نفط سوريا يضيع ومعه فرص نهوضها
لم تكن يوماً كمية الذهب الأسود في سوريا كبيرة لدرجة يسيل معها لعاب المجتمع الدولي ويضع خططاً للتدخل وتقاسم الحصص على غرار ما حصل في العراق وغيره من الدول، لكنه شكل في المقابل أحد أبرز أعمدة الاقتصاد السوري لفترة طويلة. وهو ما دفع الاتحاد الأوروبي لفرض عقوبات على شراء النفط بهدف إضعاف قدرة السلطة، وبالتالي تسهيل إسقاط النظام.
الواقع على الأرض اليوم يفتح تساؤلات كثيرة حول حقيقة الثروة النفطية وتموضعها في إحدى أكثر جبهات القتال سخونة، أي الجزيرة السورية. هكذا تصبح الحقول والأنابيب هدفاً لضربات الجيشين النظامي و«الحر»، ومعها ستتعرض مواقعه للسرقة على أيدي عصابات مختصة بالتهريب للخارج، ناهيك عن تسربه للأراضي الزراعية أو احتراقه للتدفئة، لتكون المحصلة ضياعاً لثروة قد تسهم في إعادة إعمار البلاد بعد انتهاء كابوس الدم والنار.
وتتوزع حقول النفط في سوريا على ثلاثة مواقع أساسية: الأولى في شمالي شرقي البلاد في السويدية والرميلان، والثانية في حوض الفرات في حقول عمر والتيم، حيث يقع أكبر مخزن للنفط الخفيف، والثالثة في مساحات بادية الشام حيث يعود البحث والتنقيب عن النفط إلى ثلاثينيات القرن المنصرم، فيما بدأ ضخ النفط في الستينيات. وكانت الدولة قد حصرت العمل بشركاتها الحكومية قبل أن تعود وتسمح لشركات أجنبية بالعمل معها في الثمانينيات، وهي الشركات التي علّقت حالياً عملياتها في سوريا بموجب العقوبات الأوروبية.
في المقابل، في البلاد محطتان للتصفية في كل من حمص وبانياس التي تمر إليها خطوط أنابيب النفط العراقي، أما بالنسبة للغاز، فبالإضافة لعمليات البحث في البادية ووادي الفرات، تبدو مناطق الساحل السوري موقعاً قد يكشف عن احتياطي هائل للغاز بحكم الاكتشافات التي تظهر في سواحل قبرص وتركيا ولبنان وفلسطين. وبرغم كل هذا، فإن أزمة وقود خانقة تعصف بالبلاد منذ أكثر من سنة، ووفقاً لتقرير صادر عن مجلس الوزراء في آب الماضي فقد وصلت صادرات سوريا من النفط إلى الصفر وانخفض إنتاج الغاز الطبيعي من 834.09 مليون متر مكعب في تموز إلى 818.9 مليون متر مكعب في آب، وبنسبة تراجع وصلت إلى 1.09 في المئة. أضف إلى ذلك الخسائر المالية الناتجة من حرق الآبار وتدمير الأنابيب وتراجع التصدير، حيث تشير التقديرات إلى خسائر تصل إلى أكثر من خمسين مليون دولار من دون أن تتمكن الحكومة من التعاقد مع شركات بديلة من تلك التي علقت عملياتها أو حتى إيجاد أسواق بديلة للتصدير، برغم الحديث عن تعاون مع إيران وروسيا وبلاروسيا في هذا المجال.
وإذا كان هذا هو حال التنقيب والتسويق للذهب الأسود، فإن الحقائق على الأرض توحي بكارثة متعددة الجوانب تضرب مناطق الحقول والأنابيب، وخاصة في وادي الفرات والجزيرة حيث تدور اشتباكات بين الجيش النظامي و«الجيش الحر». وقد نجح الأخير في السيطرة خلالها على عدة مواقع نفطية، خاصة في ريف دير الزور، فيما كانت الأنابيب وخطوط النقل هدفاً أساسيا لعمليات تفجير بدأت منذ أكثر من سنة ونصف، حين لم تكن المواجهات المسلحة قد اندلعت بين الطرفين.
من جهة أخرى، تحدث الكثير من أهالي الريف عن حرائق ضخمة شهدتها تلك المناطق، بالإضافة الى تسرب النفط إلى الأراضي الزراعية، وهو ما سبّب كارثة زراعية وبيئية تُضاف إلى سجل كوارث المنطقة. وأيضاً، كان النفط المتسرب بدوره هدفاً لعمليات سرقة وتهريب تقودها عصابات نجح العديد من ناشطي المنطقة في توثيقها، برغم التشدد المرافق لمثل هذه السرقات.
ما سبق يتحدث عنه الكثير من الناشطين وسكان المناطق القريبة من حقول النفط، ويخبرون عن قيام عصابات بمحاصرة موقع للذهب الأسود وتحديداً خطوط الأنابيب، ومن ثم تفجيرها أو السيطرة على منطقة قد تسرب النفط بالأساس فيها، لتقوم بتعبئته بصهاريج ثم تهريبه لبيعه في مناطق أخرى. كما ينقل الأهالي أخباراً عن اشتباكات تجري بين هذه العصابات و«الجيش الحر»، الذي يسيطر على أجزاء واسعة من ريف دير الزور وكذلك الرقة وينفي أي صلة له بهذه المجموعات.
ومع ذلك، وبحسب ناشطين في المنطقة، ما زالت العديد من خطوط النفط تعمل في المنطقة وبعضها يعمل بحماية مقاتلي «الجيش الحر»، فيما توقفت أخرى عن العمل. وبينما نجح الأهالي في بعض المناطق في استخدام النفط المتسرب بالتدفئة، اكتشفوا لاحقاً آثاره الضارة والأبخرة المسرطنة التي فاقمت المشاكل الصحية، لكنه يبقى خياراً لا يمكن استبعاده في ظل جنون البرد الذي يعصف بالمنطقة وغياب باقي موارد التدفئة والكهرباء عن معظم أرجائها.
ووسط كل ذلك، ترتسم في النهاية صورة عن ضياع ثروة لا تعوم سوريا على بحرها، ولكنها كفيلة بكل تأكيد بتأمين مورد هام لإعادة إعمار البلاد في السنوات المقبلة.
النفط بلغة الأرقام:
خسائر بالجملة
إذا كان الواقع على الأرض يشي بتهريب وسرقة الذهب الأسود ووفاة العشرات بسبب أبخرته السرطانية، فإن لغة الأرقام والحسابات بالنسبة لأهل النفط والطاقة تكشف عن حقائق بالغة الخطورة. ويظهر ذلك وفقاً لأرقام صادرة عن وزارة النفط والثروة المعدنية في سوريا، والتي صدرت في تقرير نشر في الإعلام الرسمي، حيث كشف معاون وزير النفط حسن زينب النقاب عن خسائر فادحة تفيد بأن قطاع النفط من أكثر القطاعات التي تضررت بفعل الأعمال الإرهابية للمجموعات المسلحة من سرقة وتخريب وتفجير واعتداءات، مشيراً إلى أن المواطن هو المتضرر الوحيد من ذلك. وقد بدا ذلك واضحاً في أزمة الغاز والمازوت، وهما المادتان اللتان زاد الطلب عليهما بالتزامن مع حلول فصل الشتاء وحاجة المواطن للتدفئة، كما تأثر قطاع الكهرباء نتيجة صعوبة إيصال النفط والغاز إلى محطات التوليد، ما أدى إلى زيادة عدد ساعات التقنين وانقطاعات متكررة للطاقة الكهربائية.
وبيّن معاون الوزير أن هذه الأرقام تقديرية وليست نهائية إذ هناك مواقع لم تصل منها تقارير عن حجم الأضرار بوضوح، إلى جانب أن عملية التقدير للأضرار في مواقع أخرى لم تكشف عنها لجنة مختصة، ومن جانب آخر، وحتى الأرقام التي تم حصرها فهي لا تشير إلى الحجم الحقيقي للخسائر، إذ أنها مقدرة بحسب سعر زمن الشراء، أي بالقيمة الحقيقية للمواد والتجهيزات والآليات حين شرائها. ومن المعروف أن الأسعار تتغير صعوداً وبعض التجهيزات تضاعفت أسعارها مرات عدة عما كانت عليه سابقاً. كما يشير معاون وزير النفط إلى أن الأرقام تتحدث عن خسائر هائلة مُنيت بها شركات النفط والغاز وأهمها الشركة السورية للنفط، التي وصلت خسائرها إلى 374.2 مليون ليرة، فيما تقدر خسائرها الناجمة عن تأجيل الإنتاج في حقولها إلى 216.5 مليار ليرة. وتقدر خسائر شركة محروقات لتوزيع المشتقات النفطية بأكثر من 1.4 مليار ليرة، وخسائر الشركة السورية لنقل النفط بأكثر من 1.5 مليار ليرة، و567.6 مليون ليرة خسائر الشركة السورية للغاز، و42.6 مليون ليرة أضرار وخسائر أصابت المؤسسة العامة للجيولوجيا. أما بالنسبة لمصفاتي حمص وبانياس، فبرغم أن الخسائر المقدرة لكليهما قليلة نسبياً إلا أن الخسائر أكبر من ذلك بكثير وذلك بسبب التوقف عن أعمال التكرير للنفط بسبب ضرب وتفجير الخطوط والأنابيب الواصلة من الحقول وتخريب أجزاء منها، حيث نجد أن الخسائر المقدرة في مصفاة حمص لا تتجاوز 16 مليون ليرة، أما في مصفاة بانياس فلا تتجاوز مليوني ليرة.
طارق العبد
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد