فيروز في ترانيم الميلاد
تقول فيروز: «يا ستي جينا صباحك طيّب، قومي لاقينا وهاتي شي طيّب، اسمعي غنانينا وقوليلنا طيب، الكونْ يناجينا بهالعام الجديدْ». أغنيةٌ بقيت مجهولة طوال عقود، لكن صفحة «اسطوانات فيروز» على «فايسبوك» كشفت عنها استثنائياً. الصفحة تأسست بهدف التوثيق للاسطوانات حصراً. عملٌ جماعي متفرّد، وجهدٌ كبير عبر السنوات بذله رُواد تلك المجموعة من عشاق صاحبة «إيه في أمل»، في محاولة جديّة، هي الأولى لتوثيق الإنتاج رحباني الضخم في عالم الميديا الحديث. بُثت هذه الأُغنيّة على الإذاعة اللبنانية بعنوان «صبحكم بالخير» هديّة خاصة في اليوم الأول من العام 1953.
هل يأتي المسيح؟
بدأت فيروز الترنيم الديني مع بداية انطلاقتها في الغناء. يصعب حصر الأعمال التي أنتجت في الخمسينيات عموماً، بسبب غزارتها ولأن الاكتشافات الرحبانية مستمرة. لكن، يمكن مُراجعة ما وصل إلينا عبر مختلف الوسائط من أسطوانات نادرة أو أشرطة الكاسيت أو الأقراص المدمجة في ما بعد.
بحسب الصحافي محمود زيباوي، وهو مؤرشف لمسيرة فيروز، وبعد بحث أولي، يمكن الحديث عن خمس صور غنائيّة ميلاديّة شاركت فيها فيروز مع الأخوين رحباني في النصف الأوّل للخمسينيات، المعروف منها لوحتان دخلتا «إذاعة دمشق»، ومنها خرجتا لاحقاً إلى النور عن طريق شريط كاسيت راج في العاصمة السوريّة، ضمّ العملين وكأنّهما لوحة واحدة.
العمل الأول بعنوان «الثلجُ يترامى» مدّته 9 دقائق، يحكي قصة سهرة ميلادية يلتقي فيها أصدقاء من نخبة أحد المجتمعات في أحد البيوت الراقيّة، ليذهبوا سويّةً إلى قدّاس منتصف الليل، لكن زائراً غريباً يفاجئهم ويغيّر أجواء احتفالهم المترف. يلعب الشخصية هنا عاصي رحباني وفيه يحاور فيروز التي كانت على وشك ارتداء ثلاثة معاطف فاخرة تقيها من البرد. تسألهُ باستغراب شديدٍ: «مَن أنت؟ وكيف خرجت من منزلك في هذا الليل؟». يأتي الجواب: «لاجئ. ليس لي منزل. لا أنام أبداً!». يُلخص العمل الصراع للسيطرة على الثروة من قبل مُدّعي الأخلاق، ويحكي عن العدالة الاجتماعية التي بدونها لن يتحقق السلام. في نهاية العمل يُنذر الزائر الغريب أصحاب السهرة بأن «المسيح لن يجيء إلى قومٍ تنكروا له». ترنم فيروز في هذه الاسكتش «يا عيد الميلاد»، و«الثلجُ يترامى»، وترنم المجموعة «المجد لله في الأعالي».
العمل الثاني بعنوان «شيخ الميلاد»، تكون فيروز فيه مؤديّة فقط وترنم أنشودتين هما «ثلج ثلج»، و«أؤمن» أصبحتا فيما بعد بتسجيل أحدث من كلاسيكيات الترانيم بصوت فيروز. شيخُ الميلاد هو عاصي رحباني، الجدُّ الكبير الذي يُخبر حفيدته عن ضيف المغارة والرعيان.. وعن فساتين زرق وحمر.
الظهور الأول: ترانيم العيد
في العام 1961، كان قد مرّ عامان على تأسيس «تلفزيون لبنان والمشرق» في منطقة الحازميّة. عند الرحابنة تجب مواكبة الحداثة دائماً. حينها لم يكن انتشار التلفزيون يهدد الإذاعة المسموعة. القلّة من الناس امتلكت ذلك الجهاز، مع ذلك أعدّ الأخوان رحباني للمستقبل سهرة تلفزيونية خاصة بمناسبة الأعياد. روجت الصحافة اللبنانية لإطلالة فيروز الثانية في التلفزيون بعد «حكاية الإسوارة». نقرأ في مجلة الأسبوع العربي (كانون الأول/ ديسمبر، 1962) الخبر التالي: «لأول مرة في تاريخ التلفزيون في لبنان، برنامج ضخم يتناسب وجلالة هذا العيد. يظهر علينا صوت فيروز الملائكي ليضيف إلى بهجة العيد وروعته جمال الحب والغناء، مع الأخوين رحباني اللذين بذلا كل طاقتهما للمساهمة في إنجاح سهرة عيد الميلاد». لم تُعرض هذه السهرة منذ عقود طويلة، ويفترض أن نجدها اليوم في أدراج أرشيف «تلفزيون لبنان».
بالتزامن مع ذلك، صدرت في العام 1962 ترانيم على اسطوانة 45 دورة ضمّت: «سبحان الكلمة/ أرسل الله»، و»يا أم الله/ مريم البكر»، من الطقس الماروني. أُعيدت طباعة هذه الترانيم مراراً في منتصف الستينيات وفي السبعينيات بإصداراتٍ مختلفة. المميز أن زياد الرحباني أنجز توزيعاً موسيقياً لـ»يا مريم البكر» في ألبوم فيروز «ولا كيف» (2001)، ليخرجها من عالم الكنيسة إلى عالم الجاز الرحب، وكانت الأنشودة إحدى التحف الموسيقية في حفل «تراتيل» انطلياس العام 2013.
بالعودة إلى عالم التلفزيون، حمل العام 1967 إطلالة مصورة جديدة لفيروز بمناسبة الميلاد بعنوان «ليلة الهدايا». وصل الأخوان رحباني هذه الترانيم مع أغاني «القدس في البال»، ضمن ديكورات بسيطة وحلوة فيه تجلس فيروز أمام الأطفال وتغني «بدّي خبركن»، أو تنشد تحت الثلج «نجمة العيد» وغيرها من الأناشيد المعروفة. نصري شمس الدين اشترك متنكراً بلباس «بابا نويل» ووزع الهدايا في أغنية «تعوا يا ولاد». لهدى أيضاً حصتها المحفوظة في أغنية تقول: «كان في لعوبة حلوة عيونها زغار، شافوها ضجرانة ووعدوها بمشوار، وفرحت اللعوبة ولبست الفستان، وخبرت قصتها لجارها الحصان». هذه المشاهد المصورة بالأبيض والأسود، تصلح لتكون بطاقات معايدة للأصدقاء لما تنطوي عليه من بهجة وألوان... وصدق.
ترانيم في حفلها الأخير
بعد الانفصال الفني عن الأخوين رحباني، تعاونت فيروز مع الشاعر اللبناني جوزيف حرب الذي أعدّ لها ستة نصوص، أضيفت إلى أرشيفها القديم. قدمت فيروز هذه التراتيل ضمن أمسية ميلاديّة خاصة في كنيسة صغيرة جداً تقع في وسط العاصمة البريطانية لندن العام 1986. أنتجت شركة عبدالله شاهين وأولاده هذا العمل وأصدرته بعد سنتين ضمن اسطوانة جمعت ترانيم الشرق والغرب عددها 13 ترنيمة.
في آخر إطلالة لفيروز على المسرح في العام 2011، حيث أحيت السيدة أربع حفلات غنائية في مجمع بلاتيا، وألحقتها بخامسة نظراً للإقبال الشديد، صدف أن تكون الأمسية الأخيرة قبل سهرة الميلاد بيوم. ما يميّز «فانز» فيروز قدرتهم الاستثنائية على الحلم والخيال. منذ الإعلان عن الحفلات وعدوا أنفسهم بترانيم حيّة. مَن تردد في حجز مقعد أضاع الفرصة، إذ حققت فيروز الأمنية وقدمت ميدلي من أناشيد الميلاد، ولم تبخل لاحقاً مخرجة العمل ريما رحباني بأن تبثّه على قناتها فيروز الرسمية على «يوتيوب».
لكنها لم تكن المرة الأولى، العام 1971 ضمن جولة غنائية في أميركا الشمالية، رنّمت فيروز على مسرح بمرافقة الكورس، وكانت الترانيم بتوزيع موسيقي مذهل للأخوين رحباني. هذا التسجيل بقي سراً يتداوله «الفيروزيون» من أرشيف مهندس الصوت فريد أبو الخير، لكن مع «كسر» الانترنت لخصوصية كل شيء، لم يسلم هذا التسجيل وبات سهل التداول.
لماذا أحبّ الأخوان رحباني أن ترنّم فيروز؟
يحب اللبنانيون الموضة ويسرفون في البذخ. على عكس ذلك كانت ترانيم فيروز. لم يكن أداؤها واجباً أو رغبة بإطلالة مميزة وحسب. إنها خارج «السوبرماركت» الفني والإعلامي التجاري البحت. لم يكن مهمّاً أن تسجّل تلك الأغاني بمرافقة اوركسترا ضخمة، تصل من براغ أو أوكرانيا. لم يضع الرحابنة حصريّة صارمة على بث تلك الأعمال، بل تشاركوها. وآخر ما فكروا به أن تصعد ترانيم فيروز من المحلات الفخمة في أسواق بيروت. ترانيم فيروز على بساطة التنفيذ وأهمية الرؤية، هي أحد أوجه المشروع الموسيقي المكتمل الذي جاء به الأخوان رحباني. فكما غنّت فيروز على إيقاعات الجاز والمامبو والبوليرو، وأحيت التراث الشعبي في شرق المتوسط، وعرّجت على أغاني البادية، وطافت في رحاب الأندلس، وغنت كُلّ أنواع الغناء، كانت ترانيم الميلاد جزءاً من كل هذا العمل الإنساني المطلق في مسيرة فيروز والأخوين رحباني، من دون أن يعلموا أنهم سيتركون لنا أنصع إرث.
كتب أكرم الريّس في «النهار» عن الصلاة في أغنية فيروز (2007) كلمات يرددها «الفيروزيون»: «طقس فيروز هو طقسنا، وصلاتها صلاتنا، وغناؤها غناؤنا. ونحن وراءها في كنيسة ومعبد. في مسرح وإذاعة. يا سيد العطايا، يا رب احميها». قد نضيف فقط: «يا رب اجعلها تغني لنا مجدداً، ولو في اسطوانة».
السفير : سامي رستم
إضافة تعليق جديد