لبنان و«خيار السلفادور»
الجمل: تتميز بيئة الأزمة اللبنانية بالحيوية المتجددة وذلك لتوفر الوقود الذي ما أن تنطفئ النيران حتى يبدأ بإشعال نار أخرى، ومن الواضح أن مخزونات العنف الهيكلي الكامن في القوام المجتمعي اللبناني المنقسم رسمياً (بنص الدستور) قد أصبحت تتطلب الحلول العلاجية طالما أن أوان الحلول الوقائية قد ولى.
* لبنان: إشكالية الدائرة المغلقة:
حركياً، تنقسم الأزمات إلى أزمات فجائية عنيفة تمارس ضغوطاً شديدة خلال فترة زمنية قصيرة ثم تدخل في مرحلة التهدئة، وأزمات زاحفة تتزايد ضغوطها بشكل متدرج تماماً مثل الأفعى التي تلتف حول جسم الإنسان تدريجياً وبعد اكتمال التفافها وتطويقها الحلزوني لجسده تطبق عليه بالضغط الشديد بما يؤدي دفعة واحدة إلى تكسير أضلاعه.
استقوى فريق 14 آذار بالإدارة الأمريكية وإسرائيل وفرنسا والمعتدلين العرب، فشن حرباً سياسية، استخبارية مستخدماً كافة الوسائل ضد حزب الله وبدرجة أقل على بقية قوى 8 آذار.
أدى جمود السلطة التشريعية اللبنانية إلى أزمة انتخاب الرئيس الجديد، وأدى جمود السلطة التنفيذية اللبنانية إلى أزمة شبكة اتصالات حزب الله الذي تسبب في حالة الجمود هذه هو الفاعل نفسه حيث تلاعبت قوى 14 آذار كثيراً بمجلس النواب، وعند حدوث الأزمة توجهت للتلاعب بمجلس الوزراء، وتراجع قوى 14 آذار عن مواقفها ليس معناه أنها عادت لصوت العقل ولكن لأن البديل الذي حاولت اللجوء إليه قد فشل في إشعال المواجهة بين حزب الله والجيش اللبناني، على النحو الذي يمكن الثلاثي: جعجع – جنبلاط – الحريري من الالتفاف على كامل المشهد الجيوسياسي اللبناني، ولكنهم لم يفلحوا في دفع الجيش ليخوض حرباً بالوكالة عن قوى 14 آذار التي ظلت تخوض صراعاً بالوكالة عن محور واشنطن – تل أبيب.
بكلمات أخرى، لم تفلح عمليات "غسل وتبييض" الوكالة لنقل مسؤولية القضاء على حزب الله وحلفائه وإلقاءها على كاهل الجيش وقوى الأمن، ومن هنا نتوصل إلى استنتاج هام للغاية: فالولايات المتحدة الأمريكية عندما قررت تقديم المساعدات والمعونات العسكرية للجيش اللبناني بعد حرب صيف العام 2006م، لم يكن الهدف تعزيز قدرة الجيش في الدفاع عن لبنان في مواجهة العدوان الإسرائيلي، وإنما كان الهدف هو مواجهة حزب الله بنفس الطريقة والنموذج الذي تدرب من خلاله الجيش عندما شن عمليته الكبيرة ضد «فتح الإسلام» في مخيم نهر البارد الفلسطيني، هو السيناريو الذي أدى إلى إغراء قوى 14 آذار بمحاولة تكراره مرة أخرى.
* ديناميكيات الأزمة الزاحفة الجديدة:
عبأت قوى 14 آذار الشارع اللبناني بالعنف الرمزي وبعد فشل صراع الوكالة ضد حزب الله والمقاومة اللبنانية، بدأت تبرز بين رماد الحريق السياسي اللبناني بعض النيران الجديدة الواعدة بأزمة جديدة أخرى ما تزال في بدايتها، فهل ستكون عمليات القتل العشوائي التي بدأت تنفذها مليشيات «المستقبل» ضد عناصر وأنصار قوى 8 آذار مدخلاً لبروز ظاهرة "فرق الموت" اللبنانية، التي قد تعيث في الساحة اللبنانية قتلاً وفساداً؟ وهل يمكن أن تؤدي إلى إعادة إنتاج نموذج "فرق الموت" العراقية التي روعت المدنيين العراقيين لأكثر من عام كامل وهو النموذج الذي سيتضمن الآتي:
• تنفيذ عمليات الخطف.
• تنفيذ عمليات القتل الانتقائي.
• نشر التهديدات.
• تنفيذ عمليات الابتزاز المالي.
• استخدام التعذيب البدني والنفسي الواسع النطاق.
• تنفيذ عمليات النهب والسرقة والحرق.
هذا النوع من العمليات ظهر بشكل واسع في دولة السلفادور الأمريكية اللاتينية لذلك ارتبطت هذه الظاهرة باسم "خيار السلفادور"، وتقول المعلومات بأن السفير الأمريكي السابق جون نيغروبونتي هو الذي أشرف على عملية تنظيم عمليات فرق الموت في السلفادور وهندوراس، ثم ظهرت عمليات فرق الموت مرة أخرى وبشكل متزامن في العراق والفلبين مع ملاحظة أن نغروبونتي كان يتولى منصب السفير الأمريكي في بغداد خلال الفترة التي أعقبت مباشرة الغزو الأمريكي وكان وثيق الصلة بالزعيم العراقي أحمد الجلبي الذي أشرف على عملية تنسيق أنشطة فرق الموت العراقية. وعلينا ألا نستغرب كثيراً إذا توقعنا إمكانية إعادة إنتاج هذا السيناريو ضمن نسخة لبنانية معدلة، خاصةً وأن هناك بعض المعطيات الميدانية التي تشير إلى ذلك:
• وجود الأسلحة الإسرائيلية بحوزة عناصر ومليشيات تيار «المستقبل».
• احتفاظ سمير جعجع بالكثير من عناصر القنص العالية التدريب والمهارة.
• انكسار حاجز الحياد والخجل فالتعامل مع إسرائيل أصبح أمراً واقعاً في عرف زعماء قوى 14 آذار، إضافةً إلى أن الإسرائيليين أنفسهم لم يعودوا يجدون حرجاً في الإعلان عن روابطهم مع قوى 14 آذار التي يدعمونها وتدعمهم.
• استخدام المقرات الحزبية كمخازن للسلاح والعتاد العسكري.
• نشر الحواجز ومداهمة المناطق من وراء ظهر السلطة الرسمية.
لن نكون بعيدين عن الحقيقية إذا قلنا بأن تطبيق خيار السلفادور في لبنان سوف لن يستثني أحداً، وعلى الأغلب أن يكون ضحاياه في أول الأمر، بعض أبناء الطوائف اللبنانية المتناحرة بما يغذي روح الانتقام والقصاص بين الطوائف، ثم بعد ذلك تبدأ عملية سقوط الضحايا في أوساط عناصر الجيش والأمن بما يدفع إلى جر قوات الجيش والأمن إلى حلبة الصراع ثم بعد ذلك تبدأ عملية استهداف الصحفيين والمحامين وأساتذة الجامعات وغير ذلك. ويجب أن لا ندهش كثيراً إذا لم تطال دائرة الاغتيال كبار الزعماء السياسيين الذين قد يكون بعضهم متورطاً حتى أذنيه في عمليات الترويع والقتل التي قد تحدث –لا سمح الله- في لبنان، طالما أن المسرح السياسي اللبناني ما يزال مضطرباً ومتنازعاً عليه بين المدافعين عن إسرائيل والمقاومين لها.
الجمل: قسم الدراسات والترجمة
إضافة تعليق جديد