محامو الرقة: «مرتدّون» شردتهم المهنة و«داعش»!

20-12-2016

محامو الرقة: «مرتدّون» شردتهم المهنة و«داعش»!

«أخبرونا أن المحاماة كفر وردّة عن الدين، لم يخطر في بالي يوماً أن المهنة التي أحب ستصبح لعنتي».
بهذه العبارة يفتتح عبد الله حديثه حول سبب مجيئه إلى لبنان، عبد الله المحامي الأربعيني الذي كان يعيش في مدينة الرقة السورية يروي أن الأمر بدأ حين اقتاد التنظيم نقيب المحامين في الرقة جاسم العلوش من مكتبه واحتجزه لعدة أيام قبل أن يظهر برفقة عناصر تنظيم «داعش» في منطقة الفردوس ليجبروه على تمزيق شهاداته أمام الناس وهو يردّد «لا حكم إلا لشرع الله».
قام تنظيم «داعش» إبان سيطرته على الرقة بإلغاء النظام القضائي المعمول به كونه، بحسب زعم التنطيم، يعتمد على القوانين الوضعية بما يخالف شرع الله، فأُغلقت المحاكم وصودرت محتوياتها وأشاع التنظيم بين الناس بأنه قد أتلف الملفات والقضايا التي صادرها ضارباً عرض الحائط بما قد تحتويه من حقوق وما قد تثبته من ملكيات، أما البديل فهو ما أسماه «داعش» «المحاكم الشرعية».
تقول أم فراس، وهي مواطنةٌ من الرقة، «كنت قد أخذت قراراً من المحكمة بملكية بيت اشتريتُه قبل فترة، إلا أن ما حدث في المدينة لم يعطني الوقت لتسجيل ملكيتي في السجل العقاري، وحين ذهبت إلى المحكمة الشرعية لأسأل عن قرار الملكية أخبروني أنهم أتلفوا كل محتويات المحاكم ولم يعد لديّ ما يثبت ملكيتي».
المحاكم الشرعية التي اتّخذت من أبنية دوائر الدولة السابقة مقارّ لها، تقوم على قضاةٍ من أمراء التنظيم، أما قانونها الوحيد فهو مصالح التنظيم وأفراده، يخضع الناس بموجبها لقانون يجهلونه من دون وجود أي نوع من إجراءات التقاضي، فالأمر عائدٌ لمزاج الأمير ورأيه فقط. ويتذكّر الرقاويّون جيداً حالة إحدى الأسر التي استولى أحد أفراد «داعش»، مصري الجنسية، على منزلها ولدى اللجوء للمحكمة الشرعية مُنح المنزل لعنصر «داعش» بحجّة أن العائلة تملك منزلين في المدينة.
وإمعاناً في تكريس فكرة المحاكم الشرعية والقضاء على أي مظهر ينتقص من شرعيّتها المفترضة، قام التنظيم بملاحقة المحامين واعتقالهم بتهمة الردّة عن الدين، وبموجب هذه التهمة يُخيَّر المحامي بعد اعتقاله بين الاستتابة أو القتل، ويمنح ثلاثة أيام في حبسٍ انفرادي للتفكير وإعطاء قراره، فإن هو اختار الاستتابة، بشكل طبيعي، يخضع لدورةٍ تستمر ما يقارب الشهرين يقوم شرعيّو التنظيم فيها بإعادة تأهيل المحامي وتعريفه بدولة الخلافة ودين الإسلام وفق نظرتهم في مقابل أن يُمنح وثيقة «غير كافر» تؤهّله للخروج من السجن والعودة إلى حياته بعيداً عن المهنة طبعاً.
يقول المحامي عبدالله «أعطاني داعش بعد شهرين وثيقة غير كافر، كنت أحملها معي كشهادة الميلاد فلم أكن أعتقد أني سأنجو من الموت وأخرج من سجونه إطلاقاً».
صكّ البراءة الذي منحه «داعش» للمحامين لم يضمن لهم لقمة العيش في ظل منعهم من ممارسة مهنتهم، ما أجبر البعض منهم على مغادرة الرقة ضمن موجات النزوح والهرب، إلا أن الظروف الاقتصادية السيّئة التي تمرّ بها البلاد جعلت سوق العمل ضيقاً جداً، يضاف إلى ذلك أن المحاماة مهنةٌ تتطلّب شبكةً من العلاقات والمعارف لا توفّرها المنطقة الجديدة، ما جعل ممارسة المهنة أمراً شبه مستحيل.
ويشير المحامي موفق، الذي افتتح بما تبقى لديه من أموال محلاً للالبسة النسائية في دمشق، إلى جانب آخر وهو أن سنوات عمره التي استهلكت في الدراسة والتفرّغ الكامل للمهنة لم تعطه إمكانيّة اكتساب مهاراتٍ تعينه على العمل في مجال آخر فيقول «إحنا المحامين ما نعرف نشتغل غير بالمحاماة، فتحت محلا للألبسة النسائية، بالبداية كنت أروح عالمحل ببدلتي الرسميّة (يضحك)، يا أخي أنا محامي وهالشغلة مو شغلتي».
أما البعض الآخر، الذي اختار مغادرة الرقة إلى خارج سوريا، فقد اصطدم بمجموعةٍ من القوانين في بلدان اللجوء تمنعه من ممارسة مهنته، فعبد الله الذي وصل إلى لبنان يستذكر زياراته المتكررة إلى نقابة المحامين في بيروت لاستصدار تصريحٍ يسمح له بالعمل كقانوني في إحدى المنظمات الإنسانية، إلا أن النقابة أخبرته أن الأمر محصورٌ باللبنانيين فقط ويمنع على غيرهم ممارسته، وعلى الرغم من أنه قد أوضح أن العمل لا يتضمّن الترافع أمام المحاكم أو تسيير المعاملات فيها إلا أن الرفض استمر.
«أتفهّم أن يحصر الترافع أمام المحاكم بمواطني الدولة، ولكن في كل الدول يسمح لغير المواطنين بالعمل كمستشارين أو قانونيين، لكنهم منعوني من هذا أيضاً، وعندما يئست بدأت بتعلم مصلحة الدهان التي أعمل بها منذ سنة تقريباً».
بكثير من الحزن يختم عبدالله حديثه عمّا آلت إليه حال محامي الرقة، سارداً قصص بعض زملائه الذين لم يتمكّنوا من مغادرة المدينة، فاضطرّ البعض منهم لبيع ممتلكاته أو حتى العمل كسائقي شاحنات نقلٍ للوقود بين مناطق الرقة، ويستذكر صديقه عبد الرزاق الذي كان مسانداً للمسلحين منذ البداية وكان حريصاً دائماً على تبشير رفاقه بكمّ الحرية والرفاه اللذين هم مقدمون عليه، فيختم متهكّماً «اعتقل داعش عبد الرزاق مثلما فعل معنا تماماً، وبعد أن استتاب وعاد إلى منزله، اشترى عربةً يبيع عليها الخضار في سوق الهال».

قتيبة صالح

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...