ناهض حتر: خط الصدع في الأزمة السورية
لقد اطلعت ، بحكم نشاطي السياسي والأدبي من أجل سوريا، على 90 بالمئة من الكتابات المتعلقة بالأزمة السورية؛ وأستطيع القول إن دراسة الدكتور عقيل محفوض تتقدم هذه الكتابات، بالنظر إلى جدّتها وعمقها وقدرتها على الربط بين السياسي والفلسفي والاجتماعي والتاريخي.
الملاحظة الأساسية التي انطلقت منها الدراسة، أي "خط الصدع" ليست للدكتور عقيل، وإنما للرئيس بشار الأسد. إلا أن الدكتور عقيل لم يتعامل مع الأسد من موقع امتداح السلطة، وإنما من موقع المثقف الذي يأخذ فكرة عن مثقف، ويطوّرها ويمنحها صلبها وظلالها، ويفتح، بالتالي، حقلا جديدا في علم السياسة.
الصدع، كما هو معروف، مصطلح جيولوجي، يصف انشقاقا عميقا آيلا إلى الإنكسار. وقد تم نقل المصطلح، بعد منحه دلالاته الجديدة، إلى علم السياسة. وقد أنجز الدكتور عقيل هذه المهمة بكفاءة، ثم راح يضيء على الصدوع التي تسببت فيها الأزمة السورية على المستوى الدولي والإقليمي والعربي، ما يُرينا، نظريا وعمليا، أن الأزمة السورية هي الحدث الكوني المركزي الذي يصدع السياسة الدولية في خط مديد، ويأذن بالانتقال إلى خط متماسك جديد لم تتوضح معالمه بعد. وهذا هو، بالذات، سر الفوضى الفكرية الحاصلة اليوم في الساحة العربية.
لن أكرر هنا ، بالإيجاز المخلّ، ما عرضه الدكتور عقيل بإحاطة ودقة، مما يجعلني أقترح على المثقفين ضرورة وأهمية الاطلاع على الدراسة المنشورة طيّا.
غير أنني سأركز على عناوين الصدوع التي لم يقترب الدكتور عقيل من إضاءتها؛ فإنْ شاء وفّر علي تكرار دراسته، ووفّرتُ عليه مخاطر التقدّم لاكتشاف الصدوع الأكثر عمقا وخطرا، وخرجنا بمنتج واحد.
عناوين الصدوع الغائبة
أولا، الصّدع الحاصل في أيديولوجيا الدولة السورية؛ فالأزمة ، في استطالتها وتشعبها، جعلت من مفهوم القومية العربية مزقاً غير صالحة لإعادة لحم المجتمع السوري، أو لحم علاقاته بمحيطه. وذلك لصالح مفهومين ما يزالا غير محددين ـ في نفسيهما كما بإزاء بعضهما بعضا ـ وهما مفهوما الوطنية السورية ( في الحدود القائمة) والقومية السورية أو المشرقية التي تشمل بلاد الشام والعراق. وهذان المفهومان هما المكوّنان الأساسيان للهيمنة الأيديولوجية المستجدة في صفوف الفئات الاجتماعية المؤيدة للدولة السورية. وهو حدث تتجاهله السلطات السورية في إصرارها على الأيديولوجيا القومية العربية نصف العلمانية. وهذا التجاهل يخلق اغترابا بين الدولة ومؤيديها ستكون له نتائج وخيمة على بنية سوريا وقدرتها المعنوية بعد الحرب.
في المعسكر المضادّ، فإن الفئات المؤيدة "للمعارضة" تخلت ، بدورها، عن الأيديولوجية القومية العربية لصالح الأيديولوجية المذهبية العثمانية. وهذا الصدع العميق في المجتمع السوري هو الذي يهدد وحدة الدولة السورية بأكثر مما تهدده مؤامرات التقسيم.
ثانيا، الصدع الحاصل في تحالفات الدولة السورية بين إيران وروسيا. لقد لاحظ الدكتور عقيل، الصدع الحاصل في ما بين الحليفين نفسيهما، لكنه لم يلاحظ الصدع السوري الداخلي الناجم عن ذلك الصدع الخارجي؛ فالفئات السورية المؤيدة للدولة هي فئات علمانية أو مسلمة سنية متنورة. وفي الحالتين، فإن النموذج الاجتماعي والثقافي والأيديولوجي الإيراني لا يحظى بشعبية في سوريا. السوريون المؤيدون للدولة، بالطبع، لا يتنكرون للدعم الإيراني، ولكنهم يفضلون النموذج الروسي العلماني والمحايد طائفيا ومذهبيا. وهذا الصدع يصعد، كما لمستُ بنفسي، من قلب المجتمع إلى أعلى أوساط السلطة السورية، أي أنه صدع طولي أيضا. بالمقابل، ايران معتبرة كعدوّ لدى الفئات المعادية للدولة السورية. ومعنى ذلك أن إيران تقع، على رغم ما قدمته وتقدمه للدولة السورية، خارج المعادلة. وهو ما أدى ويؤدي إلى صدوع جديدة، خارجية وداخلية، من المستحسن متايعتها مبكرا.
ثالثا، الصّدع الحاصل في أيديولوجيا الدولة السورية في حقلي الممانعة والمقاومة؛ فليست الفئات المعادية للدولة السورية فقط هي التي غيرت موقفها من القضية الفلسطينية والصراع مع " إسرائيل"، كما يلاحظ الدكتور عقيل، ولكن الفئات المؤيدة للدولة السورية هي في موقع صدع شبيه أيضا؛ فأن تدفع سوريا، ذلك الثمن الباهظ جراء اصرارها على المواجهة المديدة مع العدو الإسرائيلي، ودعم المقاومة الفلسطينية، بينما تقوم أبرز الفصائل الفلسطينية ( حماس) بدور مبادر وفعّال وأساسي في الجهد السياسي والعسكري المعادي للدولة السورية، لا يمكن أن يمرّ مرور الكرام على الوعي الوطني السوري؛ سيما وأنه سبق لفتح وحلفائها، القتال ضد الجيش السوري في لبنان، ودعم التمرد الإخونجي أواخر السبعينيات في سوريا نفسها.
ومن خلال هذا الصدع، فإن مشروع السلام الواقعي مع العدو الإسرائيلي على أساس استرداد الجولان، لم يعد يحظى بمعارضة رئيسية في صفوق الفئات المؤيدة للدولة السورية. وهذا ، بدوره، يشكل صدعا بالغ الخطورة في تاريخ سوريا، وتجاهله ربما يؤدي إلى صدوع أخرى وصراعات داخلية مؤجلة.
رابعا، الصدع الحاصل في مجال التعددية الدينية؛ فلم يعد ممكنا، بالنسبة للعلويين والمسيحيين والاسماعيليين والدروز والأكراد .. تقبّل الإسلام، في أي من صوره؛ فقد طغت عليه صورة الطائفي الدموي / التكفيري /الإرهابي/ الحليجي. وهي صور استعادت صورا مشابهة من تاريخ الاضطهاد والقتل على الهوية والمهابدة التي مورستْ في سوريا، ودائما من طرف واحد ضد الأطراف الأخرى.
هذا الصدع يخلق صدعين، أولهما اجتماعي في صفوف مؤيدي الدولة السورية، المتشكلين من شتى الطوائف والمذاهب، وثانيهما بين عصبية الدولة وبين الخطاب الديني للدولة التي ما تزال مصرة على تظهير نوع من الاسلام المعتدل، وترفض تعديل المناهج حتى بإزاء السردية التقليدية حول الدولة العثمانية.
خامسا، الصدع الحاصل غير المظهّر الآن بين المدافعين بالدم عن الدولة السورية ـ ومعظمهم من فئات شعبية ـ وبين الفئات المستفيدة. وهو صدع طورته أزمات الحرب الاقتصادية والمعيشية والخدمية. وهو مستتر الآن، طالما أن قوى الفئات الشعبية المؤيدة للدولة تحارب، لكن ماذا بعد انقضاء الحرب؟
سادسا، الصدع الحاصل داخل حزب الله ـ وحزب الله ، في النهاية، هو منظمة سورية ـ بين الطابع الديني للحزب وبين انخراطه في الدفاع عن دولة نصف علمانية ومجتمع علماني. ولأهمية حزب الله فقد خصصتُ لمعالجة هذا الصدع كتابا كاملا بعنوان " نصرالله وقضايا التحرر الوطني"، تابعت فيه مساعي السيد حسن الجريئة لتلافي هذا الصدع بالانتقال من مفهوم المقاومة ( وهو مفهوم متصالح مع الرجعية الاخونجية كما هو الحال في التحالف مع حماس ) إلى مفهوم حركة التحرر الوطني؛ لكن جرأة السيد حسن وارتقاء وعيه السياسي لا يجدان الأصداء الكافية في بنية الحزب وقيادته وجمهوره.
ويخلق هذا الصدع صدوعا متتالية في فكر الحزب ودوره في لبنان وسوريا والإقليم.
سابعا، الصدع الحاصل في مفهوم النظام السياسي؛ فالنظام البعثي التقليدي لم يعد مقنعا للأغلبية من مؤيدي الدولة السورية؛ وبينما كان هؤلاء يتطلعون ، قبل الأزمة والحرب، إلى النموذج المسيطر للنظام "الديموقراطي" الليبرالي، فإن هذا النموذج قد سقط أيضا بسبب خيانة مثقفي المعارضة السورية للدولة والوطن وانجرارهم إلى مستنقع التكفيريين والخليج.
وكنتُ قد لاحظت، في العام 2014، الصدع الحاصل في وعي السوريين المؤيدين للدولة بين الولاء لمؤسستي الرئاسة والقوات المسلحة وبين النفور من النظام السياسي الحاكم. وقد اقترحت وقتها ، لتلافي هذا الصدع، صيغة رئاسية مستقلة عن حزب البعث، تسمح بتجديد النظام والحزب معا، إلا أنه اتضح لي أن الخوف من انكسار هذا الصدع بالذات نحو صيغة متماسكة، هو أكبر من الاقتراب منها.
وبعد،
هذه مجرد عناوين لنماذج من الصدوع الغائبة عن دراسة الدكتور عقيل محفوض. وهي دراسة لامعة وتأسيسية وتفتح حقلا جديدا للبحث أرجو أن يتحرر من كل القيود اللاجمة، ومن رُهاب الاقتراب من الصدوع الداخلية.
*آخر مقالة نشرها الشهيد ناهض حتر
إضافة تعليق جديد