مهرجان السنديان الـ12:الأشجار شاهدة على شعراء مروا وأوهام غادرت
ـ١ـ لم تكن الحماسة بادية على وجه جودت فخر الدين، في ظلّ الحرّ الشديد الذي كان يلفنا من كلّ الجهات، ونحن في طريقنا إلى بلدة الملاّجة (قضاء طرطوس، على الساحل السوري) حيث سيشارك في مهرجانها الثاني عشر (مهرجان السنديان). قال لي »لولا رغبة ابني (الذي كان يرافقه) في زيارة سوريا للمرة الأولى، لربما كنت اعتذرت عن قبول الدعوة، إذ لم أعد كثير الحماسة في المشاركة في المهرجانات والقراءات الجماعية«. وما زاد في توتره، وفي تعرّقه أيضا، نافذة السيّارة الخلفيّة، المعطلّة والمغلقة، التي منعت عنه أيّ تسرب للهواء، كما عدم وجود تكييف، إذ اكتشفنا أنه كان يجب أن نطلب سيارة أخرى، فالتعرفة تختلف بين واحدة بمكيف وأخرى من غير مكيف. إذ ما زاد في الجنوح نحو »تدابير« كهذه، عكوف المسافرين، من الجهتين، عن التنقل بكثرة بين البلدين.
ومع ذلك مضت السيّارة في طريقها، وسط هذه الشمس الحارقة، التي تلفحنا، لتظن، وأنت تحتها، أن المسافة تطول عن مسافتها المعتادة. كانت نقطة اللقاء في طرطوس، في أحد المطاعم على الكورنيش البحري، إذ سيجتمع هناك بعض المدعوين القادمين ليُنقلوا إلى فندق في بلدة صافيتا، إذ تعذر على المنظمين إيجاد فندق شاغر في هذه المدينة البحرية.
صعدنا من هناك إلى الحافلة. كان علينا قبلاً أن نمرّ على الملاجة، لنقل شربل روحانا وفرقته الموسيقية لاصطحابهم معنا، وبعدما قطعنا نصف المسافة، اكتشفنا أن هناك آخرين قد اصطحبوا الفنانين اللبنانيين ونقلوهم إلى صافيتا.
لم يكن من المعقول أن نعود أدراجنا، فاستمرت الحافلة في طريقها، ما زاد المسافة طولا. وما زاد الشعور بالحرارة الخانقة. لكنه الشعر، لنقل هذا الوهم الذي ما زال بإمكانه أن يقودنا من مكان إلى آخر، على الرغم من كلّ شيء.
ـ٢ـ
يبدأ المهرجان من قبل أن يبدأ فعلا. على شرفة الطابق الأخير من الفندق ـ حيث المطعم وحوض للسباحة ـ كان يجلس الجميع بانتظار من تبقى من وافدين، كما بانتظار طعام الغداء. سلامات وكلمات وقبل. هي أيضا لحظات لتتعرف إلى أشخاص تعرفهم بالاسم ولا تعرفهم بالشكل، لتبدأ بعدها »النميمة« الصغيرة في تناول من حضر ومن غاب. هي تفاصيل صغيرة من حيوات الجميع، إذ لولاها لما استقامت الأمور، أيّ لما تموضعت هذه الألفة التي تشعر بها، التي تشعرك بأنك أيضا كائن عادي، تغرف من الحياة مثلما يغرف منها الجميع، من دون ادعاءات ومن دون تمايز. هي هذه اللحظة بكلّ إنسانيتها وبكل طفولتها الضائعة التي نبحث عنها.
إلا أنها لحظات لا تستمر طويلا، على الأقل لأن افتتاح المهرجان لن يتأخر، فكان علينا أن نقطع الجلسة لنهيئ أنفسنا، كي نستقل الحافلة ثانية كي نعود إلى الملاجة.
ـ٣ـ
تذكرت، وأنا أهبط الطريق المؤدي إلى ساحة البلدة، ما كتبه يوماً الشاعر موسى حوامده من أن »الملاجة هي من أجمل قصائد الدنيا«. كان ذلك في عام ،٢٠٠٤ إثر مشاركته في مهرجانها السنوي. كان باستطاعته أن يكتب غير ذلك بالتأكيد، إذ لسوء حظه وقتها، بدأت الرياح والأمطار بالتساقط ما إن اعتلى المنبر حتى يلقي قصائده. اضطر أن يختصر كثيرا ولم يبق سوى لدقائق معدودة. إلا أن »عدم قراءته« لم تمنعه من أن يلتقط روح المهرجان، الذي يغرق في الألفة والمحبة، ليقول ما قاله، وليكتب مقالته الصحافية عن المهرجان.
ربما هي هذه الألفة التي جعلتني أعود إلى هناك، بعد أربع سنوات، وللمرة الثالثة. بيد أنني هذه المرة، لم أكن لألقي الشعر، بل كصحافي متابع (بالأحرى، كشخص رغب في أن يستعيد أجواء هذا المناخ)، وإن كنت سأشارك في القسم الثاني من نشاط المهرجان، الذي كان سيدور في مدينة دمشق، على اعتبار أنها هذه السنة عاصمة للثقافة العربية.
قبل أن تصل، بدأت الساحة تطلّ أمامك. وشيئا فشيئا تبدأ التفاصيل والذكريات الماضية بالعودة إليك. هي أيضا الوجوه التي تلقي عليك التحية بحرارة، الوجوه التي تبادلها السلامات. هذه الوجوه التي تظن أنها قد نسيتك أو نسيتها. لكن سرعان ما تشعر بخطئك. فالذاكرة المتبادلة لا تزال ماثلة للجميع. وكأنك لم تغادر يوما، بل بقيت هنا كل تلك السنوات، لتتحول إلى واحد منهم، أو على الأقل لترغب في أن تكون شجرة واقفة مع باقي الأشجار، التي تلقي بحضورها المليء بالذكريات والمحبة والشعر. إنها الشاهدة على من مرّ من شعراء هنا، على أصواتهم وكلماتهم التي تركوها عالقة بين صخور الجبال وخضرة الشجر الواقف كحارس على هذا المعبد الشعري الذي بناه أهل البلدة. لقد تحولت ساحة الملاجة إلى ساحة حقيقية للشعر، يقصدها الجميع.
ـ٤ـ
كانت البداية قبل ١٢ سنة حين قرر الشاعر السوري محمد عمران أن يقيم »مهرجانا« شعريا في قريته دعا إليه أصدقاءه من شعراء سوريين، ليطلق عليه اسم »مهرجان السنديان«. بيد أن الفرحة لم تكتمل إذ غادر بعدها بفترة وجيزة. إلا أن أهل البــلدة قرروا الاستمرار في هذا النشاط تخليدا لشاعر الملاجة الحاضر أبدا بين الكــلمات التي تستعيد ذكراه. ومع السنين تحولت هذه الذكرى إلى احتــفالية كبيرة مثلما تحول المهرجان إلى ذاكرة ثقافية تستقطب الكثير من الشعراء، لا السوريين فقط، بل العرب، ومنذ سنوات قليلة، بدأت أسماء بعــض الشــعراء الأوروبيين بالحضور. بهذا المعنى تحول النشاط الثقــافي العادي، إلى حيّز وفضاء بدأ يحفر اسمه كواحد من المهرجانــات القليــلة التي ينتجــها المجتمع الأهلي. إحدى ميزات مهرجان الســنديان، مشاركة كلّ أبــناء البلدة في إحيائه عبر عملـهم الدؤوب من استقبال وتنظيم وتحسيــنات وإضـافات تتبينها كل سنة.
إحدى هذه الإضافات، تحول ساحة »العين البعيد« (حيث تقام القراءات) إلى معرض للنحت في الهواء الطلق. هي منحوتات الفنانين الذين شاركوا في الدورات السابقة، إذ دُعي العديد منهم للعمل هناك قبل انطلاق المهرجان بفترة. وبعدما أتموا عملهم تركوا أعمالهم لتزيّن الطريق المؤدية. متحف في الهواء الطلق، هكذا بدت الساحة التي كان سواد المساء قد بدأ يلفها. فاصل زمني تشعر معه بسكينة غريبة قبل أن تبدأ الأضواء برمي نورها على الجميع. وقبل أن تبدأ القصائد بنسج حكاياتها الخاصة ومناخاتها المختلفة، لتترك وراءها العديد من الأسئلة والدهشة.
