ماتياس إينار «بوصلة» لتجاوز النظرة الاستشراقية
أمس، مُنِحتْ جائزة غونكور لسنة 2015 إلى الكاتب الفرنسي وثيقِ العلاقة بالشرق العربي، ماتياس إينارْ، عن روايته “بَوصلة” (آكت سود). هكذا تكون “بوصلة” إينار قد حصلت على أصواتٍ أكثرَ منْ روايات التّونسي هادي قدّور والفرنسيّ، مِصْريّ الأصل توبي ناثان، والفرنسيّة ناتالي أزولاي التي كانت قد بقيت أيضاً على اللائحة الأخيرة للرّوايات المُرَشَّحة للغونكور.
واسْمُ إينار ليس بالغريب عن القارئ العربيّ، فله رواية معروفة مترجمة إلى العربيّة هي “شارع اللصوص”، التي ترجمتْها ماري طوق وأصدرتْها “منشورات الجمل” سنة 2013. كما أنّ العربيّة ليستْ بالغريبة عليه، فقد درَسها، إضافة إلى الفارسيّة، كما أنّه أقام لفترات في العديد من المدن العربيّة، بل إنّ الشّخصيّة الأساسية في رواية “شارع اللصوص” هي مغربية. ومرّةً قال إينارْ إنّه قد عُرِض عليه أنْ يُتَرْجِمَ عملاً لسليم بركات، لكنّه بقي متردّداً، لأنّ ذلك العمل بدا له على جانب كبير من الصّعوبة.
ولد إينار في نْيُورْ في فرنسا عام 1972، ونَشَرَ تسع روايات، قبل “بوصلة”. تبتدئ هذه الرّواية، وقد حلّ الليل بفيينّا، حيث يتتبّع القارئ حال فرانتس ريتِر، النّمساويّ المختصّ بعلم الموسيقى والشغوف بالشرق، الذي يستعصي عليه النّوم، فيستعيد حياته، مناوباً بين الذّكريات وأحلام اليقظة، متنقلاً، في ذهنه، بين إسطنبول وحلب ودمشق وتدمر، وطهران... مسترجعاً، بالطّريقة نفسها، علاقات سالفة، وخاصّة شغفه بِسارة، المرأة الصّعبة المِراس التي أحبَّها ولا يزال، والتي تعرف بالاختصاص، كيف يمارس الشّرق سِحْره على الفنّانين والرّحّالة والمغامرين، وتتواصل مع فرانتس في هذا الصدد...
يخبرنا فرانتس ريتّر، منذ الجملة الأولى، بأنّه منغمس في تدخين الأفيون، فيما السّماء تمطر في الخارج، الذي يتتبّع بعضاً ممّا يجري فيه عبر زجاج نافذته. وسنعرف، لاحقاً، أنّه تخلّى عن الأفيون... في الفقرة الثّانية من الرّواية، يحضُر «عبقُ الشّرق»، إذا شئنا استخدام هذا التّعبير المتداول. يَرِدُ في هذه الفقرة: «الحياة هي صدى أليم، حلمُ مُتعاطِي أفيون، قصيدة للرّومي [جلال الدّين] مُغَنّاة من قِبَل شَهْرام ناظري... عليّ أنْ أُتابع قراءتي عِوَضَ أنْ أتتبّع السّيّد غروبر وهو يغيبُ عن ناظرَيّ تحت المطر، عِوضَ أنْ أَمدّ أذنيّ مُصيخاً إلى... هذا المغنّي الإيراني... سيكون عليّ أن أوقف أسطوانة الموسيقى فأنا لا أستطيع أن أُرَكّز، وها قد أعدتُ قراءة هذا المطبوع...».
تجمع رواية إينار بين المعرفة العميقة بالشّرق وثقافته، من جهة، وبين التوقّد العاطفي، من جهة ثانية. فيها حضور لشعراء فارس، ولشخصيّات أوروبية من عالم الثقافة وقعت أسيرة سحر الشّرق... وهكذا، فحسب بحث لسارة، يكون بالزاك، متأثّراً في ذلك بصداقته مع المستشرق النمساويّ هامّر-بورغستال، قد أدرج في طبعة 1837 من روايته “الجلد المسحور”، صفحةً فيها صورة لنص مكتوب بالعربية، لم يكن موجوداً في طبعة 1831 من الرّواية المذكورة، وممّا في ذلك النّصّ: « لو مَلكتَنِي ملكتَ الكلّ/ ولكنّ عمْرَك مِلْكي/ وأراد الله هكذا/ اطلُبْ وستنال مطالبك/ ولكنْ قِسْ مطالبك على عمرك...». وبصدد الحديث عن حضور هوغو اللحظات الأخيرة، الأليمة، في حياة بالزاك، يتساءل السّارد لِمَ لمْ يُمنحْ بالزاك الأفيون أو المورفين للتّخفيف من آلامه، مثلما حدث مع هاينريش هاينه. كما أنّنا نُحاط عِلْماً بالعلاقة التي جمعتْ بين الديبلوماسيّ العثماني خليل باشا وبين التشكيلي الكبير، الفرنسي غوستاف كوربيه الذي كان قد اضطُهِد في بلده، فرنسا، بسبب مشاركته في “كومونة باريس” فغادرها، وكيف أنّ خليل باشا كان قد التقى صديقه كوربيه في باريس، حين كان هذا الأخير لا يزال هنالك، وقدّم له طلباً بلوحات: “النّوم الرّقيق”، أوّلاً، ثم اللوحة الشّهيرة، المثيرة، “أصل العالَم”... ونعلم أيضاً كيف أنّ سارة كانتْ تُجِلّ قدر فارس الشّدياق، وكتابه المعروف (يتعلّق الأمر، بالتّأكيد، بـ”السّاق على السّاق...”) من بين آخرين كُثر من مبدعي الشرق الكبار: الإيراني صادق هدايت، الذي مات مُنتحِراً في باريس.
حضور لتدمر المحاصرة بالدمار... وإهداء إلى السوريين
يقول السّارد: « في انتظار سارة، كان لديّ كلّ الوقت لتأمّل نافذة البيت رقم “37 مكرّر”، حيثُ كان صادق هدايت قد قرّر وضعَ حَدّ لوجوده... كنتُ أفكّر في ذلك الرّجل، الذي كان في الثّامنة والأربعين، وهو يَسُدّ فتحات باب مطبخه بِخِرَق قبل أنْ يفتحَ الغاز ويتمدّدَ على بساط وينامَ إلى الأبد... “البومة العمياء” (رواية شهيرة لصادق هدايت) هي حُلمُ ميّت. كتابٌ عنيف. إيروسيّته متوحّشة... إنّه كتاب أفيون». ويَحْضُر الأفيون في استطراد السارد التالي عن صادق هدايت: «سحْبُ نفَسٍ من الأفيون الإيرانيّ، نفَس من الذّاكرة، ذاك نوع من النّسيان، نسيان الليلِ الذي يتقدّم، المرضِ الذي يستشري، العمى الذي يجتاحنا. هذا ربّما ما كان يحتاجه صادق هدايت حين فتح الغاز في باريس سنة 1951...»
إنّ سارة هي مستشرقة، وترغب في أنْ تبيّن عدم ملاءمة، بل لامعقوليّة “فكرة “غيريّة الإسلام المطلقة”. فهنالك علاقة أخذ وعطاء بين الغرب والشّرق، طبعاً. يردُ، في الرّواية، بصدد الحديث عن مارسيل بروست و”البحث عن الزّمن الضّائع”: « أكثرَ من مئتي مرّة، في “البحث عن الزّمن الضّائع”، يُلَمّح بروست للشّرق ولـ”ألف ليلة وليلة”... وهو ينسج الخيط الذهبي للعجائبي العربي طيلة روايته الهائلة؛ فَ”سْوانْ” (سارد “البحث...”) يسمع ألحان كَمان كما لو كانتْ أصوات جنّي خارج من فانوس، كسيمفونيّة تُظْهِر كلّ جواهر “ألف ليلة وليلة”. فلولا الشّرق... لما كان هنالك بروست، ولا “البحث عن الزّمن الضّائع”».
ويحدثُ أن يتذكّر فرانتس ريتر ليلة قضاها رفقة سارة في قلعة تدمر، وكانت هذه الأخيرة تشعر بابتراد ساقيها، فانكمشتْ في حضنه. يتذكّر ويعرف أنّ تَدْمُر تُدَمَّر اليوم وتحتضر. ويفكّر، بمرارة، كيف أنّ أولئك الذين يدّعون الجهاد هنالك إنّما يبغون الإجهاز على حضارتهم... ولا ننسى أن نُشير إلى أنّ إينار، في صفحةٍ آخرَ الكتاب، يُهْدي روايته إلى بضعة أشخاصٍ، وأيضاً إلى ...السوريين.
مبارك وساط
عن الترحال وعناق الحضارات
سيكون على قارئ «بوصلة» (2015 ــ أكت سود) لماتياس إينار (1972) وهو يعبر سطور هذا النص الجديد، استعادة فكرة الانتقال بين الأمكنة والثقافات والمناخات المُحيطة بها مقارنة بما قرأه في النتاج السردي السابق لهذا الكاتب الفرنسي الجنسية والشرقي الهوى. من هنا، يبدو الكاتب منتمياً إلى تلك الفئة النادرة من الروائيين الذين تخلوا عن فكرة «الشرق» وصورته المعمّمة في الجهة الغربية من العالم، وطُبعت في خيالهم على هيئة شديدة العُتمة. لم ينجح إينار في عثوره على الجهة المُنيرة في صورة ذلك الشرق إلا بعدما مارس حياة أتت على شكل مجموعة من الأسفار والإقامات في تلك الجهة التي أتقن لغة أهلها، فصار لسانه على شكل جسر وحلقة وصل في محاولة لردم الهوة المُخيفة التي فصلت بين الجهتين.
لن تكون «بوصلة» في هذا السياق إلا عملية يستكمل فيها هذا الكاتب الذي أمضى وقتاً من عُمره في دراسة اللغتين الفارسية والعربية، السير على نحو معاكس لخطوات مستشرقين كُثر لم يتمكنوا من مغادرة الجهة السوداء من صورة الشرق في ذاكرتهم. سيحضر مفهوم الانتقال بقوة في عمله «زون» (2008 ــ أكت سود) وهو يسرد مصادفة نسيان أحدهم موعد سفره على طائرة كانت ستقلّه من ميلانو إلى روما. عندها، يضطر لأخذ خيار القطار الذي ستبدو نافذته أثناء سفره على هيئة ممرّ يمكّنه من الدخول إلى تاريخ طويل بين ضفتي المتوسط عابراً بنوع من التفصيل لمجازر وحروب كثيرة من البلقان إلى الجزائر إلى الحرب الأهلية اللبنانية ومحارق اليهود والأرمن، إضافة إلى ما حصل في البوسنة والهرسك مع عدم نسيان فلسطين ثم العراق. سيظهر إينار في عمله «شارع اللصوص» (2012 ــ أكت سود) حاملاً لحكاية «خضر» المغربي المنتمي إلى مدينة طنجة وهو المُحاط بالخيانات وأشكال شتى من الفقد والمهزوم في قلبه نتيجة حبّ لم يكتمل. من هنا، تأتي رغبته الدائمة في الترحال وترك الأمكنة التي يصلها بحثاً عن شفاء باتجاه الغرب أو على حافة البحر.
على العكس من فتى طنجة، سيأتي راوي «بوصلة» متخذاً وجهة الشرق خطاً يمكن السير عليه في خياله، علّه يجد في تذكر ما كان له في تلك الجهة الشرقية من العالم وسيلةً للإفلات من حالة الأرق التي تطارده. من هنا، سندخل حياة العالم والباحث في الموسيقى الشرقية فرانز ريتر. نراه داخل غرفته في مدينة فيينا وهو يتأمل تذكارات حملها من بلدان الشرق. سيكون هذا دافعاً لرواية ما حدث له هناك برفقة سارة ورسائلها، عشيقته المستشرقة والباحثة عن عناصر الأصالة وجانب الجمال المخفي في داخل ذلك الشرق. وسوف يتم كشفها عبر محاورات ممتدة طوال رحلة السرد بينهما، لكن مع بقاء العاشقة «بوصلة» الحكاية كلّها وتأكيد ميلها لفكرة عدم تحمّل بعض المستشرقين لحالة سوء التفاهم التي حصلت نتيجة هيمنة المُستعمر وطغيانه. ومن أجل تبديد تلك الحالة القاتمة، لا يمكن تناسي رائحة موسيقى الشرق التي احتلت العمل، خصوصاً أنّ «الموسيقى تعبير عن معاناة العالم». سيكون ذلك الحضور اللحني مدعوماً بأسماء كبيرة لأركان الموسيقى الغربية مع اجتهاد لتبيان العلاقة التي تربطها مع أصولها الشرقية حيث الأشياء الهجينة تكون دوماً أساساً لأي عبقرية. هو رد اعتبار صريح لذلك الشرق، كي يظهر على عكس الصورة المشوهة الحاضرة في العقل الغربي. كما ستتوالى الأسماء والاستشهادات التاريخية على نحو متتابع مثل نهر طوال السرد المتنقل بين طهران ودمشق والهند وغيرها من دون استعراض من جهة إينار، بل جاءت مدعومة بسياق منطقي فرض حضورها وجعلها مهيأة لتكون قادرة على توضيح صورة الشرق الغائبة. من هنا تبدو «بوصلة» رسالة مكتوبة بعشق غامر، وتأكيد على فكرة ماتياس إينار الأساسية في مجمل اشتغالاته السردية الباحثة عن عناصر الحياة المُشتركة بين سكان العالم على اختلاف ثقافاتهم بما يتيح إمكانية العودة إلى روح الاندماج والعمل على أرضية إنسانية مُشتركة من دون غرور أو استعلاء من جهة طرف على الآخر. لكن لا بد من «بوصلة» كي لا تضيع الخطوات أثناء بحثها ومحاولة عثورها على تلك الروح مجدداً.
جمال جبران
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد