ليبيــا تعــود إلــى الوصايــة الدوليــة
كتبت هنا بعد أسابيع من نشوب الثورة عن المفاجأة التي أذهلتنا، متحدثين وناشطين ومراقبين إعلاميين وسياسيين، حين هبط على مصر أفراد تابعون للأمم المتحدة في القاهرة ومعهم تعليمات من نيويورك بسرعة عقد اتفاقات مع الجهة التي تولت مسؤولية الحكم في مصر. عرض هؤلاء الأفراد، وأغلبهم تابع مباشرة، أو مفوض من قبل، الأمين العام للأمم المتحدة تقديم خبراتهم في مجال إعادة «بناء الدولة» ديمقراطياً واقتصادياً وإدارياً. حدث، فيما أذكر، هياج وصدرت اتهامات بأن التسريبات للإعلام عن هؤلاء الأفراد ومهماتهم في مصر غير دقيقة، وخرجت أصوات تندد بالهجمة الأجنبية على مصر التي تسعى، ولو بنية طيبة، لتكون مصر المستقبل في الشكل والموضوع تماماً كما تريد أن تراها دول أو عملاء لدول أو لمنظمات دولية. تطور النقاش حول أهمية دور القوى الخارجية وأغراضها في مرحلة رسم خريطة جديدة لمصر، وتسرب إلى قنوات أخرى مثل قناة التمويل الأجنبي لمنظمات المجتمع المدني ومثل قناة المعونات التي تعوّدت أن تقدّمها المؤسسات الدولية، وهي المعونات التي ساهمت في تراجع مكانة مصر الإقليمية وأهدرت سمعة سياستها الخارجية.
[[[
قبل أيام قليلة سرب أحد الصحافيين وثيقة أعدّها المستر إيان مارتين، أحد كبار مستشاري الأمين العام للأمم المتحدة، في شأن إعادة بناء ليبيا. تقول الوثيقة بصراحة ووضوح أن قرار مجلس الأمن القاضي باتخاذ حلف الناتو ما يلزم لحماية المدنيين في ليبيا، سوف يبقى ساري المفعول بعد سقوط نظام القذافي وقيام نظام جديد. بمعنى آخر تقرر الوثيقة أمراً متعارفاً عليه في دوائر الأمم المتحدة، وهو أن حلف الأطلسي سوف يواصل مباشرة عدداً من المسؤوليات (مقدمة الوثيقة الفقرة رقم 8). ويستبعد التقرير تماما أي دور للاتحاد الإفريقي، بل ويشير إلى أن الثوار يتفادون في خطبهم ترديد عبارة أن ليبيا جزء من إفريقيا.
ويحذر تقرير الخبير البريطاني من وسائط الإعلام غير الحكومية في الشرق الأوسط التي يمكنها أن تحرك الرأي العام نحو توجهات غير تلك التي تسعى «المنظومة» الدولية إلى جر ليبيا اليها. ويذيع التقرير أسراراً تتعلق بالعلاقات بين أجهزة الأمم المتحدة المتنافسة، أو المتصارعة، على ممارسة دور في ليبيا، فيقول السيد مارتن مثلاً إنه استشار عدداً من هذه الأجهزة خلال إعداد التقرير وأنه لاحظ أن كلا من جهاز مكافحة المخدرات وبرنامج الأمم المتحدة للتنمية UNDP ومنظمة الهجرة الدولية وصندوق النقد الدولي، وكلها وغيرها، أبدت رغبة في أن يكون لها دور.
وكما تسببت هجمة المنظمة الدولية على مصر في أعقاب نشوب الثورة في هرج وغضب، حدث تطور من نوع آخر، وإن أوسع مدى، حين سربت مصادر داخل المنظمة الدولية وثيقة إيان مارتين قبل أن يعتمدها الأمين العام للأمم المتحدة، ويدور النقاش حالياً في وسائل الإعلام الأميركية حول مصداقية الأمين العام والجهاز المثير للجدل المختص بالشؤون السياسية والتابع مباشرة للأمين العام، وإن كان يحق له التدخل إلى هذا الحد في شؤون الدول الأعضاء تحت عنوان المساهمة في حل أزمات ما بعد الحروب والنزاعات الداخلية، وهو الجهاز نفسه الذي أثار أزمة سياسية وإعلامية في مصر وما زال يثير أسئلة كثيرة من جانب وفود الدول الأعضاء في المنظمة.
يدافع مسؤولون في الأمم المتحدة بالقول إن المكلفين بإعداد التقرير اتصلوا بأعضاء في المجلس الانتقالي الليبي في قطر، وإن إيان مارتين نفسه توجه إلى الدوحة وناقش هناك مع المسؤولين الليبيين والقطريين اقتراحاته بالنسبة لمستقبل ليبيا، حسب رؤيته ورؤية إدارة الشؤون السياسية التابعة لمكتب الأمين العام للأمم المتحدة، بينما تؤكد التسريبات الإعلامية أن مارتين لم يقابل كبار المسؤولين في المجلس الانتقالي في الدوحة إلا يوم 28 آب/أغسطس، أي بعد أن كان قد قدم تقريره إلى الأمين العام يوم 22 آب/أغسطس لاعتماده. بمعنى آخر كان التقرير جاهزاً لتوقيع الأمين العام قبل أن يؤخذ رأي وطلبات ورغبات أصحاب الشأن من ممثلي الشعب الليبي.
يوصي التقرير بإقامة قوة لحفظ السلام في حال تدهورت الأحوال الأمنية، وإن كان يعترف بأن قرار مجلس الأمن يقتصر على حماية المدنيين، وبالتالي قد يحتاج الأمر إلى إطالة مهمة الناتو. ويقترح التقرير إقامة جهاز شرطة أجنبية مكونة من 78 ضابطاً يمكن زيادتهم إلى 190 خلال تسعين يوماً. ويحذر التقرير من عمليات تطهير في الجهاز الحكومي، وينصح بإجراء انتخابات لمجلس وطني انتقالي خلال ستة الى تسعة اشهر، وأن تمثل فيه الأقليات والنساء. ويقدر حاجة عملية الانتخابات الى ما لا يقل عن أربعين ألف شخص لتسجيل الناخبين يجب تجنيدهم وتدريبهم فوراً. ويعتقد السيد مارتين أن الحاجة ماسة الى إنشاء قوة حماية موقتة تتولى حراسة المراقبين غير المسلحين، ويضيف أنه إتصل فعلاً بدولتين بغرض الاستعداد لتشكيل هذه القوة. يدعم هذا الرأي الكاتب المعروف رتشارد هاس رئيس المجلس الأميركي للشؤون الخارجية فيقول إنه لا توجد في ليبيا مؤسسة أو جماعة قادرة على أن تحل محل عائلة القذافي، ولذلك لا بد من الاسراع في تشكيل قوة دولية, ويضيف «أن تزيح ملكاً وتقضي على نظامه شيء وأن تقيم نظاماً محله شيء آخر تماماً». و يعتقد هاس أن أوباما يجب أن يعيد النظر في تأكيده أن قدماً أميركية لن تطأ أرض ليبيا... «فقيادة أميركا صعب أن تثبت نفسها بدون حضور على الأرض». ويتصور السيد هاس الذي تولى ذات يوم ادارة التخطيط بالخارجية الأميركية، أن الحد الأدنى للتدخل هو أن يكون الغرب مستعدا لارسال مئات من المستشارين العسكريين، أما الحد الأقصى فقوة عسكرية تتشكل من عدة ألوف من الجنود.
[[[
توقفت طويلا أمام الصورة الاحتفالية التي نشرت للزعماء الذين حضروا مؤتمر أصدقاء ليبيا الذي انعقد في باريس. توقفت في الحقيقة أمام ابتساماتهم التي تارة أراها ابتسامات «دراكولية» بشعة وجشعة، وتارة أخرى أراها «بابا نويلية» حنونة وناعمة. لا نستبعد، ولا يجوز أن نستبعد، النوايا الصافية والطاهرة والنقية، وخاصة تلك المتعلقة بالرغبة في أن تنتشر الديموقراطية في أرجاء المنطقة العربية، وأن يعم العدل، وأن تعود الأحوال بأسرع ما يمكن إلى الهدوء والاستقرار.
ولكن لا نستبعد، ولا يجوز أن نستبعد، النوايا المتعلقة بالمصالح، وهذه النوايا لا توصف بأنها غير طاهرة وغير صافية وغير نقية، لكنها أوصاف قد تنطبق على بعض أدواتها وأساليبها. وجدنا ذاكرتنا تعود بنا إلى صور فوتوغرافية «مثيرة» أذكر منها تحديداً صورة طوني بلير في خيمة القذافي في ليبيا وهما متعانقان وصورة برلسكوني منحنياً يكاد يقبل يد القذافي، أو لعله فعل فعلا، وصورة ساركوزي وهو يشب على أطراف أصابعه ليحتضن معمر ويقبل وجنتيه. ثم جاءت الوثائق المسربة من جهاز المخابرات الليبية التي كشفت عن وجوه أخرى في علاقات نظام معمر القذافي ومديره السيد كوسى بالمخابرات الأميركية والبريطانية.
كان واضحاً أن الغرب في هذه السنوات الأخيرة لم يدع فرصة تمر دون أن يثبت فيها للقذافي مدى حبه وتقديره له. وأحياناً بالغ الغرب وبسخف شديد حين ساعد ليبيا لتحتل مقعداً متميزاً في منظمة حقوق الانسان، ولم نسمع عن ضغوط أو إيحاءات تحث القذافي على إدخال إصلاحات. فجأة ومع بشائر الثورة ظهر في بنغازي الفيلسوف الفرنسي المعروف بتعصبه للصهيونية وإسرائيل وساركوزي قادماً من ميدان التحرير في القاهرة وقد اكتملت في رأسه فكرة تحريك فرنسا لمصلحة الثوار.
[[[
ليبيا حلم أحلام الغرب الساعي الى إعادة بناء دول بعينها. ثورتها تمثل الاختبار الأساسي لقدرة الحكومات الغربية على صياغة الدولة النموذج في العالم العربي، وتطورات الأمور فيها ومن حولها تثير لدى الكثيرين في الغرب ولدينا تعليقات وأسئلة أورد منها على سبيل المثال:
أولاً: يقال الآن إن سير التطورات في ليبيا قد يصبح المثال الأمثل للتدخل الأميركي في الخارج والذي يجب أن يتبناه الفكر الاستراتيجي والعسكري الأميركي في المستقبل. يقوم هذا النموذج أساسا على مبدأ «القيادة من الخلف»، أي أن تترك أميركا للأطلسي، أو دول بعينها مهمة التدخل العسكري وفقاً لإملاءات أميركية، أو تحت إشراف واشنطن.
ثانيا: إن الثورة في ليبيا، وليست تونس أو الجزائر أو اليمن، هي التي أطلقت شرارة عملية «التدوير الثاني للمصالح الغربية في العالم العربي». وقع التدوير الأول عندما قامت حكومة بريطانيا بإعادة هيكلة محمياتها في الجزيرة العربية وأقامت حكاماً جدداً قبل أن تعلن انسحابها من شرق السويس. المنظر الحالي لا يختلف كثيرا إلا في العمق والاتساع، فالسباق على ما يسمى بالكعكة الليبية مستعر وإعادة التوزيع أو التشطير قد يتكرر على النمط الذي حدث في العراق، عندما طردت قوات الاحتلال المصالح الفرنسية مثل شركة توتال. المؤكد فيما يبدو هو أن فرنسا لن تقنع في ليبيا الجديدة بدور الدولة المدعوة للحصول على نصيب، وقد تفلح في وضع تعقيدات أمام الصين وروسيا، وفي وجه مصالح عربية معينة وربما تركيا .
ثالثاً: لأول مرة تلعب دولة خليجية صغيرة دوراً رئيساً في عملية تدوير المصالح الاقتصادية الدولية في دولة من الدول النامية. يتحدثون في باريس عن نفوذ كبير لدولة قطر تستخدمه في التأثير على عملية إعادة توزيع حقوق الانتفاع من الثورة الليبية. هنا أيضا تخضع القيادة السياسية في قطر للاختبار ذاته، فالتدخل القطري لدعم ثورات ضد أنظمة حكم عربية قد يتجاوز بدون وعي الإمكانات السياسية الملموسة لدولة قطر. وعلى كل حال، لا يقنعنا ما تردده صحف اجنبية (سيميون كير في فاينانشيال تايمز) عن أن وراء حماسة قطر للتدخل في ليبيا حنين الشيخة موزة لفترة طفولتها في بنغازي. أكثر إقناعاً ربما القول بأن قطر ربما وجدت ضرورة في تنويع مصادر قوتها الناعمة لتخفف من اعتمادها على مصدر واحد وهو قناة الجزيرة.
رابعا: لا شك في أن لثورة تونس الفضل الكبير في تسريع نشوب ثورات عربية أخرى، ومنها ثورة ليبيا، ومع ذلك تحصل الثورة الليبية على اهتمام يفوق ما تحصل عليه الثورات التونسية والمصرية وحتى السورية.
نكتشف الآن أن حلف الأطلسي لديه وثيقة أعدت منذ الأيام الأولى للثورة الليبية وعرفت بوثيقة بروكسل، ثم اكتشفنا أن أطرافاً كثيرة تدخلت منذ اليوم الأول، وأن وثيقة أخرى كانت تعد في نيويورك وتقرر أن حلف الأطلسي لن يغادر ليبيا لسنوات طويلة مقبلة. ونقرأ أن جهات ألمانية غاضبة لأن الأمم المتحدة استبعدت خبيراً ألمانياً في شؤون بناء الأمم. ويتردد أن الاهتمام بليبيا يعود إلى أنها «الدولة الأبسط تركيباً بين الدول العربية الثائرة»، بمعنى أن ليبيا نشأت في الأصل دولة ضعيفة المؤسسات ثم جاءت ثورة القذافي الثقافية فأطاحت بما نشأ منها في العهد الملكي وعهد الوصاية. لذلك ربما شعرت الدول الغربية بأن مهمة بناء دولة جديدة بمقـــاييس غربية أسهل في ليبيا من بناء دولة جديدة في مصر أو تونس حيث المؤسسات أقدم وأقوى.
[[[
التزاحم الغربي على بناء دولة جديدة في ليبيا على النمط الغربي يعيد إلى الذاكرة مفهوم الوصاية الدولية وممارساتها. تغيرت العناوين والعهود والقصد واحد. هكذا تكون ليبيا الدولة الوحيدة في العالم التي خرجت من عهد الوصاية، لتعود إليه بعد ستين عاماً من الاستقلال. مؤشرات غير قليلة تشير في اتجاه أنها لن تبقى وحيدة لمدة طويلة.
جميل مطر
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد