مذابح غزة و'متلازمة جينوفيز'!
اليوم تحضرني ذكرى الآنسة "كيتي جينوفيز" التي ربما لا يذكرها الكثيرون من أبناء وبنات الجيل الحالي. غير أنها لم تبرح ذاكرة جيلنا ولا نزال نذكر ما أحسسناه من رعب وخجل إثر سماعنا قصة تلك المرأة التي تعرضت للاغتصاب والطعن الوحشيين حتى الموت في أحد شوارع مدينة نيويورك عام 1964.
والذي أصاب الأمة الأميركية كلها بصدمة بالغة, أن 37 من الشهود سمعوا صراخ "جينوفيز" واستغاثاتها دون أن يبادر أحد منهم إلى نجدتها وإنقاذها! وبعد مضي عدة سنوات على تلك الحادثة, درس علماء الاجتماع تلك السلبية المروعة لسلوك أولئك الشهود وأطلقوا عليها اصطلاح "متلازمات جينوفيز". وهذه المتلازمة هي ما أشعر به الآن وأنا أرى العالم كله يلزم الصمت ويقف موقف المتفرج من الفظائع التي ترتكبها إسرائيل في قطاع غزة, تاركاً إياها تفر بما ارتكبت يداها من مذابح وآثام. أقول هذا وأكاد أسمع ما يثيره النقاد في وجهي بقولهم: ولكن ماذا عن الجندي الإسرائيلي الأسير جلعاد شاليت؟ ثم ماذا عن حركة "حماس" ومنظمة "الجهاد الإسلامي"؟ وماذا تقول عن صواريخ "القسام"؟
وبعد أن أثرت هذه الانتقادات بما يكفي, فإن لدي ملاحظتين هنا لابد من الوقوف عندهما. أولاهما انتفاء أي مبرر سياسي أو أخلاقي للعقوبة الجماعية التي تنزلها إسرائيل بمجموع سكان القطاع, بسبب جرم ارتكبته مجموعة ضئيلة للغاية منهم. وثانيتهما أن نذر الأزمة الإنسانية في القطاع سبقت اختطاف الجندي الأسير "جلعاد شاليت" بوقت طويل, مع العلم بأن هذا الحدث وقع في الخامس والعشرين من شهر يونيو الماضي فحسب. ذلك هو ما أشارت إليه كافة التقارير والأخبار التي تواترت عن القطاع قبل شهر مايو المنصرم, بوصفها للوضع الإنساني هناك بالكارثي والخطير.
وضمن ما أوردته التقارير المذكورة أن القطاع يعد إحدى أكثر مناطق العالم كثافة سكانية, وأن ثلثي سكانه يُصنفون تحت خط الفقر. فهناك نقص حاد في الغذاء والوقود ومياه الشرب. وبسبب هذه الظروف, تفشت أمراض سوء التغذية وبقية الأمراض المرتبطة بها بين الشباب بصفة خاصة, بينما لا تتوفر إلا خدمات الرعاية الصحية الأساسية. والحقيقة أن كارثة الوضع الإنساني في القطاع, سبقت فوز "حماس" نفسه بالانتخابات التشريعية التي أجريت في يناير من العام الجاري 2006. بل أهم من ذلك كله لابد من القول إن قطاع غزة ظل دائماً عبارة عن قطعة من الأسى والجحيم, على امتداد الخمس والعشرين سنة الأولى التي مضت على احتلاله من قبل إسرائيل 1967-1993. وكما لاحظت الكاتبة "سارة روي" محقة في كتابها "قطاع غزة: الاقتصاد السياسي لإعادة التنمية" فقد واصلت إسرائيل سحقها وقهرها لسكان القطاع, إلى جانب حرمانهم من أية فرصة للنمو الاقتصادي.
وخلال الفترة المذكورة كلها, لم تقدم إسرائيل على بناء أي من مقومات البنية التحتية في القطاع, من قنوات تصريف وطرق وشوارع معبدة وغيرها. بينما جرى اختزال سكان القطاع من الفلسطينيين إلى مجرد جامعي حطب وحاملي جرار الماء, على حد قول أحد الوزراء الإسرائيليين. وقد لاحت بارقة الأمل الوحيدة لبناء اقتصاد القطاع وانفتاحه على الأسواق العالمية, عقب التوقيع على اتفاقات أوسلو في عام 1993. وعلى الرغم من كثرة من يلقون باللوم من الغربيين على سوء إدارة السلطة الفلسطينية, في محاولتهم تفسير خيبة الأمل التي لحقت بالقطاع بعد "أوسلو", فإن الحقائق والوقائع الملموسة تشير إلى اتجاه آخر تماماً في تحديد المسؤولية عما حدث. فالشاهد أن استمرار الاحتلال الإسرائيلي للقطاع خلال المدة 1994-2005 هو المسؤول المباشر عن ركود اقتصاد القطاع وإفقار مواطنيه. وبالنتيجة فقد انقسم القطاع على نفسه شمالاً وجنوباً, بينما انعزل تماماً عن بقية العالم والأراضي الفلسطينية نفسها. وبعد انسحاب إسرائيل أحادياً من القطاع في العام الماضي, فلا سبيل الآن لحل الأزمة سوى نبذ العنف وتحقيق العدل والأمن والنمو الاقتصادي والسلام.
جيمس زغبي
عن المركز الدولي لدراسات أمريكا والغرب
إضافة تعليق جديد