ـ٥ـ
في السنوات الأولى، كان مهرجان السنديان يستمر لسهرة واحدة يقرأ الجميع فيها نصوصهم، لكنه منذ سنوات قليلة بدأ يدور على مدار يومين. مهرجان هذا العام يمكن القول فيه إنه دار على مدى أربعة أيام، اثنان في الملاجة (محافظة طرطوس) ويومان آخران في مدينة دمشق.
قرأ في اليوم الأول كلّ من هاشم شفيق (العراق) ووفاء العمراني (المغرب) وجرجس شكري (مصر) ومرام المصري (سوريا) وليزا ماير (النمسا)، أما في اليوم الثاني فقــرأ كــل من جــودت فخـر الدين (لبنان) وميســون صـقر القاسـمي (الإمارات) وهنادي زرقة وعبد الحــميد سلوم (سوريا) بينما تغيب الشاعر الفلسطيني غسان زقطان إذ لم تســمح له سلطات الاحتلال بالمغادرة مهددة إياه بأنها لن تسمح له بالعودة إن غادر.
أصوات شعرية مختلفة ومتنوعة، تنتمي بالتأكيد إلى ما يكتب اليوم من شعر. خارطة لا تتشابه إلا بكونها تنتمي إلى بقعة جغرافية واحدة، أما بقعتها الشعرية فمتعددة ولا تحدها عوامل واحدة. ولكن بعيدا عن الأصوات الشعرية العربية التي ألقت بعض القصائد الجيدة، أكانت قديمة معروفة، أي مستلة من دواوينها السابقة، أم كانت جديدة تلقى للمرة الأولى، وهي بالتأكيد بحاجة إلى إعادة قراءة متأنية كي لا يأتي الحكم عليها متسرعا، استمعنا خلال المهرجان إلى الشـاعرة النمسـاوية ليزا ماير، وسأختار لها هنا قصيدتين من القصائد التي ألقتــها باللغة الألمانية أما النص العربي، وهو من ترجمة مصطفى السليمان، فقد قرأته الممثلة السورية حلا عمران. من أجواء شعرها، نقرأ، النص الأول بعنوان »شرفة الشمس ١«: »فقدت النوم في أشياء / واليقظة أيضا / أطير بهدوء حمامة / من بين سنابل حدائق غريبة /صوت يمر ليلا / بالمدينــة باحثا عني / ربما أصل / مع الفجر / إلى شرفة الشمس / شمس الظلال تقص من جسدي / بمقصها الذهبي / وتسكب / من كأسي/ في كأسها / حتى أغني ألحان / أنهار تحت الأرض / تكرار / المجهولين«. أما النص الثاني الذي سأختاره لها فهو بعنوان »في الصباح التالي«: وتقول فــيه: »بلطــف تلقي لي الشمس/ بصلوات من عظم / على شرفتها/ هذا الظهر/ يبين أثري / أضلاع تحنو على ما بها/ تحليق / لا هواء ولا خطى/ سوى أصوات / غريبة / يجمعنا العريّ الأول والثاني«.
ربما الاختيار هنا، لقصــائد الشاعرة النمساوية، ليس سوى نوع من الهروب من اختيار قصائد للشعراء العرب. بالتأكيد لا أستطيع هنا، في هذه المتابعة، اختيار قصائد جميع الشعراء العرب، لضيق المكان، من هنا، هذا الهرب لأقول كي لا نقع في مطبات الاختيار التي قد يراها البعض نوعا من إلغاء ما.
ـ ٦ـ
غالبا ما تطرح علينا المهرجانات الشعرية العديد من الأسئلة: ماذا نريد من مهرجانات الشعر؟ هل ما يقدم فيها من قراءات يمثّل صورة واضحة عمّا يكتب اليوم من شعر؟ أسئلة غالبا ما تستعاد، في كلّ مرة نحضر فيها مهرجانا. ربما هي أسئلة تملك شرعية ما عند البعض. لكن أليس في السؤال انزياح ما عن جوهر القضية؟ بمعنى هل المهرجان هو المسؤول عمّا يقدم، أم المشكلة تعود أصلا إلى الشاعر وقصائده؟ بهذا المعنى يبدو أي مهرجان للشعر اليوم وكأنه بمثابة ديوان يضم العديد من القصائد لشعراء من ذوي الاتجاهات المختلفة. حيث إن كل واحد مسؤول عن النص الذي يقدمه، وبالتأكيد ثمة ما هو جيد وثمة ما هو غير جيد (من دون أن ننسى وجهة النظر الشخصية التي تتحكم بالحكم على ما نتلقاه وعلى الذائقة الأدبية وعلى الثقافة التي نأتي منها عامةً) لكن السؤال عن مدى تقارب النصوص المقروءة بعضها من بعض، أو انتمائها لمناخ واحد، لا بدّ أن يثير تعليقا ما. لا يمكن لنا، بدون أدنى شك، أن ننتظر مناخا واحدا، أو تيّارا معينا، إذ ما نفع التجريب والتنويع، ما نفع الكتابة برمتها؟
بهذا المعنى، نجح »مهرجان السنديان« في رهانه ـ إذا جاز القول ـ أي عرف كيف يقدم، على امتداد السنوات السابقة، صورة شبه شاملة عن الأصوات الشعرية المختلفة في العالم العربي. أصوات متنوعة بمناخاتها وأساليبها. من القصيدة العمودية إلى قصيدة النثر، من دون أن تنسى المرور على القصيدة المكتوبة باللغة المحكية، أي نجح في أن يقدم العديد من تفريعات الشعر والعديد من تفاصيله. أضف إلى ذلك، نجد أنه أتاح الفرصة للبعض بالصعود للمرة الأولى أمام الجمهور، وهذا ما يحسب له بالتأكيد. أي لم يسقط في لعبة الأسماء الجاهزة، بل حاول أن يلقي الضـوء على بعــض التجارب التي بقيت في الظـل والتي تستـحق فعـلا أن تُســمع.
وبين ذلك كله، علينا أن لا ننسى هذا اللقاء بين الجميع. إذ إن إحدى خاصيات أي مهرجان شعري اليوم، هي إتاحته الفرصة للشعراء كي يلتقوا مع بعضهم، وكأن المناسبة تتحول إلى فرصة اللقاء الوحيد. هذه اللقاءات هي التي تشدنا في الحقيقة، هي التي تعرف كيف تقودنا إلى لقاءات ستستمر بعد أن ينتهي الحفل. فـ»سلاماً للملاجة ترمي أجنحتها في جهات الحب الست«، كـما قال محمد عمران ذات يوم في قصـيدته الشهيرة عن بلدته.
ـ٧ـ
لكن الحفل لم ينته. إذ بعيدا عن المنظر الطبيعي الذي كان يلفنا هناك، بدا البيت الدمشقي (بيت السباعي) الذي استضاف الجزء الثاني من النشاطات، ساحراً بدوره. هو واحد من تلك المنازل الدمشقية العتيقة، التي أعادت الدولة السورية تأهليها وترميمها لتجعلها مراكز ثقافية. بيت مشغول برهافة لا تستطيع إلا أن تقف مشدوهاً في داخله. كلّ شيء فيه يتحدث عن هذا التاريخ، وعن هذه الحاضرة التي كانت عليها المدينة. حتى أنك تتساءل عن معنى بعض الهندسة الحديثة حين تجد تلك الفسحات الداخلية التي فهمت طريقة عيش الكائن. هندسة غائبة بالتأكيد اليوم عن مفهومنا لمعنى العيش.
في هذه الأجــواء جـاءت قــراءات دمشــق، التي مثّلت امتدادا للملاجة، فكانــت لكل من هاشم شــفيق وجرجس شكري ولــيزا مايـر ومرام المصري ووفاء العمراني وميســون صقر القاســمي ورشـا عـمران وكاتب هذه السطور (وقدمها ثائر ديب)، بينما شهد اليــوم الثانــي، من هذا النشاط، وهو ضمن فعاليات »دمشق عاصـمة للثــقافة العربية« ندوة عن الشاعر الراحل محمود درويش تكلّم فيــها كــلّ من إبراهــيم الجرادي (»الاستعارة في شعر درويش«) وبيان الصفدي (»البنية الإيقاعية في شعر درويش«) وإسكندر حبش (»محمود درويش كشاعر طروادي«) وقدمها خليل صويلح.
اسكندر حبش
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد