نعوم تشومسكي.. النفاق الأميركي
من الصعب أن ترى نفسك كما يراها الآخرون، ومن الأصعب أن تفعل ذلك إذا كنت القوة العظمى الوحيدة المتبقية في العالم. بشكلٍ لا يضاهيها فيه أحد، تملك الولايات المتحدة اليوم القدرة على نشر قوتها العسكرية في أنحاء مختلفة من العالم، حتى ولو ان التخبط في العراق وليبيا، والأزمتين العالقتين في اليمن وسوريا، والتوجهات المقلقة في روسيا والصين، تظهر الحدود التي تقف عنها هذه القوة في التأثير على مجريات الأحداث. وفي عالمٍ متعدد الأقطاب على نحوٍ متزايد، فإن القوة الاميركية تبتعد عن القمة المهيمنة التي وصلت إليها بعد الحرب العالمية الثانية، رغم أنها لا تزال إلى اليوم منقطعةَ النظير.
يميل الأميركيون إلى التخفيف من حدة الهواجس بشأن تفوقهم العسكري من خلال تطمينات تؤكد نواياهم «الخيّرة». لكن نعوم تشومسكي أبدع في تحييد هذه الابتذالات، فهو لا يرى سوى النفاق الأميركي الذي لا يعمل سوى وفقاً لمصالحه. نعم، كانت هناك مرات قامت فيها الولايات المتحدة بأمور جيدة، لكن تشومسكي في كتابه «من يحكم العالم» يذكّرنا بلائحة طويلة من الأضرار التي يفضّل الأميركيون نسيانها. ذاكرته بمجملها سلبية في هذا الخصوص، لكنها قوية ولا يفوتها شيء.
الاستثناء الأميركي
يسترجع تشومسكي التاريخ الذي شهد على ظواهر مماثلة لميل أميركا نحو التحرك وفقاً لمصالحها في وقت تتحدث هي فيه عن مصالح كونية. فقد سبقت «الاستثناء الاميركي»، مهمةُ نشر الحضارة التي أخذتها فرنسا على عاتقها تجاه مستعمراتها، وحتى تصميم الإمبراطورية اليابانية على جعل الصين «الجنة الدنيوية» تحت وصايتها. اليوم، ينظر إلى هذه الشعارات القديمة على نحوٍ واسع على أنها مفردات مُلّطفة للاستغلال ونهب الثروات. وبرغم ذلك، يصر الأميركيون على التصديق بأن حكوماتهم تتصرف في العالم من دون مثل تلك الخلفيات الامبريالية.
لا يشكل كتاب تشومسكي مراجعةً موضوعيةً للماضي. هو مجادلةٌ هدفها إيقاظ الأميركيين من سبات الاعتداد المتخاذل بالنفس. برأيه، أميركا هي قوة تستوجب كبح جماحها، مفنداً لذلك، الأسباب بحيوية وإصرار واثقين، حتى ولو كانت التفاصيل التي استقاها من أرض الواقع انتقائية أو قليلة.
رغم ذلك، يظل من المفيد قراءة «من يحكم العالم» لأنه يُقوّض الأساطير السهلة ـ ولكن المريحة ـ التي تستخدم غالباً لتبرير التحرك الأميركي في الخارج ـ التمييز، بعباراته، ما بين «ما نمثله» و»ما نقوم به». آراؤه لا يحملها فقط النُقاد الأميركيون اليساريون، بل أيضاً كثرٌ من الأشخاص حول العالم ينظرون على الأرجح إلى أنفسهم على أنهم أهدافٌ للقوة الأميركية، وليسوا محميين بها.
على سبيل المثال، فإن الأميركيين روّعتهم عن حق هجمات الحادي عشر من أيلول 2011 التي نفذها تنظيم «القاعدة»، والتي ذهب ضحيتها حوالي ثلاثة آلاف شخص، ولكن معظمهم تناسوا ما يصفه تشومسكي بـ «11 أيلول الأول» ـ 11 أيلول 1973 ـ حين دعمت الولايات المتحدة انقلاباً عسكرياً في التشيلي أوصل إلى السلطة الجنرال أوغستو بينوشيه، الذي قام بإعدام ثلاثة آلاف شخص. وكما بالنسبة إلى سياسة أميركا في كوبا وفيتنام، فإن الإطاحة المدعومة اميركياً بالحكومة اليسارية للرئيس التشيلي سالفادور اليندي كانت تهدف، بحسب عبارات إدارة الرئيس الأميركي آنذاك ريتشارد نيكسون، إلى قتل «الفيروس» قبل أن «ينتشر» بين أولئك الذين لا يريدون استيعاب مصالح النظام العالمي بقيادة بلاده. «الفيروس»، يكتب تشومسكي، «كان الاحتمال بأن يحصل مسار برلماني يوصل إلى نوعٍ من الديموقراطية الاشتراكية».
إرهاب حميد
يهاجم تشومسكي الاستغلال السهل من قبل الولايات المتحدة لوسم «الإرهاب» لوصف أفعال أعدائها، ولكن ليس أصدقائها. هكذا، يتساءل في كتابه لماذا أدانت التفجير الذي استهدف «المارينز» في بيروت في العام 1983، واعتبرته «إرهابياً»، علماً أنها لم تصف كذلك مجزرة صبرا وشاتيلا التي نفذها في العام 1982 حزب «الكتائب» اللبناني بدعم اسرائيلي؟ السبب، يسخر الكاتب، هو أن «إرهابنا، حتى ولو كان إرهاباً مؤكداً، هو إرهاب حميد»، وهو تبرير خطير برأيه، لأن معظم الحكومات، وحتى الجماعات، ومنها تنظيم «داعش»، يعتقدون أنهم يتحركون لتنفيذ رؤية خيّرة.
في الشرق الأوسط، يركز الكاتب بالأخص على النفاق الأميركي في ما يتعلق بإسرائيل. كما يخصص فصلاً للحديث عن «الغضب الأميركي الانتقائي». الأميركيون غضبوا لحادث إسقاط الطائرة الماليزية في شرق أوكرانيا، من قبل قوات مدعومة من روسيا كما بدا، ما أدّى إلى مقتل 290 شخصاً. ولكن من يتذكر حادثة اسقاط طائرة إيرانية مدنية في العام 1988 بواسطة صاروخ أرض ـ جو أطلقه الطراد الأميركي «يو أس أس فينسين» الذي كان يرابط في مياه الخليج لحماية الديكتاتور العراقي صدام حسين؟
ليس من العدل تحدي كاتب بما لم يكتبه عوضاً عما كتبه، ولكن باعتبار ان عنوان الكتاب هو «من يحكم العالم؟»، لا بد من التوقف عند «العالم القليل» الذي ناقشه كاتبٌ بدا غير مهتمٍ بجزء آخر من العالم لا تمارس فيه الولايات المتحدة قوتها، وحيث تبدو غير قادرة على إحداث فرق (جنوب السودان، بوروندي...).
يختم تشومسكي بسؤالٍ آخر يرد فيه على عنوان كتابه. أكثر ممن يحكم العالم، يجب أن نستعلم حول «أي المبادئ والقيم تحكم العالم؟». أخيراً، هو لا يقدم الكثير كوصفة للعلاج، وكأنه يستحيل عليه تصور دورٍ إيجابي لأميركا غير الأدوار المضرة التي يسلّط الضوء عليها.
(*) أجزاء من مقالة كينيث روث الصادرة في The New York Review of Books، عدد 9 ـ 22 حزيران 2016، حول كتاب نعوم تشومسكي الجديد «من يحكم العالم»؟
دانيا قانصوه
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد