه خلقت منظومة تعيد انتاج مفارقات جديدة. فإسرائيل القوية بالسلاح والمعدات والتحالفات الدولية تجد نفسها، مع مرور الوقت، أشد عرضة للأذى من أي وقت مضى. بل أن تفوقها العسكري والتقني يضعها طوال الوقت أمام تحديات بدائية يصعب مواجهتها. فأداء إسرائيل الناري يزيد على الدوام من دائرة المعادين لها. بل أن أحد كبار المعلقين الإسرائيليين عوزي بنزيمان اضطر يوم أمس في «هآرتس» إلى الإقرار بأن قضايا الصراع الجوهرية لم تعد القدس والحدود والدولة الفلسطينية وإنما الكراهية المتقدة ضد إسرائيل.
ومن الطبيعي أن هذا ما يدفع العديد من الإسرائيليين إلى البدء في التفكير في المفارقات الكبرى التي يعيشونها. فإسرائيل القوية بالعتاد والسلاح والتي تهدد دولا بكاملها تجد نفسها شبه عاجزة في مواجهة تنظيمات قريبة في كل ما يتعلق بالأمان الفردي للمواطنين. وربما أن صواريخ غزة البدائية وعملية القدس الأخيرة في «مركاز هراف» تظهر أكثر من سواها عمق هذا العجز.
فالإجراءات الأمنية، وإن ساعدت هنا وهناك على توفير درجة من الإحساس بالأمان، تشعر الإسرائيلي بأنها عبء لا يمكن التعود عليه إلى الأبد. ولكن هذه الإجراءات تظهر أن إسرائيل بعد ستين عاما من قيامها لا تزال تتخبط في صراعها مع محيطها بين الدوائر الثلاث الأصلية. وكان الصراع مع الفلسطينيين يعتبر ولا يزال الدائرة الأولى وهي الدائرة المحلية. أما الصراع مع دول الطوق العربية أو القوى العاملة فيها فكان يعتبر الدائرة الثانية. وفي الأفق البعيد كانت الدائرة الثالثة التي تشمل المحيط العربي والإسلامي الواسع.
ويمكن القول أن الصراع اتخذ في البداية طابع الاقتصار على الدائرة الأولى منذ بدء الاستيطان وحتى إعلان الدولة اليهودية عام .1948 ولكن مركز الصراع بعد إعلان إسرائيل انتقل من الدائرة الأولى إلى الدائرة الثانية واحتلت فيه مصر وسوريا مكانة مركزية. وبعد عقود من الحروب في الدائرة الثانية أعادت الانتفاضة الفلسطينية الأولى الصراع إلى دائرته الأولى. وكان دور الدائرة الثانية قد ضعف بعض الشيء بانتقال دول عربية مثل مصر والأردن من دائرة المواجهة إلى دائرة الصلح مع إسرائيل. غير أن هذا الانتقال أسهم في نشوء عوامل تأثير هامة في الدائرتين الثانية والثالثة.
فقد غدا الدور السوري في الصراع العربي الإسرائيلي أكثر محورية من أي وقت مضى واشتد ساعد المقاومة اللبنانية متمثلة بحزب الله. وكان لتنامي الدور الإيراني أن جعل من الدائرة الثالثة ليس مجرد عامل إسناد في الصراع وإنما عامل فعل جوهري. وهكذا تكونت للمرة الأولى في ظل غياب عوامل هامة في الصراع العربي الإسرائيلي عملية تعويض لم يسبق لها مثيل تمثلت في علاقات أشد انتظاما بين عوامل الدوائر الثلاث. وليس صدفة أن إسرائيل تركز على هذا التعويض وتصفه بأنه محور الشر الذي يجمع قوى المقاومة الفلسطينية وفي مقدمتها حماس في الدائرة الأولى مع قوى الدائرة الثانية وفي مقدمتها سوريا وحزب الله مع الدائرة الثالثة ممثلة بإيران.
وليس صدفة أن التقرير الاستخباري الإسرائيلي السنوي يتعامل مع إيران منذ ما لا يقل عن خمس سنوات بوصفها الخطر الأكبر الذي يتهدد إسرائيل، خاصة لجهة تطوير مشروع نووي. غير أن النظرة لهذا الخطر لا تتمثل حقيقة بالخطر النووي بقدر ما يتمثل في دعم المقاومة وتعزيز ثقافة الممانعة. وإذا شئتم فإن هذه العلاقة بين دوائر الصراع الثلاث مع إسرائيل في أشكالها وتفاعلاتها الجديدة تزيد من إحباط الإسرائيليين إزاء مستقبلهم.
فهم يعرفون أن الحالة الفلسطينية لا تشكل خطرا وجوديا عليهم من الزاوية المادية لكنها تشكل خطرا وجوديا في حفاظها على أوليات الصراع. وإسرائيل لا تستطيع التنازل للفلسطينيين لأن ذلك يضعف مكانتها ودورها الإقليمي الأصلي. وهي تجد أن الخطر الوجودي انتقل إلى مكان بعيد، قدرتها نحوه أكثر محدودية. لكن المشكلة تتمثل في أن هذا الخطر يمكن أن ينتقل بسهولة إلى مكان آخر سواء في الدائرة الثانية أو الثالثة لا يهم. وهي تخشى من انقلاب فجائي في الوضع حتى في دول أقامت سلاما مع إسرائيل.
لهذا كله يزداد إحساس الإسرائيليين بالخيبة رغم تعاظم إحساسهم بالقوة، وربما بسبب إحساسهم بالقوة. صحيح أن إسرائيل انتقلت من حال إلى حال في أغلب، إن لم يكن كل الميادين، ولكن تحت كل الأحوال بقيت الحقيقة المرة: لا أحد يوفر لإسرائيل الإحساس بأنها على حق. هناك من يقف معها لأسباب مختلفة وهناك من يخشاها ولكن ليس هناك من يثق بأحقيتها.
حلمي موسى
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد