مهرجان روتردام السينمائي

11-02-2008

مهرجان روتردام السينمائي

عندما كتبت  قبل عامين عن فيلم "أحلام" للمخرج محمد الدراجي الذي يعد ثاني فيلم روائي طويل يصور في العراق بعد سقوط نظام صدام حسين عام 2003، قلت بالحرف ما يلي:

"لقد تعرض محمد الدراجي للاختطاف من جانب البعثيين وتعرض للاعتقال من جانب قوات التحالف وألقي به في سجن أبو غريب - كما يذكر في أحاديثه المنشورة- ثم تعرض هو وفريق عمله للقصف أكثر من مرة من جانب الطائرات الأمريكية. هذه المغامرة المثيرة- دون شك- كانت جديرة بالتسجيل في فيلم آخر وثائقي ربما كان سيصبح أكثر إثارة للاهتمام من فيلم "أحلام".

لم أكن أعلم وقتها أن محمد الدراجي صور مادة سينمائية ثرية لتجربته خلال تصوير فيلمه "أحلام" في العراق، وما تعرض له وفريق عمله من مواقف لا مثيل لها، وأنه كان يعتزم أن يصنع عنها فيلما وثائقيا طويلا هو الفيلم الذي شهد أخيرا عرضه العالمي الأول في مهرجان روتردام السينمائي.

الفيلم الجديد بعنوان "حرب، حب، رب، جنون"، وواضح من الحوار الذي يدور في الفيلم بين الدراجي ومساعديه أنه اختار هذا العنوان لأنه يعكس تنويعات عدة على كلمة حرب، مع حذف أو إضافة حرف أو أكثر، أي يوضح لنا كيف يمكن أن تتحول الكلمة نفسها إلى معنى مغاير تماما مع تغير الحروف، وكأنه يعلق على تقلب أحوال البشر في بلادنا من حال إلى حال بهذه السرعة.

ولعل الدراجي يؤكد أيضا من خلال فيلمه الرائع المتقن المثير الجديد، ما سبق أن كتبته أيضا بالحرف في المقال المشار إليه وهو:

"يعلمنا تاريخ السينما أن أفضل الأفلام التي ظهرت عن أحداث سياسية كبيرة لم تكن الأفلام الأولى التي صنعت عن تلك الأحداث، بل ويقتضي الأمر عادة، مرور سنوات بعد وقوع الحدث السياسي، لكي يصبح ممكنا تقديم عمل سينمائي متكامل يحمل رؤية واضحة وناضجة" (أنظر مقال "فيلم "أحلام" العراقي وسينما ما بعد صدام" المنشور في هذا الموقع).

ويمكن هنا أن أضيف: إن أفضل الأفلام التوثيقية، غير الخيالية، هي تلك التي تُصور وقت وقوع الحدث الساخن مباشرة. وهذا شأن فيلم الدراجي الذي أسعدني شخصيا أن أراه لأنه كان مجرد " أمنية شخصية".

يصور الدراجي في فيلمه الملحمي الهائل بأحداثه ولقطاته الصاخبة (رغم أن توقيت عرضه لا يزيد على 72 دقيقة) عشرات المشاهد ومئات اللقطات التي تمتلئ بالحركة وتنتقل وتنقلنا معها، من حال إلى حال، في شكل رحلة أو فيلم طريق، يقطعه التوقف عدة مرات، والتحايل من أجل البقاء أساسا، والاستمرار في الحركة والبحث و العمل.

يبدأ الفيلم بعبور الدراجي وفريقه الصغير إلى العراق عبر الحدود السورية، إلى داخل الجنة الموعودة التي سرعان ما تصبح بمثابة الجحيم الأرضي.

ومن طلب التسهيلات لتصوير فيلم "أحلام" من مسؤول في وزارة الثقافة لا يملك شيئا، إلى أجواء الفرق والأشياع والانفجارات والقصف الذي لا يتوقف على بغداد، والحياة المستحيلة التي ينجح المصور العبقري باستخدام كاميرا الفيديو في اقتناص لحظات منها تعبر عن كل شئ، في رؤية تصل في إغراقها في الواقع إلى درجة السيريالية.

