هل القصة في سوريا فن مخذول معزول و محتقر ؟

16-08-2007

هل القصة في سوريا فن مخذول معزول و محتقر ؟

كانت القصة القصيرة في سورية فناً يعتد به، فأهم الكتاب السوريين الذين لمعوا في ما بعد ثلاثينات القرن العشرين، وهي الفترة التي بدأ فيها هذا الفن بالانتشار التصاعدي، كماً ونوعاً، بدأوا بكتابة القصة القصيرة، ونذكر منهم: علي خلقي، فؤاد الشايب، علي الطنطاوي، عبد السلام العجيلي، مواهب كيالي، حسيب كيالي، سعيد حورانية، حنا مينه، شوقي بغدادي... إلى أن وصلنا إلى جيل زكريا تامر، جورج سالم، محمد حيدر، صباح محيي الدين، عبد الله عبد، حيدر حيدر، محمد كامل الخطيب، ثم العشرات الذين يصعب عدهم. قسم من هؤلاء، ظل مخلصاً لكتابة القصة، وعلى رأسهم الكاتب القصصي الكبير زكريا تامر، وقبله سعيد حورانية، وآخرون جذبتهم الرواية إلى أن غدوا روائيين! لكن ما سبب انحسار القصة القصيرة، بعد أن كانت فناً رائجاً تزهو به الصحف والمجلات آنذاك، وتقام له الجمعيات والمنتديات، كما يبين تاريخ القصة السورية، وقد كتب فيه الكثير؟! ويلاحظ الكثيرون اليوم انحساراً وتراجعاً في الاهتمام بالقصة، وقد غدت كتب القصة، بشهادة العديد من أصحاب المكتبات من الكتب الكاسدة التي لا يكترث بها القراء إلا في حالات نادرة واستثنائية، حتى لتبدو القصة وكأنها فن مخذول، من قبل أغلب كتابها أو أعلامها الأحياء الذين بمعظمهم هجروها إلى الرواية أو إلى فنون أخرى. وهؤلاء جميعاً يعترفون بانحسار القصة، لكنهم لا يريدون إعلان موتها، وعلى العكس ينظرون إليها بحنين، وأمل بالعودة على البدء.
لكن الشاعر شوقي بغدادي، الذي بدأ قاصاً، يذهب إلى ما ذهب إليه بعض الفرنسيين مستندين إلى استطلاعات، خلصوا منها بأن القصة القصيرة فن مرذول ومحتقر، وأن فنوناً أخرى حلت محله هي أقدر منه على مماحكة الواقع بكل أبعاده، ولا سيما الرواية بشكل خاص! وبغدادي يرى ان هذا التراجع شامل على مستوى آداب العالم.
الناقد والقاص عبد الله أبو هيف، وله كتب كثيرة في القصة القصيرة، يرى أن الفن القصصي في سوريا قد تطور كثيراً، وتنوعت اتجاهاته التأصيلية والتحديثية، ويجد اهتماماً واسعاً عند الباحثين والنقاد والأكاديميين بما يليق بهذا التطور اللافت للنظر كماً ونوعاً.
وحين داهمنا الناقد والأكاديمي الأردني نبيل حداد، من جامعة إربد والذي يزور دمشق، بسؤال: هل تعتقد أن القصة القصيرة فن يموت؟ أجاب: ليس إلى درجة الموت، إذ لا يوجد فن يموت، حسب اعتقاده، ولكن يعتقد أيضاً، بل يجزم أن الزمن الحالي هو زمن الرواية. إذ الرواية تخاطب روحاً جماعية تفتقد إليها القصة التي تعزل نفسها بنفسها، بسبب فرديتها المفرطة. ويقول إن القصة القصيرة لها حضور جيد في الأردن، وينوه بظاهرة القصة القصيرة النسوية، ويذهب إلى أن 90% من كتاب القصة في الأردن من النساء!
ولكن إغواء السوق، بحسب رأي الناقد جهاد نعيسة، هو الذي يجعل الكتاب يتجهون نحو الرواية بشكل محموم، ويرى نعيسة أن معظم كتابنا هم قصاصون جيدون، ولكنهم تخلوا عن كتابة القصة ليصيروا روائيين. وفي اعتقاده أن هذا خطأ فادح، وهو يرى أن الراحل عبد السلام العجيلي قاص جيد، ولكنه ليس روائياً بنفس المستوى، وكذلك الأمر بالنسبة للقاص الراحل عبد الله عبد الذي تورط وكتب رواية واحدة غير موفقة، وينطبق هذا على حسن حميد وآخرين. هم قصاصون موهوبون، وموهبتهم أقل في الرواية.
القاص أحمد اسكندر سليمان، المتحمس للقصة وصاحب كتاب "موسوعة القصة السورية" يجزم بأن القصة فن لا يموت، وليست بحاجة لتأكيد حياتها من خلال المهرجانات والمسابقات والجوائز، بل هي بحاجة لمجلات متخصصة، ولفعل نقدي مواز. وهي بحاجة إلى توثيق أكبر من قبل مؤسسات متخصصة، لأنه في النهاية، ما فعله كتاب القصة (كجماعة) متناثرة في الوطن العربي، ولو كان وصولهم قليلا، هو أهم بكثير مما فعله اكبر روائي أو أكبر شاعر عربي. فمن خلال آلاف القصص وآلاف الحالات والنماذج والطرق والحبكات السردية، بما لا يعد ولا يحصى، استطاع هؤلاء أن يفعلوا شيئاً مهماً للغاية على مستوى إضاءة مساحات لا يمكن أن يصلها أي شكل إبداعي آخر. ويقول أحمد اسكندر: منذ 1931 إلى 1995 هناك أكثر من ألف مجموعة قصصية في سوريا،إذا قلنا كل مجموعة طبعت ألف نسخة، هناك مليون نسخة تستبطن كثيراً من الشخصيات والحالات والمواضيع والمشكلات، استطاعت إغناء المجتمع السوري وقدمت للدارسين الكثير من الحالات القابلة للتحليل، مما يدفع بالمجتمع إلى الأمام. ويرى احمد اسكندر أيضا أن القصة فن مدني بامتياز، إذا ميزنا القصة عن الحكاية. نجد ان الحكاية شفوية، أما القصة فهي تبنى بأدوات الكتابة ذاتها، وبالتالي فهي فن مدني بامتياز. وسوف تحتاج الحركة الاجتماعية المأسورة بحالتها (الما قبل) مدنية. إلى الكثير من أفعال القص ومهارة القصاصين للمساعدة على الانتقال إلى الحالة المدنية. ومن الحالات الما قبل مدنية، ما حدث في العراق عند نهب متحف بغداد! (والكلام للقاص أحمد اسكندر).
في عقد التسعينات، صدرت في سورية 529 مجموعة قصصية. ولعل هذا الرقم يشير إلى حيوية فن القص. واليوم يتعايش في سورية ثلاثة أجيال من كتاب القصة، كما تكون منذ الخمسينات وازداد اتساعاً فن القصة الساخرة. ومنذ بضع سنوات احتفت الصحافة بظاهرة جديدة بدأت تنتشر وتأخذ طابعاً تجمعياً، وهي ظاهرة (القصة القصيرة جداً ).
القاص بشار خليف يعتقد أن فن القصة القصيرة على امتداد العالم العربي أصابه، منذ عشرين سنة، شيء من الهمود ولم ينجده الألق الذي صادرته الرواية التي فرضت وجودها في عالمنا الأدبي، حتى أن الرواية يشوبها الآن شيء من الهمود أيضاً. وهذا عائد فيما يعتقد بشار خليف، إلى اختلال القيم والمعايير والمنظومة الفكرية التي راهنت عليها الرواية والقصة القصيرة. ويرى خليف أن العولمة من جهة، وامتداد الفكر الديني المتطرف في بعضه، كما سقوط الفكر القومي واليساري، وانبثاق الشعور الوطني لكل بلد عربي- والمتواطئ بشكل من الأشكال مع الأفكار السلفية الرائجة - كل هذا أدى إلى شرخ في العالم الأدبي العربي إن كان في الرواية أو في القصة أو في الشعر. كما يرى خليف، أن عالم المعلوماتية أخذ يفرض نفسه، ما يتوقع نشوء نمط جديد من الروايات والقصص التي تأخذ عالم الإنترنت إلى الورق "بنات الرياض" نموذجاً. ولكن مع كل هذا، يقول خليف، يبقى للقصة القصيرة حيزها إن كان على المستوى الشخصي للكاتب أو مستويات من الدوائر الضيقة التابعة لهذا الفن. إذاً المسألة بنيوية تدخل في صميم التغيرات التي تضرب المجتمعات العربية، من ترنح بين رفض العولمة ورفض السلفية في آن واحد، ومحاولة إيجاد نبرة ونظرة جديدة إلى وظيفة الأدب.
أما القاصة الأردنية نضال حمارنة التي تعيش في سورية منذ سنوات، وصدرت لها مجموعتان قصصيتان وتنشر قصصاً في الصحف والمجلات العربية، ترى حمارنة أن القصة فن حداثي بامتياز، وما زال قابلاً للحياة وبقوة لأنه إبداع يجدد نفسه باستمرار وبزمن قياسي مقارنة بالشعر والمسرح والرواية.
أما كتاب القصة القصيرة، كما ترى نضال حمارنة، فهم اكثر مبدعي العالم تمرداً على مقررات النقاد، وتقول: لأكون أكثر دقة فإن الأجيال الجديدة استطاعت تجاوز معايير النقاد، وقدمت أنماطاً وأشكالاً فنية لافتة، حولت التفصيل، اللحظة إلى شهقة. كما أن القصة ما زالت رافداً مهماً إلى جانب الرواية لفن السينما.
وتقول حمارنة: أستطيع التأكيد أن الأصوات الجديدة من كاتبات القصة في الأردن اللواتي ظهرن في العقد الأخير من القرن الماضي، استطعن التعبير بالأشكال الفنية الجديدة عن المتغيرات في الواقع الاجتماعي بعمق.من الواضح أن الجميع يحبون هذا الفن الذي ولد وترعرع في أحضان الصحافة، لكن في مرحلة ما تخلت عنه أو تمرد عليها، وربما شطح بعض كتابه في التجريب والشكلانية مما جعله يبتعد وينعزل!
وانطلاقاً من واقع القصة هذا الذي لا ينكره أحد ممن نعرفهم أو تحدثنا معهم، إلا انه من الصعب عليهم الاعتراف بموت القصة لما لها من حضور وجداني رسخه كتاب كبار عالميون وعرب أيضاً.

ناظم مهنا
المصدر: الشرق الأوسط

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...