هجمات باريس وخيار التدخل العسكري الأطلسي في سوريا

19-11-2015

هجمات باريس وخيار التدخل العسكري الأطلسي في سوريا

عندما يقول الرئيس الفرنسي، خلال ثاني كلمة له خلال 24 ساعة، إن هجمات باريس هي «عمل حرب نفذه جيشٌ إرهابي، جيشٌ جهادي، من قبل «داعش»، ضد فرنسا»، فهذا يفرض علينا أن نتوقع عملاً حربياً انتقامياً، ولا مسرحَ مؤهلا لمثل هذه الأعمال الحربية الانتقامية مثل المسرح السوري.
لا تملك فرنسا أن تتجنب الرد العسكري، كما فعلت الحكومة الإسبانية بعد تفجيرات قطارات مدريد في آذار 2004، وهو العمل الإرهابي الوحيد في القارة الأوروبية الذي يماثل دموية هجمات باريس. فالرأي العام الإسباني يومها كان ممتعضاً أساساً من المشاركة الإسبانية في حرب العراق 2003، وربما كان هذا أحد أسباب خسارة حزب خوسيه ماريا أزنار للانتخابات، التي جرت بعد ثلاثة أيام على التفجيرات، ولم يكن رئيس الوزراء الإسباني الجديد بالمتحمس لتكرار خطأ سلفه. كما أن تنظيم «القاعدة» يومها، بعد غزو أفغانستان، كان قد تحول إلى شبح أو تنظيم زئبقي لا يمكن تحديد مواقع وجوده بدقة ناهيك عن توجيه ضربة عسكرية، أخرى، له. كما أنه لم يكن هناك ما يوحي أن تفجيرات مدريد يمكن أن تتكرر، وهذا ما أراح الحكومة الإسبانية من ضغوط البحث في خيارات الرد.
ولكن في فرنسا، كان هناك، خلال الأشهر الماضية، محاولات فاشلة عدة لتنفيذ أعمال إرهابية. والرأي العام الفرنسي قد أصبح مقتنعاً بأن هذه الهجمات ستتكرر. وقد كان هناك تحضير للرأي العام الفرنسي لتقبل هذا الواقع. فقد نشرت صحيفة Le Canard enchaîné الفرنسية في شهر آب الماضي تحقيقاً تضمن تصريحاتٍ لمصادر في وكالة المخابرات الداخلية الفرنسية، ملخصها أن الحظ فقط أنقذ فرنسا، حتى ذلك الحين، من عمليات إرهابية تفوق دموية الهجوم على صحيفة شارلي ايبدو، وأن «هناك مخاوف من 11 أيلول/سبتمبر فرنسي تكون فيه أجهزة المخابرات الفرنسية مجرد متفرج».
وسط هذه الأجواء الداخلية المحتقنة، ووسط ما يبدو أنه عجز مخابراتي فرنسي، يبدو أن لا مفر من عملٍ عسكري في الخارج. والأكيد أن عملاً عسكرياً محدوداً على نمط ما قامت به إدارة الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون، بعد التفجيرات التي استهدفت السفارتين الأميركيتين في تنزانيا وكينيا، ليس بذي معنى أبداً. فمواقع تنظيم «داعش» تتعرض منذ أكثر من عام لضربات عسكرية تفوق ما تعرضت له مواقع القاعدة في أفغانستان في آب 1998، ولم يظهر سوى أن التنظيم قد أصبح أكثر قدرةً على مد أذرعه أبعد من السابق، وبشكل أكثر تنظيماً ووحشيةً. لا بد إذاً من ردٍ عسكريٍ أوسع نطاقاً وأعمق تأثيراً.
مقارنةُ دموية هجمات باريس بهجمات 11 أيلول تفرض توقع رد فعلٍ مماثلٍ لرد الفعل الأميركي يومها. ولكن لا بد من التذكير بأن رد الفعل الأميركي قد مر يومها من بوابة «حلف الأطلسي» والمادة الخامسة من ميثاقه التي تنص على أن أي عدوانٍ مسلح ضد أي من أعضاء الحلف سيُعتبر هجوماً على كل أعضاء الحلف الذين سيستخدمون حق الدفاع عن النفس بشكل جماعي. المفارقة هي أن هذه المادة التي صيغت منذ 66 عاماً، لمواجهة الاتحاد السوفياتي، لم تطبق سوى مرةٍ واحدةٍ فقط وذلك في أعقاب هجمات 11 أيلول 2001. يمكن إذاً لفرنسا أن تشعر بالطمأنينة إذ إن ميثاق «حلف الأطلسي» يحميها ويضمن لها العون الذي قد تحتاجه في ردها العسكري المحتمل.
المادة الخامسة تضمن رداً منسقاً ولكن ليس بالضرورة الحرب الشاملة. وتبقى الحقيقة أن «حلف الأطلسي» يواجه محدودية الخيارات نفسها التي تواجهها فرنسا. فكما أن الرد العسكري المحدود لا فائدة له، كذلك لا يوجد في «حلف الأطلسي» من هو متحمس لعملية واسعة تضع جنود الحلف على الأرض في مواجهة تنظيم «داعش»، سواء في العراق أو سوريا. والوضع السياسي المعقد في العراق والذي جعل الولايات المتحدة ترفض تقديم الدعم العسكري للقوات العراقية في انتظار حصول تغييرات سياسية معينة ترغب بها الولايات المتحدة هناك، غالباً ما سيدفع فرنسا و «حلف الأطلسي» أيضاً إلى تجنب التدخل في العراق. وهكذا يصبح الميدان السوري هو المرجح ليشهد الرد الأطلسي.
وفي الميدان السوري يبدو الخيار المفضل دائماً هو تسليح مجموعات محلية تقاتل تنظيم «داعش» على الأرض وتستفيد من الغطاء الجوي الأطلسي، الذي يفترض أنه سيكون أقوى من السابق، ولا سيما مع توجه حاملة الطائرات الفرنسية شارل ديغول إلى المنطقة. إلا أن المشكلة الرئيسية التي تواجه هذا الخيار هي أن القوة المحلية الرئيسية التي يمكن أن تتصدى لهذه المهمة هي وحدات «حماية الشعب» الكردية، التي تشكل اليوم عماد ما يعرف «بقوات سوريا الديموقراطية». فمن ناحية أولى يستبعد أن يكون الأكراد متحمسين للقتال أبعد من مدينة الحسكة حيث لا يوجد أي تجمعات بشرية كردية، فضلاً عن أن الطموح الكردي اليوم هو للتوجه غرباً إلى جرابلس وعفرين، وليس جنوباً إلى معاقل «داعش» الكبرى في الشدادي والرقة. ومن ناحية أخرى، أكثر أهمية، يستبعد أن تحظى خطة أطلسية تمنح دوراً رئيسياً للأكراد بموافقة تركيا. قد تجد هاتان المشكلتان حلاً في «جيش سوريا الجديد»، الذي يمثل محاولة إحياء لـ «جبهة الأصالة والتنمية»، الإخوانية والمحسوبة على تركيا، والتي كانت تملك يوماً نفوذاً كبيراً في شرق سوريا، قبل أن يطردها تنظيم «داعش». ولكن هل ستتم تهيئة هذه القوات بالحجم الكافي وفي الوقت المناسب؟ حتى الآن يبدو هذا مستبعداً ما لم يكن هناك تفاصيل خفية حول الحجم الحقيقي لتدريب المقاتلين السابقين الذين سيطروا في السابق على شرق سوريا.
قد يكون الخيار البديل، والأسرع، هو منح الغطاء الأطلسي لتركيا للتدخل في الشمال السوري. ومن الصدف الغريبة أن صحيفة «يني شفق» التركية تحدثت، قبل أيام فقط، عن تفاصيل خطة للتدخل العسكري التركي في الشمال السوري، في النصف الثاني من كانون الأول المقبل، لمواجهة تهديدات تنظيم «داعش» و «حزب العمال الكردستاني». وذكرت الصحيفة أيضاً أن الخطة تعتمد على الحصول على غطاء أميركي ضروري. الخطة التركية ليست الأولى من نوعها، وقد طلبت تركيا دعم «حلف الأطلسي» غير مرة ولكن من دون جدوى. ربما أصبحت الظروف مهيئة الآن لتحصل تركيا على مثل هذا الدعم، إذا ما طلبت فرنسا استخدام المادة الخامسة من ميثاق الحلف.
ولكن إن كانت الأزمة السورية قد علمتنا شيئاً، فهو أنها أزمة ديناميكية، تؤثر فيها قوى نشطة للغاية. حيث لا تزال روسيا تحاول ضم الأكراد في الشمال السوري تحت مظلة الحلف الروسي لمحاربة الإرهاب، وإذا ما نجحت روسيا في ذلك، أو نجحت في تأمين موطئ قدم لقواتها في محافظة الحسكة، كما تشير الأنباء المتداولة حول زيارات للعسكريين الروس لتلك المنطقة، فهذا سيعيق بشكل جدي مشاريع التدخل البري في الشمال السوري. وأيضاً بينما كانت فرنسا تدرس خيارات الرد «العديم الرحمة»، كما وصفه هولاند، اتفق لافروف وكيري على بيان جديد لحل الأزمة السورية ينص على حل للأزمة السورية يقوده السوريون يبدأ بحكومة مشتركة تصيغ دستوراً جديداً، ثم انتخابات رئاسية وبرلمانية خلال 18 شهراً. ولكن التفاوض بين الحكومة السورية والمعارضة، وفق هذه الخطة، لن يبدأ حتى بداية العام القادم، أي بعد شهر ونصف تقريباً، وهذه فترة غير قصيرة في ظل هذه الأحداث المتسارعة. يبدو إذاً أن جميع الأطراف في سباق مع الزمن أكثر من أي وقت مضى.

محمد صالح الفتيح

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...