إنها أجواء كابوسية، أو بالأحرى "أبوكالبسية"، للقتل ولحقول القتل، دبابات تعبر الشوارع، ورصاصات متطايرة تكاد تصيب المخرج وطاقمه، وصفحة نهر دجلة بسحرها تخفي أكثر مما تظهر، راسخة كالأزل، وكيف يتحايل أفراد فريق تصوير "أحلام" حتى تبتعد الطائرات الأمريكية عن موقع التصوير وتتوقف عن قصفهم.

ويقتنص المخرج والمصور الذكي (سواء أحمد خليد وحسين كامل) مظاهر الفرح التي تعم الشارع البغدادي في اعقاب فوز المنتخب العراقي على المنتخب الاسترالي في كرة القدم عام 2004، ويجعل منها فرحة بالحياة ورغبة في عودة الأمل "ذكرتني بأيام بغداد الحلوة".

وبعد أن كان الدراجي قد قرر الانسحاب من تصوير فيلمه الروائي بسبب الأوضاع المستحيلة، وفشله في العثور على ممثلة تقبل القيام بالدور الرئيسي، يقرر تغيير رأيه ويمضي مصرا على التصوير مهما كانت العواقب.

ويتعرض أفراد الفريق للاختطاف على أيدي العصابات المسلحة، ويختفون لخمسة أيام ثم يعودون لاستئناف التصوير الذي كان قد بدأ أولا بدون ممثلة الدور الرئيسي. ويصور الفيلم المناقشات التي دارت بين الدراجي ومساعده حول ضرورة تعديل السيناريو وحذف مشهد اغتصاب البطلة من أجل العثور على ممثلة لا تخشى رد فعل الآخرين الذين سيجعلونها تشعر بالعار إذا ما قبلت القيام بالدور.
ويصور الفيلم كيف عاد الأمل بعد موافقة إحدى الفتيات على القيام بالدور، وكيف اضطر بعض افراد الطاقم للتوقف عن العمل، وقرر احدهم الفرار إلى الأردن لتفادي التهديد بالقتل.

ويصور أيضا كيف يعثر الدراجي على باقي أبطاله الرئيسيين من الناس العاديين، بل ومن الشارع أحيانا.

وفي الفيلم مشاهد شديدة الواقعية حد السيريالية كما أشرت، عندما ينطلق الرصاص على سيارة المخرج ومساعده، وينقلب المصور بالكاميرا وتضيع الصورة، أو عندما يوقف جنود أمريكيون الفريق ويصرون على وقف التصوير حتى أن تجربة تصوير فيلم سينمائي وسط دائرة العنف المجنون وانعدام السيطرة والمخاطر الكامنة عند كل زاوية، وبعد كل مظاهر الخراب، يعكس في حد ذاته صورة فريدة ليس فقط لحب السينما بجنون، بل لحب الحياة والوطن والناس، وهذه أعظم قيمة في فيلم "حرب وحب..".

ويتضمن الفيلم الكثير من الأحداث السياسية التي وقعت خلال فترة تصوير الفيلم ووجود المخرج في العراق قبل أن يتمكن من تهريب المادة المصورة لكي يستكمل العمليات الفنية في الخارج.

فهناك مثلا اختطاف ثم قتل مرجريت حسن، الموظفة التي كانت تعمل لدى إحدى وكالات المساعدة الإنسانية، وحادث قتل 44 طفلا عراقيا في بغداد. ويصور الفيلم احتفال العراقيين بـ"عيد زكريا" وهم يحملون الشموع على ضفتي نهر دجلة في مشهد مهيب رائع، وهو اليوم الذي جعله الدراجي آخر أيام تصوير فيلمه الروائي.

يبدأ المخرج بروح متفائلة، فالمخرج يعود إلى وطنه لكي يعرض فيلمه للمرة الأولى على جمهوره في بغداد، ثم يعود في "تذكر" طويل لكي يسرد علينا مغامرته الهائلة التي دفع كثيرون حياتهم ثمنا لها ومنهم، كما نعرف في نهاية الفيلم، علاء الدراجي الذي قتل حينما فجر انتحاري نفسه.

وفيلم "حرب، حب.." في النهاية وثيقة سينمائية شديدة الأهمية عن العراق زمن القتل العبثي، والحب الذي لا يموت.. للسينما والحياة.

أمير العمري

المصدر: BBC

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...