لماذا لا نتحمل شَتْمَ مُقدّساتنا؟
يكفي أن يشتم أحدهم من طائفة أخرى، أو مذهب مغاير، مقدساتنا حتى نظهر اهتياجنا. ربما وصلت بنا الإثارة حد استخدام العنف. نعتقد أن الآخر المغاير لنا عليه أن يحترم مقدساتنا، أو على الأقل أن لا يبدي عدم احترامه. في الأمر موقف منطقي خاطىء وآخر أخلاقي خاطئ. لو كان الآخر يحترم مقدساتنا احتراماً حقيقيا، لكان عليه أن ينضم الى مذهبنا أو الى ديننا. لكنه مختلف في معتقده، مغاير في ايمانه، طبيعي أن يتعلق بمقدسات أخرى وأن يمارس الطقوس التي تؤكد ذلك.
من ناحية أخرى، على المغاير أن لا يبدي عواطفه أو آراءه السلبية تجاه مقدساتنا. يعني ذلك أننا نطلب منه أن يضمر غير ما يظهر، أي أن يكون منافقاً. نريد مجتمعاً من المنافقين الذين لا يحترم الواحد منهم الآخر. الاحترام المتبادل يعني أن يبدي كل واحد رأيه، وأن يكون صريحاً. التهذيب يعني أن تكون لدي القدرة على تحمل الرأي الآخر. لا يعني التهذيب أن أفرض على الآخر أن يكون منافقاً. ولا يعني التقديس أن أُلطّف رأيي بمقدسات الآخرين، بل أن ألطف رأيي بمقدساتي. الاعتقاد المطلق كفر مطلق. الاعتقاد غير الإيمان. الإيمان لا يكون إلا مطلقاً. يتراجع الإيمان أمام المعتقد وأمام الطقوس عندما يتنافس معهما، ويتراجع الإيمان عن إطلاقه ويقترب المعتقد والطقوس من الاطلاق. الإيمان هو في الأساس علاقة بالله ومن بعده ببعض الأنبياء وببعض الطقوس التي تثبت الإيمان. هو بمعنى ما، تخلٍ عن المحاكمة العقلية وتجاوز للبرهان. هو حق لكل انسان. فَرْضُهُ على الآخرين ظلم. التبجح به مباهاة تشبه المنافسة في الموضة. ما دامت علاقتي بالله صادقة، فإنها لا تمس ولا تخدش. وإذا أهين هذا الإيمان، فإنه يفترض بي أن أرى أن صاحب الإهانة سوف يلاقي عقوبته عند الله وأن حلولي مكان الله في إنزال العقوبة هو تجديف على الذات الإلهية. لا يمكنني أن أؤمن بالله وأن أعتقد في نفس الوقت أني أحل مكانه، أو أنوب عنه، إلا وأكون قد أخذت صلاحيات لنفسي لا يمكن أن يخوّلني إياها الله. الله مطلق لا يتجزّأ، وبالتالي، لا يخوّل بعضاً منه لكائن غيره. هو أصل الكائنات ويبقى كذلك.
هذه الكائنات التي تُثار عندما يبدي الآخرون رأيهم بمقدساتها، لا يمكن وصفها إلا بالضعف؛ ضعف الشكيمة بمعنى عدم القدرة على التحمّل، وضعف الرأي الذي يحتاج الى تدعيمه بالعنف. الرأي السديد يفرض نفسه بقوة العقل. الرأي الضعيف يحتاج الى العنف. ليس لديه برهان إلا العنف. والعنف ليس برهاناً. يكفي أن يرسم أحدهم في شمال غرب أوروبا كاريكاتوراً لأحد مقدساتنا حتى نقوم بمظاهرات ونكسّر زجاج محلات بعضنا بعضاً. يكفي أن يسخر غربي من مقدساتنا حتى تنشب بيننا حرب أهلية، أو ما يشبهها. ألا يعبّر ذلك عن ضعف في بنيتنا النفسية والعقلية وحتى الأخلاقية؟
الشتم والشتم المقابل لشخصيات ومقدسات في القرن الأول الهجري، والانجرار الى صدامات بشأن ذلك، يعنيان أننا ما زلنا نعيش الماضي، وأن الماضي يعيش فينا. أكثر من ذلك، الماضي أهم من الحاضر. أهم من هموم معيشتنا في حين أن بلدنا يعاني أزمات متعددة من الكهرباء الى المدخرات في المصارف الى الغلاء الفاحش الى الفقر المتزايد الى هبوط موقعنا في السلم الاجتماعي من طبقة وسطى الى بروليتاريا (لا تملك شيئاً)، الى بروليتاريا رثة تعيش على التسوّل والاستعطاء. الماضي أهم من الحاضر. يكاد الماضي يؤدي بنا الى التهلكة. فهل سنبقى حتى نؤمن أو نمارس طقوسنا ومعتقداتنا؟ ندمّر أنفسنا بأنفسنا. ليس في الأمر مؤامرة علينا. المؤامرات موجودة لكن الضعف كل الضعف أن تستطيع المؤامرات إثارتنا بهذا الشكل. ليست السلفية إلا العيش في الماضي. يبدو أن لكل دين ومذهب سلفيته. مع تطرف السلفيات يمكن القول أن لكل دين ومذهب “داعشه”، وإن اختلفت أشكال العنف. “الداعشية” تطرف مقرون بالعنف. أدوات العنف والعنف المتبادل سهلة المنال، والتطرف آفة متغلغلة في أعماقنا. يحتاج ذلك الى من يحرّكه. ولا يستطيع تحريكه لو لم نكن موضوعاً قابلاً.
