هل هو "دستور روسي" أم "بضاعة رُدّت"؟!
تمخضت اجتماعات أستانة عن حدثٍ مفاجئ وخارج السياق، تمثل في إعلان وفد المجموعات المسلحة أن الدولة الروسية قدمت لهم مسودة مشروع دستور، وأنهم رفضوا استلامه، لم يصدر بالمقابل أي شيء عن الوفد الحكومي بهذا الشأن، الأمر الذي فتح الباب على مِصْرَاعيْهِ، لإطلاق النقاش حول هذا الموضوع.
"ما قصة هذا المشروع الروسي"، وهل هو مشروع "روسي" فعلاً؟ سبق لجريدة "الأخبار اللبنانية" أن سربت بعض نقاطٍ لما أسمته دستوراً روسياً (العدد 2893 تاريخ 24/05/2016)، كما تناولت الموضوع نفسه جريدة رأي اليوم الإلكترونية بتاريخ 24/05/2016. أثار الأمر حينها زوبعةً حادةً من النقاشات، نفت روسيا على إثرها بوساطة وكالة "سبوتنيك" أن يكون المشروع روسياً، ونسبته إلى معهد كارتر، حيث إن المعهد المذكور كان قد نظّم عدة ورشات عمل حول موضوع الدستور بحضور شخصيات معارضة وموالية، قامت بذلك أيضاً "الإسكوا" التي أدارت عملاً شاملاً حول مستقبل سورية بما فيه موضوع الدستور بدءاً من المبادئ المؤسسة له مروراً بعملية صنعه وصولاً إلى جندرته.
النفي الروسي وتلاحق الأحداث غيّبا النقاش حول موضوع الدستور، الذي أتى بالأساس في سياق العمل على تنفيذ الأجندة الزمنية للقرار (2254) التي تقضي بوضع دستورٍ جديد بحلول آب 2016، تليه انتخابات في غضون عام من ذلك. بيّنت تطورات الأحداث لا واقعية هذا الجدول الزمني وعدم قابليته للتطبيق.
أعادت أستانة "بعث" المشروع؛ لم تنف روسيا هذه المرة الأمر؛ لكنها قالت: إنها مجرد أفكار مطروحة للنقاش، وضعت بالاستناد إلى مشاورات مع أطراف سورية عديدة، وقامت قناة روسيا اليوم بنشر المسودة الكاملة له.
يثير الأمر من حيث الشكل مسألتين في غاية الأهمية في الشكل والمضمون، فمن حيث الشكل: شكّل الأمر صدمةً تمثلت في تصدي طرفٍ خارجي لتقديم مشروع دستور، حتى في حالة الانتداب والوصاية والاحتلال، كان أهل البلد المعنيون يشاركون في صياغة دستورهم، وهو يمر بعملية طويلة معروفة المراحل والإجراءات، فهل فعلها الروس وتولوا نيابةً عن السوريون كتابةَ دستورهم؟ باعتقادنا أن المسألة تتعلق بالإخراج ليس أكثر، والروس فاشلون بامتياز في هذه الصنعة قياساً بهوليود؛
أما من حيث المضمون: فلا يبدو أنه صناعةٌ روسية خالصة بقدر ما هو حياكةٌ روسية رديئة الصياغة وضعيفة الخبرة لما دأبت على طلبه المعارضة السورية من اللامركزية التامة إلى فصل السلطات وإعادة هيكلة الجيش، وصولاً إلى تقليص صلاحيات الرئيس وحماية حقوق الأقليات ... إلخ، فإذا ما جمعت هذه الخيوط مع هواجس الدولة السورية والموالين لها في الحفاظ على وحدتها وسلامة أراضيها وجيشها وصلاحيات مقام الرئاسة التي ليست مطلوبةً لذاتها إلا بقدر ما تخدم الهدف الأول. وإذا ما أضيف إلى ذلك الإطار الأممي ومضمون القرار (2254)، سنجد أن مشروع الدستور المقدم هو جمعٌ لكل هذا وذاك، ولذلك جاء خليطاً عجيباً من الأفكار التي تتضمن الشيء ونقيضه في آن معاً، ولذلك أيضاً نجد أن من لاقت لديه بعض مواد هذا المشروع هوىً يركز رفضه على الشكل والعكس صحيح.
في سياق هذا التحليل لا يعود لمسألة الشكل تلك الأهمية التي تثار حولها، خصوصاً وأنَّ الأمر سيحتاج إلى نقاشٍ بين السوريين أنفسهم للمضمون وإلى عمليةٍ طويلة لإقراره، وحيث يغدو المضمون كاشفاً عن حقيقة المشروع.
-2-
يتضمن المشروع فخاخاً وألغاماً شديدة الخطورة على مستقبل الدولة السورية التي نصت جميع الوثائق الدولية على ضرورة حفظ وحدتها وسيادتها وسلامة أراضيها، ينص المشروع على ذلك في ديباجته وبعض مواده، لكنه في الوقت ذاته يتضمن إمكانية واضحة لتغيير حدود الدولة باستفتاء عام (المادة 9 – 2) وهذه الإمكانية هي لفسح المجال لتشريع أي محاولاتٍ انفصالية قادمة، وهي مطالب معروفة لبعض المعارضة الكردية.
كما يتضمن إشارةً لافتة إلى حق تقرير المصير (المادة 2 – 2) وهو حقٌ يشارُ إليه عادة عندما تكون دولة ما تحت الاحتلال أو الانتداب أو الوصاية، وليس في دساتير الدول الناجزة والمستقلة كحالة سورية، وبربط هذه الإشارة مع مسألة إمكانية تغيير حدود الدولة يصبح الغرض جليّاً وواضحاً في إطار التأسيس لإمكانية واقعية لتقسيم دولة متعددة الإثنيات والقوميات، مثل: سورية.
ولا يعتد هنا بما ورد في (المادة 1 – 2) من أن سورية وطن عام غير قابل للتجزئة، التي نعتقد أنها وضعت لطمأنة السوريين الذين ستثير المواد الآنفة الذكر قلقهم من المشروع، ولا سيما وأنها لا تمتلك آليات لتنفيذها بعكس المواد الأخرى، أي أنها تعطي هنا ما تأخذه فعلياً هناك.
ينص المشروع على نبذ الحرب كوسيلة لحل النزاعات الدولية (المادة 8 – 2) ويسكت عن أي إشارة لواجب الدولة في استعادة أراضيها المحتلة بكل السبل المشروعة، كما يخلو من أي إشارة للعداء لإسرائيل "الدولة المحتلة للجولان"، لا بل يتضمن في ديباجته التزام مسار التعايش السلمي والودي مع الشعوب الأخرى، وهي كلها أمور ليست بعيدة عن تصريحات لا بل وعن سلوك بعض أطياف المعارضة السورية، التي لطالما غازلت إسرائيل وأرسلت لها رسائل أكثر من واضحة لإمكانية التطبيع معها.
-3-
يبدو المشروع وكأنه يضفي صبغةً علمانيةً على الدولة، الأمر الذي يتلاقى مع مطالب بعض السوريين ويتماهى مع بعض الوثائق الدولية (ڤيينا 1) التي ثبتت علمانية الدولة، حيث لم يتضمن مواد تحدد دين رئيس الدولة، أو كون الفقه الإسلامي مصدراً رئيساً للتشريع، كما يحذف القَسم بلفظ الجلالة؛ وهذا كله يشي بطابع علماني "متوهم" لأنه في الوقت نفسه ينصب شراكاً لأي علمانية ممكنة بوساطة تشريعه للمنظمات الدينية (المادة 3) الأمر الذي يشرعن عملها بغطاء دستوري، فضلاً عن صلاحيات تعديل الدستور التي تتمتع بها جمعية المناطق (المادة 80) والتي تمكنها من إجراء تغييرات في الدستور بدون اللجوء إلى استفتاء عام، وبالتالي إمكانية تضمينه تعديلات تلغي أي مضمون علماني له أو إضافة ما يضفي طابعاً دينياً معيناً على الدولة، كما أن صلاحياتها في اقتراح وإقرار القوانين تعطيها مساحة نفوذٍ واسعٍ، وقد لا يتطلب الأمر لإجراء التغييرات سوى اتباع الإجراءات المنصوص عليها في الدستور مسبوقةً بتعبئة شعبية للأكثرية السكانية ذات اللون الديني والمذهبي الواحد، مع تجييشٍ ديماغوجي ضد مفهوم العلمانية الملتبس أساساً في مدارك الناس المتدينين، قد يستغرق الأمر سنوات، لكنه يمكن أن يكون واقعاً لا محالة، وتركيا الأردوغانية نموذجٌ سيجري العمل بهديه، أقل من عقدين من حكم العدالة والتنمية استطاعا الإطاحة تدريجياً بمكتسبات قرنٍ كامل من العلمانية ونعتقد أن هذا هو ما ستقوم به القوى الإسلاموية ذات الحضور الطاغي في المعارضة.
يحضر هنا بقوة ما جرى في اجتماعات أستانة، إذ شكّلَ حذف مصطلح العلمانية من البيان الختامي بناءً على اعتراض أطراف ما يسمى "المعارضة المسلحة" صدعاً في توقعات السوريين، -بعضهم على الأقل حول سوريتهم المقبلة- وشكّلَ كذلك تراجعاً عن بيان فيينا اللاحق لقرار مجلس الأمن (2254) الذي تم اللجوء إلى صياغاته حلاً لهذا الإشكال، وهو ما لا يجب أن يكون صادماً، بل متوقعاً من حيث موقف الأطراف المعارضة المسلحة وغير المسلحة، التي يختزن معظمها بنية إسلاموية متطرفة ترفض بالضرورة مبدأ العلمانية، ولطالما حاولت الهروب من استحقاقاتها باللجوء إلى ما أسمته "الدولة المدنية" الملتبسة المفهوم، وليس تمسك الإسلامويين بالديمقراطية التي تختزل عندهم إلى صناديق اقتراع إلا محاولةً متذاكية "لتحويل الأكثرية السكانية بوساطة صناديق الاقتراع إلى أكثرية سياسية تضمن لهم الوصول إلى الحكم، ومن ثم إجراء كل التغييرات المطلوبة"، يأتي هنا مشروع الدستور ليسهل لهم المهمة.
وليس مثال حكم الإخوان المسلمين في مصر، إلا برهاناً واقعياً على المآلات المتوقعة لما يمكن أن يحدث متضافراً مع ما أشرنا إليه من حالة حزب العدالة والتنمية في تركيا والتغييرات التي يعمل على إحداثها في بنية النظام العلماني، صحيح أن المسألة هنا أصعب بما لا يقاس نتيجةً لتجذر العلمانية؛ لكن النتائج تشي بنجاحات محققة.
لعله من نافلة القول: إنَّ التخلي عن العلمانية هو تفريط بالديمقراطية من حيث إنهما وجهان لعملة واحدة، فهما معاً يقومان على مبدأ المواطنة المتساوية في الحقوق والواجبات الأمر الذي يعني أنه لا معنى لإحداهما بدون الأخرى.
-4-
يحذف المشروع كلمة "العربية" من اسم الجمهورية فضلاً عن خلوه من أي إشارةٍ للعروبة ماعدا في ديباجته التي تشير إلى الالتزام بميثاق جامعة الدول العربية، وفي هذا تلبيةٌ لمطلب السوريين غير العرب، لكنه في الوقت نفسه إهمالٌ لمطالب السوريين العرب وهم الأكثرية، وهذا لغمٌ يزرع إمكانية لنزاعات لن تلبث أن تنفجر بين المكونات العرقية السورية، ستساعد عليها بالضرورة الصلاحيات الواسعة لجمعية المناطق؛ فضلاً عن أنه يؤسس لسلب سورية أحد مكامن قوتها المتمثل في دورها الريادي العروبي وفي التصدي للصراع العربي الصهيوني، هذا الدور الذي نعتقد أنه أحد أسباب الحرب التي شنت على سورية.
يتضمن المشروع إسفيناً في جسد الدولة الواحدة في (المادة 4-2) التي تشير إلى "حكمٍ ذاتي كردي"، وإن أضمرت العبارة محاولةً للتخفيف من وقع المصطلح على مدارك السوريين، بوساطة وصفه بالثقافي، إلّا أنه بإضافته إلى صلاحيات جمعية المناطق يعدّ مشروع تقسيم بامتياز ليس فقط إلى مناطق حكم ذاتي كردي، بل لغيرها، خاصةً وأن مشروع الدستور لا يضمن فقط لمناطق الحكم الذاتي الثقافي الكردي لغةً رسميةً ثانية، بل يشرعن لكل منطقةٍ أن تستخدم بالإضافة إلى اللغة الرسمية لغة أكثرية السكان (المادة 4 – 4)، صحيحٌ أنه يشترط لذلك حصول استفتاء في المنطقة المعنية أو غيرها لكن النتيجة معروفة بحكم أن أكثرية السكان ستصوت بنعم على اعتماد لغتها، ليس هذا فقط بل يلزم المشروع الدولة "تعليم الأطفال بلغتهم الأم في مؤسسات التعليم العامة" (المادة 4 – 3).
ماذا يعني كل ذلك؟ أليس وضع حجر أساس لمشروع كانتونات عرقية، سوف تستقطب لامحالة نزوحاً طوعياً أو قسرياً، ينجم عنه تغييرٌ ديموغرافي يولد غيتوات عرقية وطائفية ربما تشهدُ لغات يعاد بعثها وإحياؤها (وهل العبرية استثناء)، فإذا ما توافرت الأرض (الحدود الإدارية للمنطقة) واللغة التي ستشرعن باستفتاء تصوت عليه الأغلبية السكانية العرقية، وجمعية منتخبة (برلمان مصغر) وموارد ذاتية بحكم قانون اللامركزية، لا يتبقى إلا العلم والجيش الذي ستتيح الموارد الذاتية للمحليات تشكيله بعد أن تكون نواته قد تخلقت بوساطة شبيبة "المنظمات الدينية" و"الاجتماعية" المشرعنة أصلاً بالدستور.
هذه المواد لا تلبي فقط مطالب بعض الكرد، بل تدغدغ مشاعر المكونات العرقية والقومية وتمهد لإمكانية تفتيت سورية بعد أن تؤسس لقيام شروط واقعية لتحقيق تلك الإمكانية الأمر، الذي يتقاطع مع مطامح بعض الدول الإقليمية التي لطالما شكّلَ وجود سورية الموحدة عقبةً في سبيل تحقيق مشاريعها كتركيا وإسرائيل.
-5-
يتضمن مشروع الدستور استحداثاً لما أسماه جمعية المناطق والتي تتألف من ممثلي المجالس المحلية (المادة 40 – 1) وهي بمثابة غرفة برلمانية موازية لغرفة أخرى هي جمعية الشعب، جمعية المناطق هذه تجمع إلى جانب صلاحياتها التشريعية صلاحيات تنفيذية بوصفها تتألف من ممثلي المجالس المحلية الذين يديرون مناطقهم، الأمر الذي يخل بمبدأ فصل السلطات الذي شكّل مطلباً مزمناً للمعارضة السورية، ولطالما عدّته خللاً في بنية الدستور السوري الحالي.
وفقاً لمشروع الدستور المقترح تتركز السلطة التشريعية في جمعية الشعب وجمعية المناطق؛ تنتخب جمعية الشعب باقتراعٍ عامٍّ وسرّي، ويمثل أعضاؤها شعب سورية بأكمله، وتتم انتخاباتها تحت رقابة المحكمة الدستورية العليا، ورئيس الجمهورية هو من يدعوها للاجتماع (المواد 34 – 39)، وتشمل صلاحياتها إقرار القوانين، وإعلان الانتخابات الرئاسية، وحجب الثقة عن الحكومة، وإقرار المعاهدات والاتفاقيات الدولية، ومنها: تلك التي تمنح امتيازات للشركات الأجنبية أو التي تحمل خزينة الدولة نفقات إضافية، وتلك المتعلقة بالقروض، كما تشمل إقرار العفو العام وإنهاء صلاحية أعضائها (المادة 43) وأيضاً إقرار الموازنة بعد مناقشتها والتصويت عليها (المادة 47) وهو ما يتقاطع إلى حدٍّ كبير مع اختصاصات مجلس الشعب في الدستور السوري النافذ.
أما جمعية المناطق فهي كيان مستحدث مماثلٌ إلى حدٍّ ما لجمعية الشعب وموازٍ له في آن معاً، تتألف هذه الجمعية من ممثلي الوحدات الإدارية ومهمتها ضمان مشاركتهم في العمل التشريعي وإدارة البلاد، أي أنها تجمع كما أشرنا بين السلطات التنفيذية على مستوى المحليات والتشريعية على المستوى الكلي المركزي، وهي لا تخضع لمراقبة المحكمة الدستورية كما هو حال جمعية الشعب؛ لأن انتخاباتها تجري على مستوى المحليات حيث والحال هذه الإمكانية كبيرة ومتاحة للمال السياسي والنزعات الطائفية والعرقية.
تشمل صلاحيات جمعية المناطق[1] إقرار القوانين وحجب الثقة عن الحكومة وإنهاء صلاحية أعضائها، وهي مهام مماثلة لمهام وصلاحيات جمعية الشعب، بمعنى: أنها ليست اختصاصات حصرية للأخيرة، فضلاً عن أن رئيس الجمهورية يؤدي القسم أمامها وأمام جمعية الشعب (المادة 53)، ويتمتع أعضاء جمعيةة المناطق بالحصانة نفسها التي يتمتع بها أعضاء جمعية الشعب ولهم الحقوق والواجبات ذاتها ويؤدون القسم الدستوري نفسه (المادة 42).
اللافت هنا ليس فقط استحداث هذه الجمعية، بل كونها تتمتع بصلاحيات أوسع من جمعية الشعب (المادة 44)، من تلك الصلاحيات أنها تمتلك اختصاص إقرار مسائل الحرب والسلام، ولها صلاحية تنحية رئيس الجمهورية بناءً على اتهامٍ من جمعية الشعب (المادة 61) كما تملك إقرار حالة الطوارئ والتعبئة العامة (التي لرئيس الجمهورية إعلانها فقط) (المادة 44 – 5) وتتمتع أيضاً بصلاحية تعيين أعضاء المحكمة الدستورية العليا، وتعيين رئيس البنك الوطني وإقالته.
تعقد جمعية المناطق اجتماعاتها بمعزلٍ عن اجتماعات جمعية الشعب (المادة 41 – 1) ويسكت مشروع الدستور عن الجهة التي تملك حق دعوتها للاجتماع كما هو حال جمعية الشعب التي يدعوها رئيس الجمهورية للاجتماع، وتشترك الجمعيتان في جلسات عامة للانتخاب والاستماع إلى رئيس الوزراء ورئيس الجمهورية وقيادات الدول الأجنبية (المادة 41 – 2).
من الصلاحيات المعطاة لجمعية المناطق أيضاً إحالة رئيس مجلس الوزراء والوزراء ونوابهم إلى المحكمة وهي صلاحية معطاةٌ أيضاً لجمعية الشعب ورئيس الجمهورية (المادة 70)، ويتولى رئيسها مهام رئيس الجمهورية في حال الشغور أو العجز لكل من منصب الرئاسة ورئاسة الوزراء (المادة 62)، فضلاً عن أن مجلس الوزراء مسؤول مسؤولية سياسية أمامها وأمام رئيس الجمهورية وجمعية الشعب (المادة 63).
تتمتع جمعية المناطق أيضاً بصلاحية إقرار القوانين بعد إقرارها من جمعية الشعب، ويحق لها رفض القانون، وعندها يحتاج القانون إلى أغلبية الثلثين في جمعية الشعب، ولا يعتد برفض رئيس الجمهورية القانون إذا أقر من قبل جمعيتي المناطق والشعب بأغلبية الثلثين (المادة 46).
مما تقدم يتبين أن مجموع الصلاحيات المعطاة لجمعية المناطق تضعها فوق جمعية الشعب حيث تبدو الأخيرة مؤسسة هزيلة وضعيفة بالقياس للأولى وكأنها كيانٌ فائضٌ عن الحاجة، ما يجعل الأمر وكأنه توليفة تقارب النظام البرلماني الذي لا نعتقد أنه النظام الأصلح لسورية الموحدة، هذا إذا ما افترضنا أن النية صادقة في الحفاظ على وحدتها وسلامة أراضيها كما يقول المشروع نفسه.
-6-
جاءت صلاحيات رئيس الجمهورية ورئيس مجلس الوزراء بصيغ هجينة ومختلطة أحياناً هي أقرب إلى النظام البرلماني وأخرى إلى النظام الرئاسي.
تتضمن صلاحيات رئيس الجمهورية عبارات غامضة، مثل: "توليه الوساطة" بين سلطات الدولة وبين الدولة والمجتمع، وهو يسهر على احترام الدستور وحماية أسس النظام الدستوري وسيادة الدولة وسلامة أراضيها وهو "ضامنٌ" لاستقلال الوطن، وله تمثيل سورية في العلاقات الدولية ويتولى "تسوية" شؤون الجنسية، ومنح الجوائز الوطنية، ورتب الشرف، وتعيين الرتب العسكرية العليا "والخاصة"، ومنح العفو (المادة 55)، كما يتولى أيضاً عقد الاتفاقيات والمعاهدات الدولية وقبول أوراق اعتماد البعثات الدبلوماسية واعتماد رؤساء البعثات الدبلوماسية السورية لدى الدول الأجنبية باقتراح من مجلس الوزراء (المادة 58)، ومن صلاحياته أيضاً تسمية رئيس الوزراء ونوابه وتسمية الوزراء ونوابهم وقبول استقالتهم وإعفاؤهم من مناصبهم (المادة 64 – 1) إلا أن ذلك أيضاً باقتراحٍ من رئيس مجلس الوزراء (المادة 64 – 2).
أما مجلس الوزراء فهو "الهيئة التنفيذية العليا" في الدولة (المادة 63 – 1) وهو مسؤول مسؤولية سياسية أمام رئيس الجمهورية وأمام جمعية الشعب وجمعية المناطق (المادة 63 – 2)، ومن صلاحيات مجلس الوزراء: عقد المعاهدات والاتفاقيات التي تعطي الشركات الأجنبية حق الامتياز والمعاهدات التي ترتب نفقات إضافية على الموازنة وكذلك المعاهدات والاتفاقيات المتعلقة بالقروض (المادة 67 – 6).
إلا أنَّ صلاحية تسمية نواب رئيس الوزراء والوزراء ونوابهم التي يتمتع بها رئيس الجمهورية مقيدة ومحكومة بالتمثيل النسبي للأطياف القومية والطائفية لسكان سورية، وتحجز بعض المناصب للأقليات القومية والطائفية، وكل ذلك يكون بالتشاور بين رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء وجمعية المناطق وجمعية الشعب (المادة 64 – 3)، هذه المادة كما هو واضح تشرعن محاصصة طائفية وعرقية تتناقض مع ما تضمنه مشروع الدستور من مبدأ الديمقراطية والمساواة في الحقوق والحريات للمواطنين كافة بدون أي فرقٍ أو امتياز (المادة 1 – 1)، وهي تضمر إفراغاً لصلاحيات رئيس الجمهورية من مضمونها الفعلي.
-7-
من الجوانب الخطيرة أيضاً في مشروع الدستور المقترح المواد المتعلقة بالجيش الذي اعتُمدت تسمية بديلة له هي القوات المسلحة (المادة 10 – 4) إذ أنيطت بها مهمة حماية سورية ووحدة أراضيها، ولم يرد في هذا السياق أي ذكر لواجب القوات المسلحة في استعادة الأراضي المحتلة، كما اعتمد تعبير ملتبس حول الخدمة العسكرية (يؤدي مواطنو سورية الخدمة العسكرية وفقاً للقانون) (المادة 10 – 2) الأمر الذي قد يعني إلغاءً للخدمة الإلزامية والتي تعد المَصْهر الأساس للمكونات السورية، إذ تضمن أن يكون الجيش وطنياً بامتياز، من حيث بنيته التي تشتمل على جميع المكونات السورية والتي لا تتيحها بالمعنى الحقيقي سوى الخدمة الإلزامية.
وطالما أنَّ بعض المناصب ستحجز للأقليات القومية والطائفية وأنَّ نظام المحاصصة الطائفية والقومية هو المعتمد، فهذا يعني أن أجهزة الجيش ستتخذ طابعاً عرقياً وطائفياً "لا وطنياً".
الأمر الأخطر متعلق بوضع القوات المسلحة تحت رقابة المجتمع (المادة 10 – 4) والذي تمثله هنا جمعية المناطق، ويكون تعيين الموظفين العسكريين والمدنيين وفصلهم من مهام رئيس الوزراء (المادة 67 – 9) في تناقضٍ صارخ مع كون رئيس الجمهورية هو القائد العام للقوات المسلحة الذي ترك له أمر تعيين الرتب العسكرية العليا فقط، ولا يوضح مشروع الدستور فيما إذا كانت هذه الرتب العسكرية العليا تنطبق عليها أيضاً مسألة التمثيل الطائفي والعرقي وهو الأمر المرجح.
كل ما سبق يضمر إعادة هيكلة للجيش وتحديداً لمهامه ضمن أضيق نطاق وهو مطلب أساس ودائم للمعارضة السورية في كل وثائقها، فضلاً عن أنه يتقاطع مع مطالب دول إقليمية وفي مقدمتها إسرائيل التي لطالما شكّل الجيش العربي السوري مخرزاً في عين طموحاتها، والذي نعتقد أن من أهداف الحرب على سورية تدميره بعد أن تمَّ تدمير مصادر الخطر المحتمل الأخرى كالجيش العراقي والليبي، علاوة على الجيش اليمني الذي تقوم عاصفة الحزم الخليجية نيابةً عن إسرائيل بمهمة تدميره، أما الجيش المصري فقد تم تحييده بعد اتفاقية كامب ديڤيد.
وفي حين يذكر مشروع الدستور حظر استخدام القوات المسلحة كوسيلة لاضطهاد السكان السوريين (المادة 10 – 4) وهو نصٌ يوجه إهانةً لدور الجيش السوري وتضحياته التي كان لها الفضل الأكبر حتى الآن في الحفاظ على الدولة السورية، فإنه يسكت عن واجب تلك القوات في حماية السكان من أي خطرٍ قد يتهددهم الأمر الذي يلبي مطالب بعض المعارضة وبعض الدول الإقليمية في تحجيم دور الجيش ومنعه من القيام بمهامه في حالات مماثلة للحالات التي تمر بها سورية الآن حالياً.
-8-
من كل ما تقدم يتضح أن مكمن الخطورة في المشروع المقترح أنه يمهد لإنتاج "طائفٍ سوريٍّ" برعاية إقليمية تضمن، ربما، تحقيق مصالح جميع الدول المتدخلة في سورية بما يمهد لخلق الشرق الأوسط الجديد المأمول لأمريكا ولإسرائيل، ومن هنا ربما يمكن فهم لماذا سكتت أمريكا ببراغمتيتها المعهودة عن الحضور الروسي الفاعل في المسألة السورية.
هكذا تكتمل اللوحة: بلدان فاشلة تعتمد الديمقراطية التوافقية الزائفة القائمة على المحاصصة الطائفية والعرقية والتي تؤسس لمشاريع تقسيم وتفتيت المنطقة من لبنان إلى العراق فسورية، وإنشاء كيانات قومية ودينية مشابهة لإسرائيل تضمن أمنها وأمانها، وتضمن بالتالي تحقيق أهداف أمريكا، كما تؤسس لنفوذٍ تركي وسعودي عبر جمعيات مناطق تركمانية أو إسلاموية، ولاحقاً دويلات، تدين بالولاء لهذه الدول.
ما يثير الاستغراب في كل ذلك هو كيف لمشروع دستورٍ كهذا يحقق مصالح الدول التي دعمت وشنت الحرب على سورية أن يلقى قبولاً من روسيا أو إيران التي دعمت حتى الآن صمود الدولة السورية، وهل هناك قُطْبةٌ مخفية جعلت روسيا تتبنى مثل هذه المقترحات، وكيف ستحقق لها مصالحها؟
وماذا عن إيران التي سبق أن سربت أفكاراً عن مشروع دستورٍ آخر كان أبرز ما فيه حديثه النافر عن "ضمان حقوق الأقليات".
لعل الخطورة الأكبر في مشروع الدستور المقترح أنه قد يلقى قبولاً لدى السوريين لأنه يلوح لهم بكثيرٍ من الامتيازات عبر اللامركزية المقترحة والعلمانية الشكلانية والديمقراطية المفرغة المضمون، فضلاً عن الوعد الذي يقدمه بوصفه الخطوة التأسيسية في الحل السياسي المنتظر والذي من المفترض به أن ينهي ويلات الحرب التي عانوا منها لست سنواتٍ طوال، وهل سيبكي السوريون على سوريتهم الموحدة التي لم يحافظوا عليها بعد أن "تستحق الواقعة"، ويحقق الحل السياسي "المأمول" مالم تستطع الحرب أن تحققه.
وربما هنا تكمن الإيجابية الوحيدة لطرح مشروع الدستور بهذه الصيغة النافرة، من حيث إنه وضع السوريين "وجهاً لوجه" أمام ما يمكن أن يحدث على المستوى السياسي، أما بعده الاجتماعي والاقتصادي وتبعاته فقد يكون لنا فيها حديث قادم.
[1] في النسخة العربية التي نشرتها قناة روسيا اليوم لمشروع الدستور المقترح يرد في (المادة 43) صلاحيات جمعية الشعب، وأيضاً في (المادة 44) ترد صلاحيات جمعية الشعب، بالتدقيق بين المادتين وبالمقارنة مع المواد اللاحقة (61 – 70 – وغيرها) يتبين أن المقصود في (المادة 44) هو جمعية المناطقق وليس جمعية الشعب، قد يكون الأمر خطأ عارضاً، وقد يكون خطأً مقصوداً لإشاحة النظر عن خطورة الصلاحيات الواسعة المعطاة لجمعية المناطق ما يؤدي إلى استنتاجاتٍ غير صائبة مبنية على أن كلاً من (المادتين 43 – 44) يحدد اختصاصات جمعية الشعب.
د. إنصاف حمد: مركز دمشق للدراسات والأبحاث
إضافة تعليق جديد