في الطريق إلى جبال عِفرين المحررة
أطال المهندس الكردي لحيته، بعد أن نزح من بيته في حي «الشيخ مقصود» أثناء عملية «التحرير» التي قامت بها الكتائب المقاتلة، عائداً مع زوجته وأولاده الثلاثة إلى مسقط رأسه في قرية «صوغان» في جبال «عفرين». لم يكن قد انجذب إلى إرخائها في مرحلة سابقة، حين كان اليساريون يطيلونها في استرسال سهْل خلف هيئة غيفارا ورجالات الثورة الكوبية.احتفظ بها حليقة وناعمة ومعطرة، لكنه الآن بلحية لا يحسن تشذيبها، ولا ينفك يفركها كأنها عبء ثقيل على وجهه، وأضحى مهموماً كتلميذ يستعدّ لامتحانه، يمسك حزمة الأوراق بيده، ويستظهر عدد الركعات في كل صلاة والأدعية المرافقة لها، وبعضاً من الأحاديث التي تتحدث عن الأخوة بين الشعوب والصفح والمغفرة، وقصارى سور القرآن، علّها تفيد في تليين قسوة المقاتلين، وتذكرهم بالحيز الذي يُنسى عادة في الحروب، وحّدة الاستقطابات في الصراعات حين تأخذ منحى عقائدياً.
أنسى كل ما أحفظه، حالما يقف «الميكرو» (الباص الصغير) أمام الحاجز، ويصعد المقاتل المشعث الشعر ليجمع البطاقات الشخصية، ويتفرس في الوجوه، ويختار من يأمره بالنزول، أو يوعز بمتابعة الرحلة... يقول ذلك وهو يحني رأسه على حزمة الأوراق المركونة فوق فخذيه المتلاصقين، مدلكاً صدغيه برؤوس أصابعه.ربما قصد الخوف الذي يُحوّل هذه المعلومات التي تدرب متأخراً على حفظها إلى أثير، إذ لا ذاكرة تسعف من يُطلَب ترجّله من «الميكرو»، وسوقه إلى الرواق الذي تصطنعه أشجار السرو المتوازية، ليمثل أمام الأمير، في صالة المزرعة الفاخرة التي استولت عليها الكتيبة المقاتلة.يقول بيأس من هذا الاستظهار والحفظ ليؤكد عبثية الحياة، بعدما صار يستدرج سكان القرى إلى غسق المجهول: جرى في الأسابيع الماضية، اختطاف «ميكرويْن» بكامل ركابهما، ولم يُسمع عنهم أي خبر حتى الآن.
أضحى آلاف من المضطرين للقدوم إلى المدينة كل أسبوع للدوام في المؤسسات التي يعملون بها، حفاظاً على مصدر دخلهم الوحيد، والتأمين على تعويضاتهم وحقوق تقاعدهم، رهائن لحصارَين: مؤسسات حكومية بتعليمات واضحة تقضي الفصل من الوظيفة لكل من يتغيّب لأسبوعين متواصلين عن عمله، وحواجز لاصطياد الجاهليين... ترى ما فعلته الدول الإسلامية المتعاقبة خلال ألف وخمسمئة عام...
وكيف لم تفطن لهؤلاء الجاهليين وهم يعيشون بين ظهرانيها.وسانحة للتساؤل كذلك عن مصائر الأموال الهائلة التي وظفت من عوائد الريوع النفطية، ودورها في تثبيت ذاكرة دينية انتقائية، استثمرت في برامج توخّت التبشير والتثقيف فضلاً عن الدعاية والتحريض، وباتت أركاناً ثابتة في معظم المحطات التلفزيونية والإذاعية، وعن دور النشر وكتبها ومجلاتها ونشراتها الورقية وأقراصها المدمجة التي وزّعت بأسعار تقل عن أكلافها، والإعلانات التي تنتصب في مفارق الشوارع والطرق العامة، فضلاً عن مقررات التربية الدينية التي يلزم الطلاب بدراستها وحفظها والامتحان بها لإثنتي عشرة سنة دراسية، تبدأ من الصف الأول وتنتهي في الصف الثاني عشر المعروف بـ«البكالوريا»...
كل هذا وسواه ليؤكد بعدها المغتبطون بثقة استثنائية: الدين فطرة!ـ فطر الإنسان على التملك الخاص والتديُّن.تتكرر العبارة، وكأن في نية من يلقنها إلحاحاً على عدم نسيانها، من دون الالتفات لمدوّنات التاريخ، التي طالما أكدت المسافات الطويلة في الزمن بين ظهور حياة الجماعات البشرية وبين السيرورة المتأخرة للمقاربات الدينية لأحوالها، وبين الزمن الأطول للملكيات العامة والزمن الأقصر للملكيات الفردية. ينسون كل هذا في اللحظة عينها التي يطلب منهم تذكّره، ويتسلل النسيان إلى صفحات ذاكرتهم. أم أن كل هذا التلقين الخمول لم يبارح شفاههم اليابسة، المختلجة بخوف لا يتبدّد.
يجهل الناس دينهم وتاريخهم القريب، ولا يتذكرونَهما في هذه الامتحانات المروّعة. ويتحوّل التدين إلى وسيلة للتمييز بين مؤمن وكافر، لتأخذ جماعات بعينها مهمة إعادة تربية المجتمع والوعظ عليه وتأديبه والقصاص منه، بعد لعنه وتكفيره وتشكيكه في قناعاته المتوارثة. هذه التساؤلات لا تهمّ الآن، المهم اجتياز الحواجز بسلام والوصول إلى الأهل.ارتشف قهوة الإسبرسو، منحنياً على طاولته في المقهى وتابع وكأنه يقرأ على ورقة أمامه:- الدين المتحول لأيديولوجيا جماعات سياسية، دين يتعرّض للغش، كما هو اللبن والخبز واللحوم في هذه الأيام، دين خارج عن سياقه التاريخي ووظائفه، وتائه في هذه العقارات السياسية.طالما ضحكوا في زمن خلا، وهم يحثون الخطى في الشوارع المكتظة، على ما أسموه «دويلات ميم»، وكانوا يعنون أنظمة الحكم العربية التي صار ديدنها إنتاج ثلاثي مخذول، وتوزيعه بعدالة على رعاياها: مخبر ـ مفتٍ ـ مغنٍّ.
لم يعد الزمن الذي تستغرقه الرحلة قصيراً، الطريق الذي كان يقطع بثلاثة أرباع الساعة، يحتاج الآن لتسع ساعات، وهو كافٍ للتعرف على الأنماط المتنوعة للكتائب المقاتلة وسلوكها واجتهاداتها، وجولة في الريف الذي حوّله الصراع الحربي غير المتكافئ إلى خرائب، وكذلك فرصة للتأمل، يتيحها الطريق قليل الحواجز الذي يسيطر عليه الجيش، من ريف حماه الشرقي إلى حلب.ويتذكر لاصقاً وجهه بزجاج النافذة الملطخ من الخارج برشقات الطين، موجة الهوية القومية بعد ثمانينيات القرن الماضي، وكيف انعكست بتأكيد مواظب على تسمية المواليد الجدد بأسماء كردية، والاندفاع لتعلم اللغة الكردية والكتابة بها وقراءة آدابها، ومتابعة التدوينات التاريخية عن موقع الإمارات الكردية ودورها في تاريخ الدولتين العثمانية والصفوية، وكل ذلك استكمل بسماع الأغاني الكردية والترويج لها، والعمل على إظهار الشخصيات الكردية المؤثرة في التاريخ، بإعادة تنضيد هوياتها التائهة في أيديولوجيا السلالات العرقية التركية والفارسية والعربية المسيطرة. كل ذلك للتأكيد أننا، نحن المطرودين من التاريخ المكتوب، لسنا موتى، ولا مغْفلي السيرة، ها إننا ننبثق من تحت الأنقاض التاريخية/الأيديولوجية، لنستكمل مسيرة الحرية.ويتذكر كذلك دور دخول حزب العمال الكردستاني كتشكيل سياسي جديد على الخارطة الحزبية، في تحريكها وإعادة جذبها نحو محددات وأولويات مختلفة، ساهم إيجابياً في إخراجها من سوار تجاذبات مركزَي الإقطاع السياسي في العراق، التي انبثقت أغلب تشكيلات الحركة السياسية الكردية في سوريا من مقارباتهما وانحيازاتهما، ودفع بحزمة متماسكة من القيم التحريرية كضرورة التعليم، وتمكين المرأة وإطلاق حريتها ودعم فكرة مساواتها...