لا مجتمع ولا أمة دون تاريخ. التاريخ تطوّر. إلغاء مراحل التطوّر والقفز من فوقها الى الماضي للعيش فيه هو جوهر السلفية و”الداعشية”. كل ذلك، يعني أننا نعيش خارج التاريخ، بل خارج الحاضر. ليس راهننا خروج الى العالم وانخراط فيه. حاضرنا هو عزلة عن العالم. سواء فرضت علينا العزلة أم ارتضينا بها، هي في الأساس تخلفنا وهزيمتنا. نحتج بالثقافة الموروثة والحفاظ عليها. هناك شك إذا كنا نعرف عنها شيئاً. وفي جميع الأحوال، تجاوز التراث، ورفعه عن كواهلنا، كي نستطيع التفكير بحرية، دون ما يقيدنا، هو مطلب أساسي. لا نتحرر إلا عندما نتحرر من أنفسنا. لا خوف على التراث، الخوف علينا في علاقتنا مع التراث. الخضوع يعني بمعنى ما خضوع الفرد للجماعة، لا اختيار الفرد للجماعة. الجماعة تصادرنا عند الولادة، وتملي علينا فكرها وآراءها ما دمنا لم نتحرر منها. التراث ليس التاريخ، بل هو رواية منحازة عن التاريخ. لا نكترث للتاريخ الحقيقي. نكترث فقط لآرائنا وهي في الحقيقة آراء من صادرونا واختطفوا عقلنا. الحرية هي في إخراج تراثنا من المقدس الى التاريخ. في المقدس لا نقاش أو حوار أو بحث أو تمحيص، هناك فقط خضوع. في التاريخ كل تلك الأمور ما عدا الخضوع. إذا كان المعروض أمامي تراثي، عليَّ أن أنزع صفة المقدس عنه كي أستطيع بالعقل إلغاءه أو إعادته أو عدم الاكتراث به.
في الحالة الراهنة، يستطيع أي مدسوس في تجمّع معيّن أن يهيّج الناس بشتيمة واحدة لمقدس من مقدساتنا. نثور كردة فعل. هذا يجعلنا ضعفاء منقادين للمندس حتى ولو كنا شديدي التمسّك بمعتقداتنا، بل أكثر ضعفاً كلما اشتد التمسّك بها. يجدر بنا أن نغيّر معنى التعصّب لمذهب ما من الاعتقاد المطلق الى الاعتقاد النسبي، الى القدرة على الدفاع عن المذهب، الى الدفاع في ساحة عامة، الى إدارة الحوار مع الآخرين. سنجد في مذهبنا ما يستحق تركه أو ما يستحق الحفاظ عليه.
الخطأ الأكبر هو الانغلاق على المذهب والدين والامتناع عن النقاش والحوار والبحث والتمحيص. لا تتطوّر قدرتنا العقلية ولا تشتد نفسيتنا دون ذلك. الانغلاق يلغي ذلك كله ويمنع إمكانية حدوثه. نحافظ على جملة من الأفكار والمعتقدات ونتمسك بها، ونمتنع عن الحوار. هذا هو العقل المستريح. وهذا خطر على أصحابه في مجتمع متعدد. إذا لم نلغ الطائفية والمذهبية، وإذا لم نلغ انغلاقهما، فلا أمل يُرجى من التطوّر أو التسامح. التسامح مع النفس أولاً. مع النفس التي تصير قابلة للنقاش فيما وُضِعَ للإغلاق والتسكير عليه. ليس مطلوباً أن نكفر بما نعتقد جملةً وتفصيلاً. المطلوب هو التسامح إزاء التراث كما إزاء الغير، والقبول بما يُقال، دون عنف وأن تكون المواجهة بالنقاش عبر الكلام.
لا نفهم معتقدنا إلا عندما نضعه قيد النقاش مع آخرين من غير معتقد. مشكلتنا الكبرى أننا لا نفهم معتقداتنا. لذلك نهتاج عند سماع بعض التعابير، خاصة بالشتم أو التهكم. لا نستطيع الصمود أمام السخرية. نحوّل كل شيء الى مأساة ولا ندري أن السخرية أو الكوميديا فن أرفع شأناً من المأساة. الكوميديا بما فيها السخرية تبعث على الابتسام والضحك. نحن مجتمع متعدد. لا خلاص مما نحن فيه إلا بالتسامح والرحرحة. هذا يستدعي الابتسام والضحك والقدرة على النقاش. لا نتعلم أن نجيد النقاش إلا بان يكون ذلك مع الغير. بالمقارنة، إذا استخدمنا العقل، ندرك كم هي معتقداتنا على صواب أو خطأ. لا يمكن النقاش إلا إذا افترضنا بعض الخطأ عندنا. يستحيل أن تكون كل معتقداتنا أو آرائنا صحيحة. إذا افترضنا ذلك، نقترب من اعتبار أنفسنا أقرب الى الإطلاق، والمطلق لله وحده. البشري لا يتمتّع بصفات الله، كلياً أو إفرادياً.
الواثق من نفسه يطرح معتقداته في سوق الحوار، لا يخشى التعرّض للنقائض ويكون مستعداً للتغيير إذا اكتشف حقيقة غير ما كان يعتقد. يبقى الإيمان بالله بين الفرد وربه ولا يمسه أحد؛ بالأحرى لا يمكن أن يمسه أحد. الخوف ليس على الإيمان بل على المعتقدات. وخضوعها لامتحان التاريخ أساس الحوار. الحوار حول المعتقدات لا يكون في ساحات هَمُ كلُ فريقٍ فيها استفزاز الآخرين. في التظاهرات ذات الأمور المطلبية يكون خطأً زج الأمور الدينية وتعريض المقدسات للسباب. عندها لا يكون الحوار ولا تتوفر شروطه، بل ما يحصل هو أخذ الأمور المطلبية الى مكان آخر غير ما أراده أصحابها. لنتذكر أن في لبنان أزمات عديدة كل منها كافية لتدمير الدولة. التركيز على الأمور المطلبية، أي البحث في الراهن، خير وأجدى من الرجوع الى مقدسات القرن الأول الهجري. في الوقت الحاضر طرح الأمور المطلبية في الساحة العامة يمكن أن يجمعنا، أما طرح الأمور الدينية والمقدسات في الساحات فهو يفرقنا، أو يمكن أن يفرقنا. ولا تطرح المقدسات والأمور الدينية في هذه الساحات إلا من أجل الفتنة، ومن أجل أن تضيع القضايا المطلبية.
لا بدّ من التذكر أن معظم المقدسات هي من صنع الانسان. هو يعليها أو يحط من شأنها. الله وحده هو المقدس. لا يحق لأي انسان الحلول مكانه وانتحال صفة التقديس. على كل حال، لا أحد يقدّس نفسه الا ويكون عنده خلل. الناس هم الذين يمنحون صفة القداسة لهذا أو ذاك. اعتادوا ذلك عبر التاريخ. كانوا قديماً يقدّسون أحجاراً جعلوها أصناماً، ثم تخلوا عن ذلك. ثم اكتشفوا الله. هو وحده المقدس. المقدس ذو طبيعة كلية. اذا لم يكن كذلك فكيف يكون مقدساً. القداسة لغير الله صفة افتراضية. الافتراض ينبع من الانسان. ما نفترضه نسبي، يصح لجماعة دون أخرى. علينا أن نرى الافتراضية في ما نعتقده مقدساً، وعلينا أن نرى الافتراضية في كل معتقداتنا. ما نعتقده ليس الواقع. هو الحقيقة بالنسبة لجماعتنا فقط. هو حقيقة نسبية. كل ما هو نسبي يخضع للنقد. إذا لم يبدأ النقد من أنفسنا، إذا لم نخضع أنفسنا ومعتقداتنا للنقد، فكيف نُخضع الغير لذلك؟
التقديس تحريم للنقد. تحريم للعقل عن القيام بمهامه. أهم مهمات العقل هي النقد. النقد ينقلنا من مستوى معرفي الى آخر. لا يحدث التطوّر (والتقدم) دون النقد. الانتقال من مرحلة الى أخرى، من التخلّف الى مرحلة أقل تأخراً وأكثر تقدماً يعني أننا انتقدنا المرحلة السابقة والمعتقدات السائدة فيها. النقد لا يعني التجريح ولا الشتم بل التقييم. الشتيمة تعبّر عما بنفس صاحبها.
نفاق الطائفية أخطر ما فيها. يضمر المرء غير ما يعلن. لدى كل طائفي خطابان: واحد مع أبناء طائفته، وواحد مع أبناء الطوائف الأخرى. الخطاب المعلن مع “أخواننا” من الطائفة الأخرى يمتاز عادة بالتهذيب والإحترام، إحترام مقدسات الآخرين. عندما يخرج الناس من تهذيبهم، فيعلنون ما يضمرون للطوائف الأخرى، يخرجون عن قواعد “الاتيكيت” الطائفي، وعن التهذيب واللياقة، فيشتمون مقدسات الغير. معنى ذلك الخروج على “قواعد اللعبة” والدخول في صدام مع الآخرين. معنى ذلك تجاوز سقوف الغضب المسموح بها. ومعنى ذلك أيضاً الولوج في حرب أهلية أو ما يشبهها. تصادرك الطائفية منذ ولادتك، وتتولى أمرك خلال حياتك حتى لا تشذ عن السلوك اللائق وتدفعك الى ما لا تُحمد عقباه عند الشدائد. قبولك بالطائفة، وبأن تكون عضواً فيها اجباري، وحياتك اللاحقة تتبع هذه المصادرة القسرية. أنت فاقد الحرية منذ أن تولد. تكتسب بالرغم عنك، ثم برضاك، حاسة غضبية تجبرك على العصبية الطائفية. تصير هي جزءاً منك شئت أم أبيت.
الأفضل من كل ذلك أن يتعلم الانسان دينه ولا يكتفي بشذرات منه مقتطعة. الأفضل هو أن يفهم الانسان دينه وأن يأخذ ليس من رجال الدين، على ضرورتهم، بل أن يسمع علماء الأديان الأخرى يتكلمون عن دينهم، وأن يكتسب ملكة الدين المقارن عن طريق هذا السماع. وكل ذلك يستند على الاعتقاد بنسبية الحقيقة، بما في ذلك نسبية المعتقد الديني وإمكان النقد والتطوير.
يكفي، في الظروف الراهنة، أن يخرج الى الشارع جاهل أحمق ويتكلم بصوت عال شاتماً بعض المقدسات التي تخصنا حتى ننزل الى الشارع لنلاقيه ليس بالحجج بل بالعنف. يزول العنف الطائفي بين الناس عندما يكون الإيمان نبراساً والمعتقد نسبياً وردة الفعل حيال الشتائم للمقدسات هي اللامبالاة. طبيعي أن يضمر أتباع الأديان والمذاهب الأخرى ما لا يروق لأتباع أي دين أو مذهب. لكننا مجبرون على العيش سوية ضمن حدود واحدة وفي وطن واحد وأن نكون مواطنين ذوي معتقدات مختلفة في بلد التعدد الديني والثقافي. ولا يخلو بلد في العالم من التعددية. المهم أن تسيطر السياسة على العواطف وعلى ما هو بمثابة الغرائز الطائفية.
لا يستفيد المرء من طائفته لا من ناحية العلم والمعرفة ولا من الناحية المادية التي تمنح بعض الفرص للمقربين من كبش الطائفة. الطائفة تحولنا الى قطيع. الحرية أن نضع أنفسنا، كل واحد منا، خارج القطيع بناء على محاكمة عقلية بيننا وبين أنفسنا. تبدأ الحرية من الداخل، داخل النفس. تستمد الطائفية قوتها من الطائفة، يأتيها المدد من الطائفة. تكون الحرية بالخروج على الطائفة. ليس فخراً أن يمزّق الانسان هويته، الفخر هو أن تنزع من نفسك تعصّب الطائفة وتفكيرها؛ أن تعرفها أولاً. أن تفقدها ثانياً. أن تزيل المقدسات ثالثاً.
قوة الطائفة ليست في وسائل العنف التي تمتلكها. قوتها في العقل والوعي بالدرجة الأولى. ليس الغضب بل العقل. ليس القطيع بل الفرد. ليس الخطاب الذي يوجهه أصحاب العمائم إلينا بل علينا تفنيد المفردات والمصطلحات التي يستخدمونها. هل يمكن ذلك دون التمحيص العقلي؟
مع التعصّب والغضب للمقدسات، نبقى أطفالاً مهما تقدمنا في السن. القطيع يتشكل من بشر ذوي قدرة عقلية متدنية. مجتمعاتنا تنقسم كل واحد منها الى قطعان، أتباعها كبار السن بعقلية أطفال. لا يقودهم عقلهم بل تقودهم عصبيتهم. تتحكم بهم ملكة الغضب لا التهذيب. مع ملكة التهذيب نتحد. مع الاتحاد لا تستطيع قوة خارجية أن تقهرنا وتتغلّب علينا. الأمثلة كثيرة عن مجتمعات صغيرة لا تجرؤ الدول الكبرى على الدخول إليها والتحكم بها. هونغ كونغ بالنسبة للصين صغيرة، لكنها بوحدتها تواجه الصين. الفرق بين حجم هذه وتلك كبير جداً.
أمتنا العربية تنخر جسمها الخلافات. تتحكم بها اسرائيل على صغر حجمها. هي تلعب الدور الذي كان يفترض أن تلعبه المجتمعات العربية لو كان لها منظمة دول فاعلة. عندما انتصر الألمان على فرنسا الموحدة، كانوا عدة دول لكنهم كانوا موحدين في السياسة. توحدوا في دولة واحدة بعد دخولهم فرساي. صاروا دولة موحدة. الفرق بين الهزيمة والنصر هو الدولة. العرب مهزومون لأنه لا دولة لديهم ولا دول. لو كان لديهم دول حقيقية لكانت واحدة منها كافية للنصر؛ شرط ذلك أن تتشكل الدولة من مواطنين أحرار يشاركون في السياسة. ينزلون الى الساحة، أراؤهم حرة، لا يقبض عليهم رجال المخابرات لأن آراءهم مختلفة. في الفتوحات العربية العظيمة كان العرب مختلفون في كل شيء تقريباً لكنهم كانوا موحدين بالسياسة، وكان لديهم دولة. الآن لديهم أنظمة، وهي ليست دول. الدولة شرط لما عداها ولا شرط عليها.
عندما يقال لنا نريد دولة قوية وعادلة، فمعنى ذلك إلغاء الدولة؛ بمجرد وضع شروط عليها. الدولة في لبنان موجودة لكنها تنوء تحت الشروط. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى هي لا تتشكّل من أبنائها الذين لا يؤمنون بها، ولا ينتمون إليها، بل انتماءهم في معظمهم خارجي. لذلك، ما ان يحصل نقاش حول السياسة أو الدولة في لبنان حتى يتركّز كل الحديث حول جيو-استراتيجية (دول المنطقة وربما الدول الكبرى). فكأننا لا نؤمن بقوانا الذاتية. ولا نثق بأنفسنا كمجتمع وكدولة. نتخلى عن دولتنا اللبنانية ونرهن أنفسنا لدول أخرى. أحياناً تستنزف قوانا خارج لبنان، ولا يبقى في لبنان من القوى ما يردع العدو الاسرائيلي.
الدولة قوية بشرعيتها. لا تستمد الشرعية إلا من مجتمعها. مع هذه الشرعية لا تقهر الدولة، لا داخلياً ولا خارجياً. ضعضعة الدولة يحولها الى نظام، مجرد نظام، مجرد سلطة. هذه تهوي عند كل منعطف. الدولة بشرعيتها، ولا دولة دون هذه الشرعية التي تحوّلها من نظام للسلطة الى دولة، بجميع أبنائها، بغض النظر عن تعدد طوائفهم. الدولة التي تتشكّل من أفراد لا من طوائف. أفراد انتماؤهم الأعلى للدولة لا للطوائف. أفراد أعضاء في طوائف لكن انتماؤهم السياسي للدولة لا لغيرها.
كلمتان هما المفتاح للنصر: الدولة والسياسة. دولة فوق النظام. دولة شرعية يستمد منها النظام قوته. وسياسة تمارس في الساحة العامة، تكون هي أساس شرعية الدولة.
نفتقد الاثنين في لبنان. تحل مكانهما المقدسات الدينية. تستفزنا المقدسات ولا تستفزنا الدولة بعجزها ولا السياسة بغيابها.من هنا نبدأ للجواب على السؤال: ما العمل؟
الفضل شلق - موقع 180
إضافة تعليق جديد