فصول من الذاكرة..الظاهرة الرحبانية برموزها الثلاثة
رحل منصور الرحباني، بعد 22 عاماً على رحيل شقيقه وتوأمه الفني عاصي. وقد أحدث غيابه، مثلما أحدث غياب عاصي، ضجة كبيرة في عالم الموسيقى والشعر والغناء والمسرح، وفي عالم الثقافة والسياسة. وظلت وسائل الإعلام، على امتداد أسابيع، تتحدث عن الدور الذي لعبه هذا الفنان الكبير، مع شقيقه عاصي في المرحلة الأولى، ثم منفرداً بعد رحيل عاصي، في إبداع تميّز به وحمل اسمه، في عدد من المسرحيات التي عرضت في أكثر من بلد عربي. كان آخر هذه المسرحيات مسرحية «عودة الفينيق» التي ألفها هو وأخرجها ابنه مروان، وألف الموسيقى فيها ابنه أسامة. وهي المسرحية التي انطلقت من دولة الإمارات العربية المتحدة بنجاح كبير وجاءت إلى لبنان لتلاقي النجاح ذاته.
وفي الحقيقة فحين نستعرض سيرة ومسار كل من عاصي أو منصور سنجد صعوبة في الحديث عن أي منهما من دون الربط بينهما. فاسم «الأخوين رحباني» أصبح، منذ بداية الظاهرة الرحبانية، هو الاسم الذي اشتهر به هذان الأخوان في عملهما الموسيقي الرائد، وفي الشعر، وفي الأغنية الجديدة، وفي المسرح الغنائي الحديث. ووصف المسرح الغنائي الرحباني بالحديث لا يدل دلالة دقيقة على واقع الحال. فلا يوجد، في تاريخ الموسيقى والغناء العربيين، بحسب معرفتي ـ وهي قليلة ـ، مثل هذا النوع الذي اشتهر في أوروبا باسم الأوبريت. علماً بأن «الأخوين رحباني»، كما أعلم، لم يربطا مسرحهما الغنائي ربطاً واضحاً بالأوبريت الكلاسيكية. فمسرحهما الغنائي هو مسرح عربي جديد، بالمعنى الذي أراداه لمسرحهما هذا. وهو مسرح مختلف عن نوع «أوبريت» قيس وليلى المعروفة. أقول ذلك ببساطة، من دون ادعاء المعرفة بهذه المسألة، ومن دون أن أتمادى في الخوض فيها. إلا أن العارفين بهذه المسألة يقولون بأن مسرحهما هذا هو اقرب الى المسرح الغنائي الذي اشتهرت به الدول الانغلو ساكسونية، مع فارق يميزهما يتمثل بالتركيز عندهما على معالجة القصة الدرامية والحبكة المسرحية والتجديد في الشعر الغنائي وفي التأليف الموسيقي.
الأخوان
لم ألتقِ بالأخوين رحباني إلاَّ في أواسط ستينات القرن الماضي، بعد أن كانت شهرتهما قد بلغت ذروتها. وكان ذلك اللقاء عابراً. وكنت أتابع، منذ مطلع الخمسينات، أسوة بسواي من عشاق الموسيقى والغناء، كل ما كان يصدر من أغانٍ كانت معظم ألحانها من تأليفهما، لا سيما ما كان قد بدأ يظهر من هذه الألحان في أغاني فيروز، ابتداء من أغنية «عتاب» وما تلاها من أغانٍ تستعصي على النسيان، وتستقر، لحناً وصوتاً وكلمات، عميقاً في الوجدان. ولا يمحو تأثيرها في النفوس مرور الأيام والأعوام وتغير الظروف والأحوال. وكنت أتلقى أخبارهما من بعض أصدقائي الذين كانت تربطهم علاقة صداقة بهما. وكان أقربهم إليَّ الناقد الموسيقي نزار مروة والأديب محمد دكروب. فمن خلالهما كنت أعرف الكثير مما كان يحيط بعالم هذين الفنانين الكبيرين، وشريكتهما في الإبداع فيروز، الذين كانوا قد ملأوا الدنيا العربية وشغلوها. وإذ كان الأخوان عاصي ومنصور يبدعان في الموسيقى وفي الشعر، فقد كانت فيروز تبدع في الأداء بصوتها الساحر. وفيروز، أمد الله بعمرها، هي من نوع البشر الذين يتقدم بهم العمر ويظلون قادرين على ممارسة العمل الإبداعي. وتظل فيروز هي ذاتها فيروز التي لا تكبر. وتظل تغني بدون توقف. بل هي، برغم وزنها في عالم الغناء لم تتردد في الاستجابة في غنائها الحديث لما كان يطلبه منها ابنها الفنان المبدع زياد وهو يعيد توزيع ألحان أغانيها القديمة من تأليف والده عاصي وعمّه منصور، أو من تأليف شريكهما فيلمون وهبي، فضلاً عن الأغاني الحديثة التي وضعها هو لها لحناً وكلمات.
تعرفت إلى الأخوين رحباني، كما أشرت إلى ذلك، في أواسط الستينات في القرن الماضي. ورغم أن العلاقة كانت عابرة، إلا أنها زادتني قرباً من فنهما، وزادتني معرفة بالخصائص الفنية لكل منهما. وبدا لي، مع الوقت، كما لو أن عاصي كان أكثر تميزاً في الموسيقى، في حين كان منصور أكثر إبداعاً في الشعر، أو هكذا كان يُخيَّل إليَّ من جرَّاء ما كنت أسمعه من تقييمات بعض العارفين بعالم الأخوين رحباني. بينما يقول آخرون بأن الحقيقة هي أن كليهما كانا يؤلفان الموسيقى ويوزعانها وينظمان الشعر في ثنائية رائعة التكوين شكلت الظاهرة الرحبانية غير المسبوقة في عالم الموسيقى والغناء والشعر والمسرح. أضيف إلى ذلك، من معرفة تكونت عندي من علاقتي الحميمة مع منصور، أنه قد تابع، أي منصور، بعد رحيل عاصي عمله الإبداعي الذي برز فيه الطابع الخاص به في شخصيته المستقلة نسبياً عن الأخوين رحباني، كظاهرة، والمكملة لها في الآن ذاته. وتمثلت عناصر الإبداع الجديدة في أعمال منصور المشار إليها مع كثير من التفاصيل المهمة في كل من الموسيقى والشعر واللغة والبعد الفلسفي.
وأذكر أنني حملت إلى عاصي ومنصور، في ذلك اللقاء الأول المشار إليه برفقة نزار مروة ومحمد دكروب، ترجمة لمقطع من مسرحيتهما «جسر القمر» (كنز الكنوز)، كنتُ قد نقلته إلى الفرنسية، ونُشر في المجلة التي كان يصدرها مجلس السلم العالمي في فيينا. وكان ذلك مفاجأة سارة لهما. إذ كانت تلك المجلة واسعة الانتشار في العالم. وكانت تصدر بعدة لغات.
الطفولة
وقبل أن أسترسل في الحديث عن هذه الظاهرة أتوقف قليلاً عند سيرة «الأخوين رحباني»، منذ طفولتهما وشبابهما وصولاً إلى بداية الطريق إلى الشهرة. وهي معلومات استقيتها من عدة مصادر أهمها كتاب الشاعر هنري زغيب «الأخوين رحباني طريق النحل» وكتاب جوزيف أبي ظاهر «الأخوين رحباني ـ هوامش من سيرة ذاتية»، وكتاب نزار مروة الذي صدر بعد وفاته بعنوان «في الموسيقى العربية والمسرح الغنائي الرحباني».
لنقرأ هذه الكلمات التي يتحدث فيها منصور عن نشأتهما في كنف والدهما حنّا عاصي الرحباني، أبو عاصي، المعروف بالقبضاي شيخ الشباب. وهي مقتطفات من الحوار الذي سجله الشاعر هنري زغيب:
«حكايتنا، عاصي وأنا، قصة شقيقين كأنهما توأمان. ربيا في ظل الأسئلة الكبيرة. وطرحا الأسئلة الكثيرة. وقالا بالكلمة والنوطة ما اعتقدا أنه بعض الجواب. لكنهما لم يقطفا أبداً أيّ جواب. إنها حكاية طفولة غريبة ترعرعت بين حفافي نهر الفوار وشجر الحور والصفصاف ووعر الجبال ومغاور بلدة أنطلياس التاريخية... حكاية الفقر والحرمان حتى الوجع المر، والبكاء الصامت الذي ينتهي دموعاً حافية على أطراف مخدَّة ممزّقة فوق فراش عتيق. حكايتنا، عاصي وأنا، مجموعة لوحات طفولة كانت تشتهي ما لا تطاله العين، وتحلم بما لا تطاله اليقظة، وتكبر على أخبار عنترة والقبضايات وكراسي الزبائن في «مطعم الفوار» تتردَّد بعد رحيلهم أنغام بُزُق القبضاي «شيخ الشباب» أبو عاصي. في ظلّ والدنا حنّا عاصي الرحباني، الشخصية الغريبة والقريبة معاً، نشأنا وكبرنا، عاصي وأنا. و«أبو عاصي» هو من حي «عين السنديانة» في بلدة الشوير. ينتمي في أصل جدوده إلى قرية رحبة في عكار. هاجر والداه إبان موجة الهجرة اللبنانية، إثر أحداث 1860، هرباً من جور العثمانيين. وُلد في طنطا (مصر). ويتذكَّر أن ولادته كانت سنة ثورة عرابي باشا (1882). عاد فتى إلى بيروت، وسكن في حي الرميل، مشتغلاً لدى نسيبه الصائغ ديب عاصي... كان حنّا يطمح أن يكون صائغاً محترفاً. لكنها مهنة لم تكن تدرُّ عليه كما يرغب، فيما مهنة أخرى شائعة عهدئذٍ، كانت تدرُّ مالاً وفيراً. إنها مهنة القبضايات. لذا كان يقبض أجرته الأسبوعية، ويذهب مع بعض قطَّاع الطرق إلى ضهر البيدر أو إلى وادي اللَّبِّيش مع «الطيَّاحين» (الطائحين) فيعود بمغانم أكثر. وشخصية «القبضاي» ترددت لاحقاً في غير واحد من أعمالنا (منها «أبو أحمد» في فيلم «سفر برلك»، والقبضايات في مسرحية «لولو»). وكان دائماً يحمل مسدسات وخناجر ومِدى وأسلحة مختلفة. وغير مرَّة كانت له في بيروت جولات إطلاق نارٍ مع العثمانيين، حتى حكموا عليه بالإعدام غيابياً. فلم يعد أمامه سوى الفرار من ولاية بيروت. ففي ذلك العهد، أيام المتصرفية، لم يكن القانون العثماني يطال ولاية جبل لبنان التي تبدأ حدودها شمالاً عند نهر بيروت. كان في جبل لبنان حكم ذاتي ذو حصانة وامتياز، تحميه سبع دول ويديره متصرِّف لا يخضع لحكم ولاية بيروت... وصل والدي إلى أنطلياس واستقرَّ فيها، متَّخذاً من بقعةٍ على فوار أنطلياس مقهىً جعله ملتقى الفارّين من حكم الإعدام العثماني وجور العثمانيين. من أولئك «القبضايات» الياس الحلبي، غندور زريق، الحاج عبد السلام فرغا، أحمد الجاك، أبو راشد دوغان.. وكان يقصد المقهى (وكان اسمه «مقهى فوار أنطلياس») زبائن كثيرون من بيروت وجبل لبنان، يشدُّهم إليه أمانٌ في الخارج، وطربٌ في الداخل «على رنين بزق حنّا عاصي. كان والدي أميّاً. وكان يعرف من أسرار الحياة أكثر مما تُعلِّم المدارس. فهو من جيل ربي على خميرة البركة وراحة البال. وكانت له في «مقهى الفوار» إمبراطورية خاصة يديرها بطبعه المشاكس الذي لا يهادن في أمور الأخلاق (بعد حياة «الطياح» التي عاشها، تاب إلى الاستقامة). لذلك كتب إعلانين على مدخل المقهى ضد مصلحته تماماً. الأول بالعربية يقول: «المرجو من ضيوفنا الكرام أن تكون أساليب سرورهم مقرونة بالحشمة ومكارم الأخلاق، وأن يحرصوا من الشراب أن لا يورِّطهم بما يخل بالآداب. ممنوع كل شيء ضد الآداب. ممنوع على الرجل أن يجلس قرب زوجته بل قبالتها. ممنوع أن يلقِّمها بيده. ممنوعة كل حركة غير عادية. وإذا خالف أحدٌ هذه القوانين لقي ما لا يحب. (الإمضاء: حنّا عاصي الرحباني). وكان الإعلان الآخر بالفرنسية، نظراً لوجود جيش أجنبي في المنطقة. كان يقول: «ممنوع كل لفتة وكل نظرة مخالفة للآداب. ممنوع رقص الجنسين». ونظراً لهذا القانون «الرحباني» الصارم المتشدد المتصلب، كان الكثيرون من أبناء بيروت المحافظين يرسلون عائلاتهم إلى «مقهى الفوار» صباحاً مطمئنين إليهم وإلى حماية حنّا عاصي، ثم يلحقون بهم بعد الظهر فيجدون كل عائلة لوحدها، يفصل بينها وبين العائلات الباقية حصير علَّقه حنّا عاصي بشكل حاجز يحجب بين العائلة والأخرى».
وتشير الرواية الخاصة بعائلة الرحباني إلى أن حنّا عاصي كان يحب الموسيقى. وكان يعزف على البزق. لكنه لم يسمح لعاصي أو لمنصور بتعلُّم العزف على هذه الآلة. فقد كــان الأمر، بالنســبة إليه، مجرد هواية. لذا كانا يستغلان غيابه في المقهى لإشباع نهمهما بدندنات بسيطة على الآلة التي سحرتهما.
في أواخر الثلاثينات من القرن الماضي، كان حنّا الرحباني يصطاف في بلدة شويا، ويشرف على مقهى «الينابيع». وصادف أن وجد عاصي في المقهى عشر ليرات لبنانية. أعطاها لوالده فعلَّقها الوالد على مدخل المقهى، علَّ صاحبها يعود ويأخذها. ثم مرت أسابيع، والليرات العشر معلَّقة، ولا من يسأل، ولا من يهتم للأمر، سوى عاصي الذي شقَّ عليه أن تبقى في مكانها، وهو يتأملها كل يوم، ولا يستطيع التصرف بها. وخطرت له فكرة. جاء بورقة (من كيس ترابة) في حجم الليرة، وقام بعملية تزوير للورقة النقدية الأصلية، وأخذها، ووضع مكانها على مدخل المقهى الورقة المزوَّرة. ونزل إلى أنطلياس، وبحوزته الكنز الذي مكَّنه من شراء كمنجة بسبع ليرات، وهيأ له شروط الدخول في الكونسرفاتوار لدرس أصول العزف على يد الأستاذ أدوار جهشان.
في عام 1937 أصدر عاصي الرحباني مجلة أسبوعية اسمها «الحرشاية»، كان يحررها وحده، ويكتبها بخط يده، وبالقلم الرصاص، على دفتر مدرسي. وكانت تتضمن المجلة اقتتاحية بتوقيع «حرشي»، ومقتطفات شعرية، وخواطر وجدانية، وكلمات بأسماء مستعارة، إضافة إلى بعض المشاهد المسرحية. وكانت الكتابة باللهجة اللبنانية وباللغة الفصحى.
إلاَّ أنَّ المحطة الفنية الأولى في حياة عاصي ومنصور كانت حين جاء الأب بولس الأشقر (1882 ـ 1952) إلى أنطلياس، بعد أن درس الموسيقى الشرقية والغربية على أيدي أساتذة لبنانيين وأجانب. وكان الأب الأشقر قد عين في لجنة اختيار أفضل لحن للنشيد الوطني اللبناني، وهو المعلم الأول للألحان الطقسية المارونية. وكان كعادته، حين يصل إلى بلدة، أو إلى قرية، يجمع حوله نخبة من الشباب، يختار من بينهم أصحاب الأصوات الجميلة، ويؤلف جوقة يعلمها المبادئ الأولى في الموسيقى. وكان منصور من بين الذين ضمتهم جوقة الأب بولس الأشقر. واستبعد عاصي من الجوقة، لأن صوته لم يكن من الأصوات الجميلة. فصار يأتي مع شقيقه في ساعات التمارين، ويقف قبالة الجوقة، يستمع من مكان بعيد. ذات يوم، كان الأب الأشقر يدرِّس جوقته نظرية «التيتراكورد»، فطلب منهم تفسير تلك النظرية. وحين جاءت الشروحات غير صحيحة، قال عاصي من بعيد «أنا بعرفها». فردَّ الأب الأشقر «إذا عرفتها بدي علمك»... وعرفها... وصار يعلِّمه.
وحدهما عاصي ومنصور واظبا على الدروس الموسيقية. فعلَّمهما الأب الموسيقي النوطة وأصول الموسيقى الشرقية والأنغام. ووجَّههما خير توجيه، وأطلعهما على مراجع نادرة في الموسيقى الشرقية، منها : كتاب كامل الخلعي، وأشياء عن الكندي والفارابي، وكتاب «الرسالة الشهابية في قواعد ألحان الموسيقى العربيـة»، للدكتور مخائيل مشاقـة (1800 ـ 1888). وكان هذا الأخير قد أهداها إلى الأمير بشير الشهابي. واعتُبِرت بمثابة عمل موسيقي كامل.
وقد درس عاصي ومنصور الموسيقى الشرقية على الأب الأشقر على امتداد ست سنوات. وتابعا درس التأليف الموسيقي الغربي لمدة تسع سنوات. وكان أستاذهما هو برتران روبييار. وكانت تلك الدراسة بطاقة مرور إلى موهبتهما التي «غيَّرت واقع الموسيقى والأغنية في الشرق» حسب تعبير المسيقار محمد عبد الوهاب. وقد جاءت دراستهما للموسيقى الغربية في الفترة التي كان قد أصبح فيها عاصي بوليس بلدية وكان قد أصبح منصور بوليس عدلية.
وكانا، إلى جانب حبهما للموسيقى، شغوفين بالمسرح. وكان المسرح في تلك الفترة يقتصر على المسرحيات التاريخية والدينية، ومعظمها مقتبس عن اللغة الفرنسية. وكانت تلك المسرحيات تمثل باللغة الفصحى، أو بالشعر. وكان من بين تلك المسرحيات مسرحية «إيليا» و«حسناء الحجاز» وهما من تأليفهما. أما موضوع المسرحيتين فكان مستوحى من قصة لإميل حبشي الأشقر. في حين أن مسرحية «في سبيل التاج» فكانت مترجمة، قام بترجمتها حليم دموس. وكانت تجربتهما الأولى في المسرح في المدرسة مع أستاذهما فريد أبو فاضل.
في فترة لاحقة ساهم عاصي ومنصور مع مجموعة من رفاقهما في تأسيس «نادي أنطلياس الثقافي ـ الرياضي». وكان من بين نشاطات النادي تقديم مسرحيات غنائية. وكان أبرز تلك المسرحيات مسرحية «النعمان الثالث ملك الحيرة»، التي أخذا موضوعها عن معلمهما فريد أبو فاضل، وصاغاها شعراً، ولحنّاها ومثَّلاها. ثم ألَّفا سيناريوهات دينية. كما ألَّفا مسرحيات مستوحاة من البيئة اللبنانية، ومشبعة بالفولكلور وبالتقاليد والعادات. وقد عُرضت في القرى المجاورة أعمالهما المسرحية. وأطلق الناس على فرقتهما اسم: «فرقة بيت الرحباني» التي انطلقت، بعد ذلك، وتحولت إلى فرقة جوالة تحيي الحفلات في أشهر مقاهي وكازينوهات لبنان في الأربعينات. وقد رافقتهما في بعض أعمال تلك المرحلة الفنانة سميرة توفيق، يوم كانت ما تزال في أول طريقها إلى الشهرة. ثم تعرفا إلى الفنان خليل مكنيه. وكان عازف كمان وتشيللو. وكان معروفاً بتأليفه للموسيقى الغجرية «تسيغان». وهو ابن أخت الموسيقي اللبناني المعروف توفيق الباشا. كما تعرفا إلى زكي ناصيف، الذي سبق الجميع إلى تعلَّم أصول الموسيقى الشرقية والغربية والتلحين، وأجاد العزف على البيانو. وزكي ناصيف، الذي رحل بعد عاصي وقبل منصور، هو واحد من كبار الموسيقيين اللبنانيين.
إلا أن عاصي ومنصور لم يكتفيا بنشاطهما في ميدان المسرح والموسيقى والشعر. بل هما ساهما، مع أعضاء نادي أنطلياس، الذي كانا من مؤسسيه، بإقامة عيد الليمون في أنطلياس. وسرعان ما تحوَّل هذا العيد إلى ما يشبه الكرنفال. إذ كانت تقدم فيه مشاهد استعراضية، ومواكب ، وحفلات. ويعتبر هذا العيد من أهم النشاطات الفنية لتلك المرحلة من خمسينات القرن الماضي. إذ كان يحضره رئيس الجمهورية وعشرات الألوف من اللبنانيين الذين كانوا يأتون إليه من كافة المناطق.
انتسب عاصي إلى الأكاديمية اللبنانية ، التي كان يشرف عليها الموسيقي اللبناني وقائد الأوركسترا المعروف ألكسي بطرس. فوضعه أستاذه في فئة «الباس». وبعد فترة من الدراسة تعرف إلى الأستاذ برتران روبييار، فعلَّمه مع شقيقه منصور أصول «الهارموني»، و«الكنتربوان» ، وهي أصول وقواعد موسيقية يعرفها أهل الموسيقى. وبعد تسع سنوات من الدراسة بدأ اسم عاصي ومنصور ينتشر، وتنتشر معه أغانيهما في المقاهي والكازينوهات. وبعد فترة من تقديم أعمالهما في إذاعة لبنان تبنّى أغانيهما القصيرة مدير الإذاعة يومذاك فؤاد قاسم. وكانت مدتها لا تتعدى الدقائق الثلاث. ويقول مؤرخو تلك الحقبة في الموسيقى والغناء بأن تلك المدرسة الجديدة في الغناء قد حلَّت محل المدرسة القديمة ذات الأغنيات الطويلة.
لم يمضِ وقت طويل حتى اشتهرت الأغنية الرحبانية. وبدأ الناس يرددونها في سهراتهم، وفي مجالسهم. وصارت على كل شفة ولسان. ووصل صداها إلى صبري الشريف، رئيس القسم الموسيقي في محطة الشرق الأدنى، التي كانت تذيع من جزيرة قبرص. وإذ أدرك الشريف أهمية أعمال الأخوين عاصي ومنصور، وكونها لقيت استحسان الجمهور سارع في المجيء إلى بيروت ليقابل الفنانين. وأقنعهما بالتعاون معه في تقديم البرامج والاسكتشات والأغنيات والإعلانات في إذاعة الشرق الأدنى.
في إذاعة الشرق الأدنى عملت معهما شقيقتهما نجوى لفترة قصيرة. ثم طلَّقت الفن لتتزوج من المحامي عبد الله بشارة الخوري، نجل الأخطل الصغير. وحلَّت مكانها المطربة حنان. ثم جاءت نهاد حداد (فيروز) لتشارك حنان في بعض الأغنيات (ثنائي)، ثم لتغني من إذاعة بيروت أول أغنية من ألحان عاصي (1949) كتب كلماتها الشاعر قبلان مكرزل، وعنوانها «حبذا يا غروب»، وتبعتها أغنية «عتاب»، من تلحين عاصي أيضاً، التي كانت بداية رحلة فيروز في عالم الغناء الفيروزي الرحباني.
تلك كانت المرحلة الأولى من مسيرة الأخوين رحباني. أما المرحلة الثانية فكانت في مطلع الخمسينات، يوم تولى الكاتب والصحافي السوري أحمد عسٌّه، صاحب جريدة «الرأي العام»، مديرية إذاعة دمشق. ففي محاولة لتجديد الإذاعة وتطويرها اتصل بالأخوين رحباني واتفق معهما على تقديم أعمالهما الغنائية من تلك الإذاعة. وانضم إليهما الموسيقي فيلمون وهبي، الذي كان قد سبقهما إلى العمل في إذاعة دمشق. كما انضمت إليهما فيروز. وتوطدت علاقة عسٌّه بالثلاثي عاصي ومنصور وفيروز. وقال في غير مقابلة: «أشهد أن لمنصور موهبة اكتشاف الكلمة الحلوة الكفيلة بأن تكون هيكل أغنية. وأشهد بأن لعاصي قدرة مذهلة على الخلق والإبداع والإنتاج نوعاً وكماً، وأنه، أي عاصي، كان يرافق صوت فيروز خطوة خطوة، وكان يساهم في صنع هذا الصوت مرحلة مرحلة».
فيروز
في أواخر الأربعينات تعرف عاصي إلى الشاعر سعيد عقل. وكان واسطتهما إلى ذلك عبد الله بشارة الخوري، نجل الأخطل الصغير. وسرعان ما توطدت العلاقة بين الرحبانيين وسعيد عقل. وذات يوم رافق الشاعر عقل الفنان عاصي إلى منزل فيروز، حيث اكتشف بداية قصة الحب بينهما. وخلال عودتهما من زيارة فيروز سأل سعيد عقل عاصي: «ماذا تنتظر يا عاصي حتى تتزوجها؟». وهكذا كان. إذ لم يطل الانتظار، وتم الزواج في كانون الأول من عام 1955.
إلا أن معرفة عاصي بفيروز إنما تعود إلى سنة 1950. وقد ذكّر عاصي باللقاء الأول بينهما في غير حديث صحافي، قال: «جاءني حليم الرومي قائلاً: أود يا عاصي أن تسمع صوت فتاة اكتشفتها قبل بضعة اشهر. فقلت له: لا مانع عندي. ويومها كنت لا أزال أرتدي الشورت. فتقمصت شخصية الملحن العظيم. ووضعت السيجارة على طرف شفتيّ، واستمعت إلى نهاد حداد وهي تغني «يا زهرة في خيالي» لفريد الأطرش. وأتبعتها بموال «يا ديرتي مالك علينا لوم» لأسمهان. فأعجبت بصوتها. وبدأ عهد جديد بيننا. وكانت أول أغنية لحنتها لها «حبذا يا غروب». وكرَّت سبحة الأغاني... ومشينا طريقاً طويلة، تخللها بعض التعب، والكثير من المجد والشهرة والحب... وأشياء أخرى».
اهتمَّ الأخوان رحباني اهتماماً خاصاً بالفولكلور اللبناني. فأبدعا له نموذجاً خاصاً من الأغاني، هو النموذج الذي صار يحمل اسمهما واسم فيروز. وزَّعا الفولكلور توزيعاً حديثاً، واقتبسا وعرَّبا بعض الجميل من الأعمال الموسيقية الغربية. ثم اتجها إلى الموشحات. وزادا عليها بعضاً من أشعارهما. ولقيت تجربتهما نجاحاً باهراً. وقد شاركا، في تلك المرحلة بالذات، بتأسيس «عصبة الخمسة» اللبنانية. وكان شركاؤهما في «العصبة» كل من توفيق الباشا وزكي ناصيف وتوفيق سكر. وقد تم استيحاء الاسم من «عصبة الخمسة» الروسية التي كانت تتألف من رمسكي كورساكوف وبلاكيريف وكوي ومسورسكي وبورودين. وكان هدف العصبة يرمي إلى إحداث تطوير في الموسيقى اللبنانية وفي الغناء اللبناني. وكان صبري الشريف يقف وراء تلك العصبة ويشجعها.