قبل أن ينحدر بشكل سافر إلى أداء دور وظيفي محدّد رُسم له بعناية في الأروقة المظلمة.وما رأته الأحزاب القومية الكردية تجاهلاً من قبل الأحزاب العربية لمجزرة الكيماوي في بلدة حلبجة (17 آذار/مارس 1988) فضلاً عن إظهارها لمشاعر رضى عنها وتبرير لها. والتحولات السياسية التي حصلت بعد عملية عاصفة الصحراء (17 كانون الثاني/يناير 1991)، والانتفاضة الشعبية التي حصلت عقبها، والتي سحقتها بعض الأجهزة الخاصة في الجيش المهزوم والمطرود من الكويت. اعتقال عبد الله أوجلان (15 شباط/ فبراير 1999) وحظر نشاط أتباعه واعتقالهم، وحركة الاحتجاج في مدينة القامشلي (12 آذار/مارس 2004) وما رافقها من قتل في الشوارع وتنكيل بالمتظاهرين الأكراد واعتقالهم... كان كل ذلك يدفع الحركة السياسية الكردية نحو نمط من العزلة والانكفائية النسبية، وتبني برامج تتمحور حول أهداف قومية خاصة، عززتها الانتهازية المتأصلة والاتجاهات السياسية المهيمنة التي تميل للمساومات السياسية. وقد ساهمت كل تلك العناصر في ابتعاد أغلبية الشعب الكردي عن حركة الاحتجاجات المندلعة في العام 2011، وتعزز الابتعاد بالمفاوضات مع حزب العمال الكردستاني في الخارج والاتفاق مع قيادته على حزمة من الإجراءات، كتجنيس الأكراد المحرومين من الجنسية السورية، واتفاقات غير واضحة على مناطق حكم ذاتي، والسماح بتكوين قوات عسكرية خاصة بالمناطق ذات الأغلبية الكردية لإدارة الشؤون الأمنية والعسكرية...الخ. بالمقابل لعبت المعارضة الإسلامية وحلفاؤها المرتبطون بالمخابرات التركية والخاضعون لإرادتها ومصالحها، دوراً في تعميق هذا الشرخ، بتجاهلهم أن الموقف من الشعب الكردي وقضيته التحررية من صلب المشروع الديموقراطي، الذي لا يكفون عن مضغه كعلكة، من دون أن يقدموا موقفاً مبدئياً أو أي حلول تنفيذية لتعييناته الواقعية.
- من أين تأتون بهذه الأسماء أيها الأكراد؟ سأل المقاتل بلغة عربية ناصعة، وهو يقلّب البطاقات الشخصية المصفوفة في كفه، ويقرأ آزاد - ولات - شيار - خبات... ويستوقفه اسم خبات...
ماذا يعني هذا الاسم؟ مناضل، أجاب حامله الجالس في المقعد الخلفي، لاطماً رأسه وهو يهمّ بالوقوف في سقف «الميكرو» الواطئ.- ستبقى عندنا.
- ولكن أهلي ينتظرونني، وسينشغلون على غيابي.
- نحن أيضاً عندنا أهل، لكننا تركناهم خلفنا، وجئنا إليكم.ولم يكن بالإمكان سؤاله «لماذا قطعتم آلاف الأميال وجئتم إلينا، اللي فينا بكفينا»، وقد فات زمن القادمين من أيالات الأرض إلى بلاد الشام من «الذين يتكلمون عن الحقيقة ولا يعرفون الشريعة، وللناس فيهم كبير الاعتقاد»، وفق تعبير المؤرخ الدمشقي محمد الأمين المُحبّي.
كان يعلم أن من يعتقل هنا، سيعتقلونه هناك كذلك، ليسألوه عن اعتقاله، وعن المدى الذي تورط فيه بالعلاقة مع الكتائب المقاتلة، وسيكون موضوعاً لشكوكهم التي لا تنتهي، وهدفاً للتجنيد كعميل، ولن يحسم هذه المذلة إلا الانسحاب من هذه المتاهة المتواصلة التي لم يعد يرى له مكان فيها، إلى قريته النائية، والتخلي عن حقوق عمله لسنوات اقتربت من زمن إحالته على التقاعد.
عزيز تبسي
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد