كما تسري النّار في الهشيم أو في فواتير الموبايل
مذكرات مواطن سوري
الأربعاء
بصوت مذعور و مرتجف، أخبرني كلّ من كنت أتصل به، أنّ سعر دقيقة الاتصال اليوم من أيّ هاتف خليوي إلى آخر هو 40 ليرة سورية، و السبب هو التّبرع بالفائض من المبلغ لإخواننا الفلسطينيين في تنظيم حماس، أعتق الله بلادهم و حماهم من كلّ مكروه...
وبالطبع، اتصلت بخدمة الزبائن مستفسراً عن الموضوع، وكانت الإجابة على سؤالي النفي، ولم يتعدى الموضوع كونه مجرد إشاعة لا تقدم ولا تؤخر، وكلّ ما سببته كان توتراً هستيرياً
عند جميع المشتركين...
ولكن يا مفكرتي، وكما تعلمين، بسبب طبعي الفضوليّ، لم أستطع أن أمنع نفسي من التساؤل عن كيفية تصديق الناس لهكذا إشاعة، فعلى الرغم من أن شركات خطوط المحمول تعمل ما في بوسعها لسحب ما تستطيع من الأموال من جيوب الزبائن المساكين، إلا أن الوقاحة لا يمكن أن تبلغ هذا الحد، أي رفع تسعيرة الدقيقة دون أن يتم الإعلان عن ذلك، وبهدف التبرع الذي يعتبر موضوعاً طوعياً بحتاً....
هل هي غريزة القطيع ؟؟؟؟
صحيح أن شعبنا اعتاد أن يتم سوقه – إلى الخدمة الإلزامية، المسيرات الشعبية، الانتساب إلى الحزب.... الخ- كقطعان الماشية دون أن يعترض، ولكن حتى قطعان الماشية لها طرقها الغريزية في التأكد من وجهتها، استشعار الخطر، والتبيّن إن كان العشب الأخضر الشهيّ موجوداً حقاً إلى حيث هي راحلة...
هل وصل بنا الحال إلى هذا الحد ؟
إذاً سلام على العشب الأخضر، فما أمامنا إلا اليباس ...
زميلتي في العمل كادت أن تبكي عندما علمت بالإشاعة، لكنها لم تثر، وكذلك الآخرون!!!
وحتى أنا فقد استغربت، لكني لم أغضب.
هل وصلنا حقاً إلى العجز عن الإحساس بما أحسه الفرنسيون عندما قاموا بثورتهم الشهيرة على ملكتهم الجميلة
من أجل الخبز ؟
لم يحصل ولن يحصل أمر كهذا في الولايات المتحدة الأمريكية، وإن حصل، لأقام الشعب الأمريكي الدنيا ولم يقعدها، ولاحتلت قواتهم عشر دول متخلّفة للتنفيس عن غضبها...
ومع هذا نحن نكرههم، ونتهمهم بالغباء، ونرفض بكل جوارحنا، وجوارح جيراننا، وجوانح دجاجتنا – التي لم تصب حتى الآن بإنفلونزا الطيور– نرفض مجيئهم ونلعن كريستوف كولومبس على اكتشافه مأساتنا البشرية...
غيرة أم حسد، خوف وذعر، أم هو رفضنا النهائي والقاطع للآخر؟
لعله الأخير، هذا عن الآخر ، لكن ماذا عنا نحن حين يصبح آخرنا مثل أي آخر الغريب؟ حتى الآن لا نستطيع تقبل أنفسنا في مختلف النواحي الحياتيّة، إن كانت ثقافيّة، ماديّة، دينيّة، جنسيّة، أو حتى محافظاتيّة!!!
فأهل دمشق، وحتى اللحظة، ساخطون وكارهون لكل من جاء من محافظة أخرى وساهم في تلويث مدينة الياسمين
...
وأهل حمص قد يبتسمون للنكات، ولكنهم يبكون في أعماق روحهم على معالم مدينتهم التي مسحها القادمون من الخارج على مدى 30 عاماً من الزمن....
وعلى هذا المنوال وغيره في حلب و إدلب والسويداء، وكل شبر من بلدي التي ترفضني جسداً وروحا،ً حتى يبدو السفر بعيداً إلى بلاد أخرى الحلّ الوحيد، حيث ننعم هناك بكلّ ما قد يحتاجه الثديّ ذو العقل ليحس إنسانيته..
السفر إلى بلاد الآخر الذي نرفضه، ونلعنه، وسنحاربه بحطامنا إن هو خطا على أرض بلدنا التي تلفظنا كما لفظ الحوتُ يوسفَ
من بطنه.....
تبّاً لنا....
فإذا كنّا نريد الآخر و بشدّة، فلم لا نسمح له بالقدوم إلى بلادنا ليعيد صياغتها بالشكل الذي صاغ به بلاده التي نحلم بها ؟
نحن نرفض، لان الاحتلال تحت أي مسمى مرفوض ، والغزو مرفوض، والرفض يعني أيضاً وجود جذوة أمل بأننا سنتحرك لإصلاح أنفسنا يوماً....
كم أنا ممتلئ بالخوف من تبدد شعاع الضوء المتبقي ، فيلفنا الظلام....
قال أحمد شوقي:
إذا الشعب يوماً أراد الحياة فلا بدّ أن يستجيب القدر
مفكرتي العزيزة:
في الحقيقة، وبعد التفكير، سرت اليوم إشاعة كما تسري النار في الغشيم....
الجمل - يزن الأتاسي
إضافة تعليق جديد