كبرت الظاهرة الرحبانية، وتنوعت عناصر الإبداع فيها، وانتشرت في العالم العربي وفي العالم. وبلغ عدد المسرحيات التي ألفها الأخوان رحباني، شعراً وموسيقى، كانت فيروز المغنية الأساسية فيها، إحدى وعشرين مسرحية. وهي كانت مسرحيات نقدية لاذعة. ولم تشذ عن ذلك المسرحيات التاريخية منها. وكثرت النقاشات حول الظاهرة الرحبانية في الوسط الفني، بين مرحِّب بها من دون نقد، وناقد لها مع الإقرار بأهميتها وبكونها ظاهرة جديدة غير مسبوقة في الغناء والموسيقى وفي الشعر وفي المسرح الغنائي في العالم العربي. وفي أي حال فإن المسرح الغنائي، كما ظهر في مسرح الرحابنة، هو رحباني بالكامل.. أي أنه يحمل اسم الأخوين رحباني بامتياز. ولا يقلل هذا من أهمية ما قام به آخرون في مهرجانات بعلبك من حفلات موسيقية وغنائية، لا سيما فرقة «الأنوار» التي كان يؤلِّف موسيقاها المؤلف الموسيقي وليد غلمية، الذي يشغل منذ عدة أعوام مركز رئيس الكونسرفاتوار الوطني اللبناني، والذي يعود له الفضل في تشكيل الفرقة السمفونية الأولى في لبنان.
يقول عاصي في أحد تعليقاته على بداية وتطور المشروع الموسيقي الرحباني: «في صغرنا كنا نحب تحويل الأحلام إلى مسرح غنائي.. كنا نحب تأليف أوبرا. وحين بدأنا عملنا الفني حاولنا تحقيق هذا الحلم، الذي لم يأتِ بالمعنى الحرفي للأوبرا، بل جاء في صيغة «ميوزيكال»، أي في صيغة مسرحية غنائية. وكان ذلك في أول عمل مسرحي مع صباح ضمن مسرحية «موسم العز» التي قدمت في عام 1960. وكانت المسرحية الغنائية الأولى. لكن المسرح الغنائي بدأ معنا. وكان ذلك قبل المسرح الذي اقتصر في ذلك الوقت على تقديم حفلة واحدة في بعض القرى وفي مناسبات معينة».
أما منصور فيقول في شرح عملية التأليف الموسيقي، موضوعاً وآلية، وصلة بالفولكلور: «عالجنا الألحان الفولكلورية كما هي. ثم زدنا جديداً على الفولكلور كي نقربه من متناول العصر. فوضعنا أغاني مستوحاة من الفولكلور في إطار الرسم الميلودي الفولكلوري. ووضعنا أغاني حرة. كما أتينا بأغنيات عالمية شائعة. وقدمنا موجة الأغاني الراقصة التي غنَّتها فيروز بمرافقة الموسيقي العراقي منير بشير على العود. بل إننا وضعنا موسيقى جاز، وواجهتنا حملة عنيفة...».
ويقول الناقد الموسيقي السوري نجاة قصاب حسن في دراسة موسعة حول الظاهرة الرحبانية نشرت في مجلة «الطريق» اللبنانية: «عبقرية التلحين الموسيقي عند عاصي ومنصور هي معجزة البساطة الظاهرة. ويمكن القول، بعد حل مشكلة الهارسوني لأول مرة في تاريخ الموسيقى العربية وبعد معجزة التلحين البسيط في ظاهرة المتين البنيان في حقيقته، أن عاصي ومنصور استطاعا أن يدخلا على الموسيقى العربية جملة من التطورات الجوهرية». ثم يعدد الناقد هذه التطورات بثلاثة: تقصير الأغنية، تلوين مواضيعها، ابتداع لغة غنائية تستمد خصائصها من ضرورات اللحن.
ويقدم الناقد الموسيقي اللبناني نزار مروة رأيه في الظاهرة الرحبانية في عدة مقالات ودراسات، بدأها منذ مطالع الخمسينات حتى وفاته في مطالع التسعينات. فهو يقول في مقال عن الأغنية الرحبانية نشر في الكتاب الذي صدر بعد وفاته بعنوان «في الموسيقى اللبنانية العربية والمسرح الغنائي الرحباني»: «دون انتقاص من قيمة الفنانين الذين كانوا ينتجون في الميدان الغنائي في لبنان في أوائل الخمسينات أو التقليل من مواهبهم، نستطيع القول باطمئنان: إن الأغنية الرحبانية إنما ظهرت منذ بداياتها الأولى متميِّزة ومختلفة عن السائد في الفن الغنائي آنذاك. فربما لأول مرة تنشأ أغنية تؤكد على وحدة فنية متقنة بين النص واللحن على هذه الصورة. ولأول مرة يقوم توازن ما بين هذين العنصرين بهذا الشكل. ربما لم يكن ثمة وعي بتلك الوحدة أو ذلك التوازن، أو لم يكن في قصد الأخوين رحباني ونواياهما الفنية تحقيق تلك الوحدة وذلك التوازن. لكن الموقف من طريقة كتابة النص الشعري ومن طريقة التلحين قد أخذ بيد الأخوين رحباني إليهما بصورة عفوية وطبيعية، ليحققا أغنية حديثة بأكثر من معنى، أغنية تنطوي على الكثير من الطرافة والتعبيرية والتكامل. بمعنى آخر: ثمة عصر جديد يتطلب لغة فنية مبتكرة وفناناً يرى إلى آفاق لم تكن مرئية من قبل لسبب بسيط هو أنه لا يمكن استباق الزمن في الغالب. وتأتي الحركة الفنية بصورة طبيعية ومنطقية، تولد دون اصطناع أو تزييف... لنعد إلى المسرح الغنائي الرحباني. وينبغي أن أنوِّه منذ الآن بخاصية إيجابية تلتصق به، منذ نشوئه حتى توصله إلى التماسك وإثبات الوجود على مستواه التاريخي وعلى مستوى قيمته الفنية. هذه الخاصية تجعل من المسرح الغنائي اللبناني مسرحاً أصيلاً وظاهرة فريدة كما أسلفنا. فهو يستقي من الفن الشعبي ومن أفضل تقاليده. وهو ـ بالضرورة إذن ـ إنساني، جوهره دعوة إلى الجمال والخير. نجده أحياناً يفسِّر المعتقدات الشعبية المأثورة تفسيراً واقعياً مقدوداً من معدن الشعر، مثل تفسير حكايا الجن في مسرحية «جسر القمر». وهو يصوِّر نهم الناس إلى المعرفة وكشف غوامض الطبيعة وأسرارها. ويسخر من تفاهة الروح العسكرية. ويعالج علاقات اجتماعية معقدة ويحلها لصالح المظلومين كما في «دواليب الهواء». بكلمة أنه مسرح غنائي شعري. لكنه قبل كل شيء مسرح واقعي».
وجدير بالذكر أن علاقة خاصة كانت تربط بين نزار والأخوين رحباني. وكان نزار يمارس معهما فعل النقد، من موقع الصداقة ومن موقع المعرفة العميقة بالموسيقى. وأذكر في هذا السياق قصة طريفة عن هذه العلاقة رواها لي نزار، وأكدها لي منصور، ثم أكدها لي من جديد، حرفياً، أبناء منصور، غدي ومروان وأسامة. وهي تبين أمرين. الأمر الأول هو أن الأخوين رحباني كانا ينصتان باهتمام كبير إلى الملاحظات البناءة وإلى النقد الدقيق الذي كان يأتي من العارفين بالموسيقى. والأمر الثاني هو عمق المعرفة بالموسيقى عند نزار وعمق العلاقة بينه وبين عاصي ومنصور. وملخص القصة هو أن نزاراً كان يحضر إحدى مسرحياتهما. وبعد الانتهاء من العرض ذهب نزار الى عاصي ومنصور مبدياً اعجابه بالعمل. لكنه لفت نظرهما الى ان كل الايقاعات الموسيقية تنتمي الى الايقاع المربع اي Rythme regulier فقال لهما: عليكما بالتغيير وتكسير الايقاعات . فما كان من عاصي ومنصور الاَّ ان تمسكا بذلك الانتقاد. وفي العمل التالي جاءت الايقاعات متغايرة، ثلاثية وسداسية وسباعية، اي ايقاعات غير مربعة .Rythme irregulier وكانت تلك المسرحية «بياع الخواتم».
إلا أن جميع الذين كتبوا ترحيباً بالظاهرة الرحبانية أو نقداً لها، أو نقداً لجوانب منها، لم يستطيعوا إلاَّ أن يشيروا بتقدير كبير إلى ذلك التكامل الرائع بين عبقريتيّ الأخوين وثالثهما فيروز. وكان من أبرز مظاهر الترحيب بالظاهرة أن عدداً من كبار أهل الموسيقى وأهل الغناء وأهل الشعر في لبنان والعالم العربي قد أقاموا علاقات صداقة وعمل مع الرحابنة، بدءاً بالشعراء الكبار الأخطل الصغير وسعيد عقل وعمر أبو ريشة وجورج شحادة ونزار قباني وميشال طراد وأنسي الحاج وطلال حيدر وجوزيف حرب ورفيق خوري. أما الموسيقيون الذين تعاملوا مع الرحابنة فكانوا من كبار أهل الموسيقى، وهم محمد عبد الوهاب وتوفيق الباشا وزكي ناصيف وفيلمون وهبي. وكان هذا الأخير شريكاً لهما على امتداد حياته في الموسيقى وفي التمثيل. وكان صبري الشريف من أكثر الذين رافقوا الرحابنة، ومن أكثر الذين ساهموا معهم في تطوير عملهم الإبداعي. كما كان الناقدان الموسيقيان نزار مروة ونجاة قصاب حسن، والناقد الأدبي محمد دكروب، من أقرب الناس إليهم خلال إعدادهم لأعمالهم الفنية.
منصور
في 26 أيلول من عام 1972 أصيب عاصي بنزيف في الدماغ، أثار موجة من القلق عمَّت لبنان كله. لكن الطب أنقذه مؤقتاً. فعاد إلى عمله في التأليف الموسيقي، لكن ببطء، وبتوتر. ثم عاد النزيف من جديد بقوة أكبر، فوضعه في ما يشبه الغيبوبة، ابتداءً من عام 1980. زرته يومذاك بصحبة زياد في المستشفى. وبالاتفاق مع زياد حاولت مع الحزب الشيوعي الفرنسي تأمين علاج لعاصي في فرنسا. لكن التقرير الذي أرسلناه لم يكن مشجعاً. وكان علينا جميعاً أن ننتظر حتى صباح السبت في الحادي والعشرين من شهر حزيران من عام 1986، ذلك الصباح الذي غاب فيه هذا الفنان الكبير، وخسرت الموسيقى العربية بغيابه واحداً من كبار المبدعين فيها. ويصف منصور تلك السنوات بكثير من التفاصيل، لكن بأسى كبير. وكان على منصور أن يكمل، لكن بصعوبة بعد غياب عاصي، ما كان الأخوان ومعهما فيروز قد حولوه إلى ظاهرة فريدة في الموسيقى وفي الغناء وفي المسرح الغنائي. فأنتج عدداً من المسرحيات مع كوكبة من الفنانين اللبنانيين، ثم مع مروان وأسامة. وكان أخر تلك الأعمال «عودة الفينيق». وحين أحس منصور بالتعب، في العمل من دون أخيه عاصي وشريكه التاريخي في الظاهرة أسرع في الرحيل. وكنت قد أقمت علاقة جميلة وحميمة مع منصور امتدت إلى عقدين من الزمن. وكنت على موعد معه قبل الرحيل، في أعقاب صدور كتابيّ الأخيرين، وانطلاق مسرحية «عودة الفينيق». وحين كان عليّ أن أذهب إلى لقائه بعد شفائي من وعكة صحية، فوجئت برحيله، وفجعت، وغمرني، وغمر لبنان كله، حزن على رحيل هذا الفنان الكبير.
أذكر أنني زرت عاصي في صيف عام 1974 مع نزار مروة لأساله إذا كان بالإمكان مشاركة فيروز في احتفالات الذكرى الخمسين لتأسيس الحزب الشيوعي اللبناني ، التي جرت في أواخر شهر تشرين الأول من ذلك العام. اعتذر عاصي لأسباب لم أعد أذكرها، مذكِّراً بتاريخ قديم من العلاقة التي كانت تربطه هو ومنصور بالحزب الشيوعي اللبناني. يومها حدثني عاصي عن طرائف كثيرة في تلك المرحلة من حياته وحياة شقيقه منصور. وذكر لي أنه ساهم في توزيع بيانات للحزب الشيوعي مع مناضلي الحزب. وقال بأنه هو ومنصور ظلاّ على علاقة صداقة وعمل مع عدد من مثقفي الحزب على امتداد نشاطهما الموسيقي. وأذكر أنني سألت عاصي في ذلك اللقاء عن رأيه في إمكان مشاركة زياد في الاحتفالات المشار إليها. وكان زياد قد بدأ يلحِّن أغاني واسكتشات غنائية. وكان عمله الغنائي الأول «سهرية» حافلاً بالأغاني التي أدَّاها جوزيف صقر، وشاعت في طول البلاد وعرضها. فقال عاصي بهدوئه المعتاد: لزياد شخصيته المستقلة. وهو الذي يقرر ما إذا كان سيشارك أم لا. وهكذا كان. فذهبنا إليه نزار وأنا واتفقنا معه على المشاركة في الاحتفالات بمسرحية «سهرية». وكانت تلك بداية الصداقة مع زياد. وفي وقت لاحق تعرفت إلى فيروز وإلى ليال ابنة عاصي وفيروز وشقيقة زياد. وأذكر أن فيروز طلبت مني أن نؤمن لليال منحة دراسية في إحدى الدول الاشتراكية. فأمنا لها منحة إلى إحدى جامعات وارسو. لكن ليال لم تعش طويلاً، ولحقت بوالدها عاصي في أواخر الثمانينات.
في أواخر الثمانينات طرحت فكرة ترشيح فيروز للحصول على جائزة «لينين العالمية لتعزيز السلم بين الشعوب». وكنت صلة الوصل بين فيروز، من خلال نزار مروة، وبين اللجنة العالمية المانحة للجائزة، من خلال اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفياتي. وتطوع نزار للحديث مع فيروز حول الفكرة. وكتب تعريفاً بفيروز سلمني إياه، فأرسلته بدوري إلى اللجنة. إلا أن الجائزة كانت تلفظ أنفاسها، في تلك الفترة، مع اشتداد الأزمة التي كان يعاني منها الإتحاد السوفياتي، الأزمة التي انتهت بتفككه وانهياره. لذلك لم تؤد المباحثات التي قمت بها في موسكو، حول الجائزة إلى نهاياتها، رغم أن الفكرة كانت موضع ترحيب سوفياتي.
كان النص الذي وضعه نزار في التعريف بفيروز نصاً جميلاً وعميقاً يعطي لفيروز حقها في التقدير. يقول نزار، في سياق حديثه عن المسرح الغنائي للرحابنة، بأن صوت فيروز «كان إشارة إلى الأهمية الخاصة النوعية للفن الغنائي الجديد، جمالياً واجتماعياً، وإشارة إلى شرعية انتشار تذوق جديد. صوت فيروز حصيلة تزاوج عنصرين: التدرب على أداء الخصائص الغنائية العربية (الشرقية) على نحو سليم، والتدرب على الأداء بالأساليب المتطورة. إن أداء فيروز للمقامات العربية الأصيلة وهب تأثرها بالأساليب المتطورة قيمة حقيقية متجددة، لأن التطور لم يأت بديلاً لشخصية الأداء العربي، وإنما أتى إضافة خلاقة. لذا فصوت فيروز يمثل ثورة على الحزن الخارجي الذي يهيمن على الأغنية العربية، والمصرية بصورة خاصة، لأنه قطع علاقاته بكل استعارة من النحيب الكاذب الذي تبثه هذه الأغنية، وبالجراح الروحية البليغة التي تسيطر على الغناء العربي بوجه عام. صوت فيروز يقدم الأغنية اللبنانية في إطار تعبيري باهر وصياغات موسيقية تطل على ما هو أقرب إلى الابتهال والمناجاة العقلانية النبيلة».
ملحمة الرحابنة هي واحدة من أكبر الملاحم العربية في التأليف الموسيقي وفي الشعر وفي الغناء وفي المسرح الغنائي وفي استعادة الفولكلور الشعبي وفي تهذيبه وتطويره وإغنائه.
وسيظل يسجل التاريخ لعاصي ولمنصور دورهما في تلك الأعمال الخالدة تأليفاً موسيقياً وشعراً وإخراجاً، وفي المسرحيات الغنائية التي غنَّت فيروز في معظمها، وكانت البطلة الأساسية فيها. كما غنت فيها صباح، وغنَّى فيها وديع الصافي، وغنى فيها حتى آخر لحظة من حياته نصري شمس الدين، الرفيق الدائم للأخوين رحباني.
رحل عاصي، ثم رحل منصور. وبقيت فيروز لتكمل المشوار بصوتها الساحر وبحضورها المتألق. وبقي الياس والأبناء، يبدعون، كل منهم على طريقته، ويصنعون مجدهم، كل منهم على طريقته أيضاً.
أما الظاهرة الرحبانية، برموزها الثلاثة، وبالشركاء الكبار في الموسيقى وفي الشعر وفي الغناء وفي التمثيل، فستظل في تاريخ لبنان الثقافي واحدة من مناراته الكبرى.
كريم مروة
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد