غزوة إدلب هدفها «داعش» أم الساحل السوري؟
لم يكن الهدف من الهجمة الشرسة على الشمال السوري، التي جاءت ترجمة عملية للتقارب التركي ـ السعودي ـ القطري، السيطرة على محافظة إدلب وحسب، بل كان الساحل السوري مستهدفاً بشكل أو بآخر من وراء هذه الهجمة، التي أراد لها مخططوها وداعموها أن تكون المسمار الأخير الذي يُدَقُّ في نعش معنويات السوريين.
وكانت الغاية الأساسية هي تحقيق تقدّم سريع على الأرض، تفرض من خلاله فصائل «جيش الفتح» السيطرة على مساحات واسعة من محافظة إدلب، الأمر الذي يتيح لها الاقتراب من مناطق الساحل السوري، التي تراهن بعض الدول على أنها المعقل الأساسي لمؤيدي النظام السوري الذي سيؤدي انهياره إلى انهيار النظام نفسه.
وكان ثمة قناعة أن الحملة الإعلامية الضخمة التي ترافقت مع تقدّم فصائل «جيش الفتح»، وقامت على إدارتها فضائيات وصحف ووسائل إعلام مختلفة مستهدفة شريحة السوريين الذين يشكلون غالبية السكان في الساحل، ستؤدي إلى إثارة الرعب في صفوف «حاضنة النظام»، ودفعها إلى التخلي عنه بعد أن يروا مرأى العين جحافل «جيش الفتح» وقد أصبحت على مشارف مدنهم وقراهم. فالزرع كان في إدلب، لكنّ الحصاد في أحد الجوانب كان مُنْتَظراً في اللاذقية وطرطوس.
وكنا ذكرنا في عدد سابق أنه وبقرار سوري ـ إيراني ـ عراقي مشترك، تدفق أكثر من 20 ألف مقاتل إيراني وعراقي ولبناني إلى منطقة إدلب، على جبهة جورين، وآخر خطوط الجيش السوري التي لا تبعد أكثر من ستة كيلومترات عن جسر الشغور، في الفريكة، وبسنقول، ومحمبل باتجاه أريحا.
وقد كانت محافظة إدلب موضوعاً لخطة مشتركة تركية ـ قطرية، بدأت ملامحها بالظهور منذ سيطرة «جبهة النصرة» على معسكرَي الحامدية ووادي الضيف أواخر العام الماضي كما كشف مصدر مطلع كان يقود إحدى كتائب «الجيش الحر»، قبل أن يغادر إلى خارج البلاد لرفضه التعاون مع «جبهة النصرة». لكن حدود هذه الخطة كانت تقتصر على محاولة تلميع «جبهة النصرة»، وإتاحة الفرصة لها لتحقيق إنجازات على الأرض تسمح لها باستعادة دورها، بعد الهزيمة التي لحقت بها في دير الزور وكادت تؤدي إلى شرذمتها.
وقد وقع الخيار على محافظة إدلب لاعتبارات عدة، أهمها أن مسلحي «جبهة النصرة» الذين هربوا من دير الزور لجأوا إليها، وبالتالي صار لدى «النصرة» في إدلب قوة ضاربة يمكن الاعتماد عليها. ثانياً أن محافظة إدلب كانت مرتعاً لبعض الفصائل «المعتدلة» المدعومة من قبل الولايات المتحدة والغرب، مثل «جبهة ثوار سوريا» و «حركة حزم»، ما شكل فرصة تركية للمشاغبة على واشنطن وإحراجها عبر القضاء على الفصائل المدعومة من قبلها، وذلك رداً على الإحراج الذي وقعت به أنقرة إبان معركة عين العرب، وإجبارها على اتخاذ مواقف لا تريدها.
ويؤكد المصدر السابق أن هذه الخطة كانت ترمي إلى تحقيق غايتين: الأولى سير تركيا قدماً في موضوع المنطقة العازلة الذي طالما سعت إليه وطالبت به، غير أنها كانت تصطدم دوماً برفض دولي عموماً وأميركي خصوصاً، والثانية، امتلاك نفوذ داخل «جبهة النصرة» يتيح لأنقرة والدوحة التأثير في سياساتها وسلوكها، وبالتالي توظيف هذا التأثير بما يساهم في تنفيذ أجنداتهما في سوريا. وهو ما قد يفسّر الإصرار القطري على تلميع صورة «جبهة النصرة» إعلامياً وسياسياً على حساب الفصائل الأخرى.
ثم دخلت الرياض بعد وفاة الملك عبدالله، وأثناء التحضير لإعلان «عاصفة الحزم» شريكاً ثالثاً في هذه الخطة (قد تكون زيارة ولي العهد محمد بن نايف إلى تركيا مطلع نيسان الماضي وضعت اللمسات الأخيرة على هذا الدخول السعودي في الخطة) التي بقيت كما هي، ولم يتغير فيها شيء، سوى إضافة بعض الأهداف التي من شأنها أن تتناغم مع أهداف «عاصفة الحزم»، وأهمها إبراز الرياض نفسها على أنها رأس الحربة في مواجهة «المشروع الصفوي»، لذلك كان لا بد من التركيز على البند المتعلق بـ «الزلزال المعنوي» الذي يفترض أن يصيب الحاضنة الشعبية للنظام، والتي هي بحسب أدبيات الحكم السعودي نفسها حاضنة النفوذ الإيراني أي «الروافض».
والرسالة المبطنة التي أرادت السعودية توجيهها إلى «الحركات الجهادية» بشكل خاص، هي وجود توافق في الأهداف بينهما. فكما أن «الجهاديين» يعتبرون أنفسهم يواجهون «الاحتلال الصفوي» فالرياض تسعى أيضاً إلى الهدف ذاته. وهذا ما أدّى إلى قبول الرياض بدخول «جبهة النصرة» في تشكيل «جيش الفتح»، رغم أنها مصنفة بموجب أمر ملكي صدر مطلع العام الماضي على أنها تنظيم إرهابي. وكانت هذه المرة الأولى التي تدخل فيها «جبهة النصرة» علناً ضمن أحد التحالفات العسكرية المدعومة خليجياً، بل وتكون لها الكلمة الفصل في قيادة هذا التحالف، وهو ما لم يحدث عند تشكيل «الجبهة الإسلامية»، إذ كان ثمة حرج خليجي من إدخال «جبهة النصرة» فيها، رغم أن كواليس تشكيلها شهدت اتفاقات مباشرة مع «النصرة» بأنها مكوّن فعال فيها، ولكن الظروف الإقليمية والدولية لا تسمح بجعل ذلك رسمياً وعلنياً. وقد تولى حينها رجل السعودية الأول في سوريا زهران علوش مهمة الخروج وتقديم ضمانات إلى «جبهة النصرة» بأنها جزء من المشروع، وأن الخلافات السابقة قد انتهت، وذلك قبل يوم واحد من إعلان «الجبهة الإسلامية».
وبالرغم من وضع الساحل السوري هدفاً رئيسياً في خطة الثلاثي التركي – السعودي – القطري، غير أن المصدر السابق أكد قناعته أن الخطة الأصلية بنسختها التركية – القطرية كانت تستهدف تقوية «جبهة النصرة» ودعمها من أجل السيطرة على إدلب، ومن ثم توجيهها بعد ذلك إلى قتال تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» - «داعش»، خاصةً في معاقله في محافظة حلب. والهدف من ذلك هو تعزيز صورة «جبهة النصرة» على أنها فصيل يمكن إشراكه في تحقيق الهدف الذي بات مطلباً دولياً، ألا وهو محاربة «داعش»، وبالتالي يساعد ذلك في ترسيخ دورها في الداخل السوري باعتبارها فصيلاً «معتدلاً»، من حقه المشاركة في الحياة السياسية بعد إسقاط النظام.
وما يعزز من صحة ذلك أن «الدولة الإسلامية» قرأ ما حدث في إدلب على أنه موجّه ضده، ولم يكن مستغرباً أن يسارع للردّ عليه في شمال حلب، بالقرب من الحدود التركية، أي في المنطقة الأولى التي كان متوقعاً أن تتجه إليها «جبهة النصرة» لتبدأ مهمة طرده من حلب تنفيذاً للتعليمات السابقة.
ومع ذلك، لا يمكن إغفال أن إحدى الدول الثلاث المنخرطة في هذه الخطة قد لا تكتفي بجانب الحرب النفسية فقط، ويكون لديها توجه فردي لدفع بعض الفصائل باتجاه القيام بمغامرة ما في الساحل السوري، كما حدث أكثر من مرة خلال السنوات الماضية. كما يمكن أن تقوم إحدى الفصائل تحت تأثير نشوة التقدم الميداني بالخروج عن الخطة الموضوعة، ومحاولة إحراج باقي الفصائل لدفعهم إلى مهاجمة اللاذقية أو سهل الغاب. وما له دلالته في هذا السياق أن القيادي السعودي المؤيد لـ «جبهة النصرة» عبدالله المحيسني قال في تغريدة له إن «هجوم داعش على شمال حلب أفسد خطة المجاهدين بالإفطار في القرداحة في رمضان المقبل». فهل هذه التغريدة محاولة من المحيسني لزيادة السخط على «داعش»، أم هذا ما كانت «جبهة النصرة» تنوي القيام به فعلاً؟
عبد الله سليمان علي
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد