مواقف مع كمال الصليبي في رودس وعمان ودمشق
اسمه كبير في عالم الاجتهادات التاريخية الجريئة. واسمه كبير أيضاً في عالم الدقة التاريخية بدأ مؤرخاً ينقب بحرص يتابع الوثائق بتبصر، يدرّس كما المدرس الدؤوب، اعتمد على سمعته العلمية الراسخة المعترف له بها عربياً وعالمياً، فانطلق من تلك السمعة يجوب آفاقاً جديدة، مجتهداً، دونما كبير حذر، في فرضيات كبرى فتحت له مجالات شهرة واسعة وولد له من اجتهاداته، هو الذي لم يتزوج، أولاد كثر تابعوه معجبين.
ما أتى به أن التوراة أتت من جزيرة العرب ثم لم يتهيب من مقاربة المقدسات المسيحية أو ما يشبه المقدسات بحث في تاريخية يسوع المسيح.
جرت عليه اجتهاداته ما لا يحصى من ردود الفعل بعضها إيجابي وكثير منها مندهش أو معارض بل قيل في نظريته الكبرى بشأن مجيء التوراة من جزيرة العرب، قيل – بغباء بالغ وتحامل بالغ - أن هدفها الأساس دغدغة الطمع الصهيوني باحتلال جزيرة العرب من حيث أنها مهد التوراة.
لكنه كان- لدى عارفيه الأكثر مني قرباً منه- ذا توجه وطني وعروبي، يناهض الطائفية الضيقة التي نعرفها في بعض الفئات اللبنانية والعربية وينافح عن الحقوق العربية بلغة علمية متمكنة وبمواقف شخصية مشهود له بها وتندرج الكلمات التالية عما ربطني به في إطار تلك المواقف.
كنت أسمع باسم كمال صليبي قبل أن نلتقي لأول مرة في ندوة علمية مرافقة لافتتاح معهد الدراسات المتوسطة في جزيرة رودس في اليونان أتى اشتراكي في الندوة بعد جدل عن بعد مع منظميها من اليونانيين والبريطانيين حين تلقيت الدعوة من الدكتور فاتيكيوتيس اليوناني – البريطاني الأستاذ في جامعة لندن، فوجئت بأمرين أولهما أن الهيئة الداعية لم تطلب مني أن أتكلم كأني دعيت لأستمع غضبت ثم تصاعد الغضب حين دققت في برنامج الندوة فرأيت أن ثمة جلسة عن الإسلام والعلاقات الدولية مكلف برئاستها إيلي خضوري، وهو أستاذ بريطاني من أصل يهودي عراقي يناهض بشراسة مفهوم القومية العربية، ويمارس التدريس في جامعة فاتيكيوتيس ذاتها أدرج البرنامج أسماء المشاركين في الجلسة التي يترأسها خضوري، فإذا بينهم الدكتور عبد العزيز الدوري، شيخ المؤرخين العرب كيف يترأس خضوري على الدوري هكذا؟ بأي منطق يتم ذلك؟ ألح علي ذلك التساؤل وأنا أعيد مطالعة رسالة الدعوة إلى المشاركة، فقررت أن أتجاهلهما معاً، الرسالة والدعوة، فلا أجيب إلا أن رئيس البعثة الدبلوماسية اليونانية في دمشق، المكلف من حكومته متابعة مآل الرسالة، لم يرق له ذلك عرض وساطته فأثمرت تلقيت دعوة جديدة تسألني الكلام، وتلقيت برنامجاًً منقحاً حذف منه اسم خضوري رئيساً لجلسة عن الإسلام والعلاقات الدولية.
في أواخر أيلول 1977 كنت اذاً في رودس أشارك في ندوة ساهمت، عن بعد، في التأثير على برنامجها. ومن على منصة الندوة تحدثت عن الشعور المشترك الذي يوحد العرب ولاسيما في سعيهم لإحقاق حقوق الفلسطينيين، أما خضوري فلم يتكلم وأما الدوري فلم يحضر إلا أن أستاذاً يتزامل مع فاتيكيوتيس وخضوري في التدريس في جامعة لندن كان متعهد الرد على ما أقول اسمه: عباس كليدار، من أصل إيراني ما أن أذكر القومية العربية حتى يتقحم ليقول: إنما هي وهم واهم استقطب الندوة السجال بيني وبينه هنا تقدم إلي الدكتور كمال الصليبي باقتراح لفض السجال مؤدى الاقتراح: يأتيتي الصليبي بكليدار فيشرح لي أنه إنما ساجلني إشعاراً منه لزميله خضوري بالتضامن معه في مسألة اقصائه من البرنامج ثم نتصافح وافقت تمت المصافحة على نحو ما رتب الأكاديمي- الدبلوماسي اللبناني المتميز.
كان ذلك عام 1977 وتفاصيل الحادثة تشغل الصفحات /164-168/ من كتابي: نحو علم عربي للسياسة (دمشق- الإدارة السياسية، الطبعة الثالثة، 2009).
في حزيران 1998 أنهيت كتابة مشروع بعنوان: مكان الديانات في الدساتير: حالة الدول العربية ودول الشراكة الأوروبية تبشرنا أوروبا- والغرب عامة- بالعلمانية ولا ريب أني علماني ولاريب أيضاً أن معظم دساتير أوروبا علمانية التوجه إلا أن بعضها ليس كذلك كل دساتير الدول الملكية في أوروبا تشترط في الملك ليس اعتناقه المسيحية، بل مذهباً محدداً في المسيحية كالكثلكة أو اللوثرية أحببت أن تتبنى جهة بحثية عربية موضوع المشروع تنويراً للرأي العام العربي، وحثاً لأهل الحل والعقد منا على السير باتجاه العلمنة.
أرسلت المشروع بالبريد إلى جهتين عربيتين: واحدة في القاهرة هي معهد البحوث والدراسات العربية وهو معهد جليل أنشأه ساطع الحصري ودرس فيه من شخصياتنا الفكرية شاكر الفحام وعبد الكريم الأشتر وعمر الدقاق، وألقيت في رحابه عام1975 محاضرات عن العروبة في الدساتير العربية والثانية في عمان هي المركز الملكي للشؤون الدينية كذلك سلمته باليد إلى الصديق الدكتور حامد خليل رحمه الله، وهو آنذاك المدير العام لمركز الدراسات الاستراتيجية في جامعة دمشق فأما الجهة الأولى فلم تجب أما الدكتور خليل فقد هاتفني ذات يوم وأعلمني موافقة المركز على تبني المشروع وأعلمني أيضاً أني سأتلقى رسالة رسمية بالموافقة، ثم كان ما كان من أمر مرضه ورحيله المؤسف إلا أن الرسالة المكتوبة، الإيجابية في توجهها إنما أتت من المركز الملكي للشؤون الدينية وبتوقيع من؟ بتوقيع كمال الصليبي الذي كان يعمل آنذاك مديراً عاماً للمركز قالت الرسالة إن المركز لا يتبنى مثل هذه المشاريع، لكنه ينشر البحث بعد إتمامي له وانتهى أمر مشروعي البحثي عند هذا الحد إلا أن الفكرة لا تزال معي، بل معنا نحن العرب، بل يهيمن علينا حضورها هذه الأيام من تونس التي تصوغ دستوراً جديداً إلى مصر التي تحذو حذوها، إلى سورية التي قال رئيسها إن لجنة سوف تبحث في أمر دستورنا الراهن، تعديلاً أو تغييراً، وأنها سوف تنجز عملها في فترة قد لا تتجاوز عام /2011/ الحالي فلتكن إذاً هذه الكلمات بمناسبة غياب المؤرخ كمال الصليبي، فلتكن تذكيراً لمركز الدراسات الاستراتيجية في جامعة دمشق لكي ينظر مجدداً في مشروع بحثي أبلغني مديره العام شفهياً بأنه حاز الموافقة.
دمشق صلة وصل بين عمان وبيروت لكمال الصليبي أن ينتقل بين مكان عمله في عمان وبين مكان إقامته الدائم في بيروت بالطائرة أو بالسيارة ذات يوم شاء أن ينتقل بالسيارة في ذلك اليوم اتصل بي كان معه بعض أصدقائه: اثنان أو ثلاثة منهم لا أذكر.
دعوتهم إلى طعام في مكان عام فوافقوا كانت تلك جلستي الوحيدة مع الدكتور الصليبي كان يرتدي عقالاً وكوفية، كما يفعل قلة من أهلنا في الأردن وأقل منهم في سورية ولبنان كان يفيض أحاديث وحكايات مرحة وأذكر أنه أعاد على مسامع الجالسين معه حديث جهد المصالحة الذي قام به بيني وبين عباس كليدار قبل نيف وعشرين عاماً أخبرته أنني سجلت تلك الحادثة في مذكراتي عن أيام أستذتي في معهد البحوث والدراسات العربية في القاهرة.
ربما أنني وعدته بإرسال نسخة من كتابي إليه وبه تلك المذكرات ربما أنني فعلت لا أذكر.
ما أذكره، وأنا في حال تأمل وهيبة يفرضها رحيل كمال الصليبي، تلك الآية الكريمة: إنا لله وإنا إليه راجعون وشقيقتها: كل نفس ذائقة الموت، ومعها ذلك الدعاء المهيب الحزين الرصين الذي أحاط بنعش الراقد على رجاء القيامة: فليكن ذكره مؤبداً من الآن وإلى دهر الداهرين.
د. جورج جبور
المصدر: تشرين
إضافة تعليق جديد