الوهابية السعودية والإسلام الشامي -6- (اليمن السعيد)
مثلما ينتمي النسر إلى سمائة ومنقاره ينتمي اليمني إلى عروبته وخنجره المعقوف على خصره منذ الأزل.. كائن ضئيل الحجم يزن 60 كيلو غراماً من الحكمة والشجاعة وشدة البأس، تناسل من قحطان جد العرب العاربة، أصحاب الحضارة والممالك التي قامت على الوديان والسدود، بعكس بدو العرب المستعربة المتناسلة من عدنان والمتنتشرة في بوادي نجد والحجاز وتطلق على شمالها الجغرافي اسم الشام وعلى يمينها اسم اليمن وترنو إليهما كما الطير يتوق إلى جناحين يوصلانه إلى مبتغاه.. فقد كانت اليمن والشام حضارتان مستقرتان تعتمدان الزراعة بعكس أعراب نجد الذين تشبه حياتهم قول المتنبي: «على قلقٍ كأن الريح تحتي أوجهها جنوباً أو شمالاً».. فقبائل العدنانية كانت تتنقل طلباً للمرعى والغزو والصيد،كذؤبان متأهبة تعيش ضمن قوانين الدم التي تحتاجها نزعتهم نحو البطولة والفخر، لذلك كانوا أقل ثراء ورخاءً وأكثر خشونة وجلافة من قحطان التي أهدت للعربية كلمة حضارة (من حضرموت) ومملكة سبأ خير شاهد، بالإضافة إلى أن أعظم شعراء العربية قد خرجوا منها وعلقت قصائدهم على جدران الكعبة المقدسة ك «الملك الضليل» امرئ القيس ابن حجر الذي يرجع بنسبه إلى ملوك كندة ..
إذاً فالفرق بين البدو والحضر جغرافياً وتاريخياً كالفرق بين قبائل اليمانية والعدنانية، حيث أنتجت الأولى ممالك ومدناً متحضرة بينما لم يكن للثانية سوى بعض الواحات المستقرة نسبياً كالطائف ويثرب ومكة التي أثرى أهلها بفضل حجيج الأمم القديمة إلى كعبة إبراهيم الخليل، ووساطتهم التجارية بين اليمن وبلاد الشام في رحلة الشتاء والصيف، كما جاء في القرآن الكريم، وبالتالي فقد كان تميز هذه الواحات بفضل تفاعلها مع ممالك الشام واليمن (العربية السعيدة) تجارياً وثقافيا ً، وتجلى ذلك في إقامة سوق عكاظ بين مكة والطائف لعشرين يوماً في العام كانت كافية لتنشيط ثقافة العرب طيلة ما تبقى من أيام السنة. وقد ساعد في تطور هذه الواحات الهجرات اليمنية التي حصلت بعد انهيار سد مأرب في منتصف القرن السادس الميلادي، كما فعل الأوس والخزرج حينما جاؤوا إلى يثرب وحولوها إلى (المدينة) ثم صارت (المدينة المنورة) بعد هجرة الرسول الأكرم إليها هرباً من السلفية القرشية التي ناصبت الدين الجديد عداءها في الوقت الذي عرفت فيه الأوس والخزرج قيمة محمد فأرسلوا إليه واحتضنوا دعوته وأنقذوه من قبيلته قريش التي شارفت على اغتياله بواسطة مئة رجل كيما يضيع دمه في القبائل..
وقبائل الأوس والخزرج ترجع بنسبها إلى الأزد القحطانية التي هاجر قسم آخر منها إلى جهات حوران من بلاد الشام وأسسوا دولة الغساسنة، بينما ذهب إخوتهم المناذرة باتجاه العراق، وكانت علاقة القبيلتين قوية مع حضارة وثقافة روما وفارس وشبة معدومة مع بدوان نجد والحجاز إلى أن جاءت الرسالة المحمدية وأعادت ما انقطع بين العرب العاربة والعرب المستعربة وصهرتهم ضمن بوتقة الإسلام..
فمحمد بن عبد الله، صاحب أعظم ثورة في التاريخ، سخَّر عبقريته ومخزونه الثقافي لاستقطاب نخبة قبائل شبه الجزيرة العربية واستغل روح الغزو لديها لتأسيس إمبراطورية عربية على أنقاض روما وفارس، وقد استخدم في خطابه الدعوي بلاغة أهل البادية الذين نشأ بينهم، وثقافة بلاد الشام واليمن اللتان احتك بهما في شبابه أثناء عمله وكيلاً تجارياً لصالح سيدة أعمال قرشية ينتمي بعض أفراد أسرتها إلى الثقافة المسيحية التي كانت تصدرها دمشق عبر قوافل التجارة التي تمر بها، حيث كانت الخانات والحمامات ومنازل التجار مراكز تبادل ثقافي أفاد تجار قريش منها وتميزوا بها على سائر قبائل الغزو العدنانية.. وبفضل هذه الثقافة، بالإضافة إلى الرعاية السماوية، تمكن فتى يتيماً من إقامة مملكة السماء فوق أرض القتل العربية ليعيد توجيه طاقتها العسكرية خارج شبه الجزيرة العربية، بينما بقيت عصبياتها القيسية واليمانية نائمة إلى حين وفاته، حيث اشتعلت ثانية وتمردت قبائل اليمن والشام على هيمنة قريش التي كانت حريصة على بيت مالها الإسلامي إلى درجة أنها اتهمتهم بالردة (قال الخليفة أبو بكر الصديق رضي الله عنه: والله لو منعوني عقال بعير لحاربتهم عليه)، وهكذا اشتعلت حروب الردة واستعادت قريش هيبتها بعد أربعة أعوام من البطش حتى ارعوت قبائل التمرد ودخلت في مصالحة قِوامها اقتسام السلطة والغنائم. ويمكن الاستشهاد على بعض هذا بقول الفارس الإسلامي عمرو بن معدي كرب الذي يعود بنسبه إلى ملوك قحطان: «إذا قُتلنا ولا يبكي لنا أحد، قالت قريش ألا تلك المقادير.. نُعطى السوية من طعنٍ له نفذٍ ، ولا سوية إذ تعطى المقادير».. غير أن قريش احتفظت بالخلافة ومناصب السيادة في الإمبراطورية الإسلامية بينما تسنمت قبائل كلب القحطانية المراكز الإدارية وحكومات الظل الإسلامية نظرا لخبرتها الحضارية في إدارة المجتمعات المدنية، قال الشاعر: فغض الطرف إنك من نميرٍ فلا كعباً بلغت ولا كلابا ..وكان الولاة في الأمصار يعملون على إثارة الفتنة بين قبائل القيسية واليمانية كلما ظهرت قوة إحداهما على قوة الوالي، وهذي حنكة ابتدأها الخليفة معاوية ابن أبي سفيان أثناء حكمه لدمشق، يؤكد ذلك رواية الشيخ المزي من أنه ذهب أكثر من ألف وأربعمئة قتيل في معارك بين المضرية واليمانية في قرية المزة بظاهر دمشق..
***
وما تقدم هو محاولة لتلمس البنية النفسية و الثقافية للقبائل العربية، والبحش عن جذور العنف في الشخصية العربية وعلاقتها بشيفرة البداوة الوراثية التي عمل الإسلام على تقليم أظافرها وتمدينها، خصوصاً في مرحلته الشامية حيث أعادت صياغته دمشق الأموية، بعدما أدخلته في فلترها التجاري وقامت بتوزيعه إلى أنحاء العالم. إذ لولا توطن الدولة الإسلامية الأولى في بلاد الشام وتأثر الدين الجديد بثقافة معتنقيه لما تمكن الإسلام من الخروج من ثوبه البدوي لإنتاج الإمبراطورية الإسلامية من الأندلس إلى الصين.. وكما ذكرنا في الحلقة الأولى: فإن شكل الماء هو شكل الإناء وبالتالي فنحن لدينا إسلامات متعددة وليس إسلاماً واحداً عبر تاريخه الغني بالتنوع والاختلاف الذي تتراوح مدارسه بين الصوفية المسالمة والجهادية التكفيرية اللتان مازالتا تتصارعان كما تتصارع الأحشاء داخل الجسد.. وإذا عدنا إلى الإسلام الشامي اليوم نلاحظ اندغام القبائل التي استوطنت المدن في الحياة التجارية إلى درجة أن أحداُ اليوم لا يعرف إن كان ينتمي إلى القيسية أو اليمانية.. فسوق دمشق ساعدت على أنسنة الجانب البدوي في الشخصية الإسلامية وعرضت سائر مذاهب الإسلام إلى جانب بعضها بعضا كما كانت تعرض قماش الدامسكينو والبروكار فوق رفوف متجاورة، وهذا سر دمشق الإسلامية والمسيحية وقبلهما البيزنطية والهيلينية.. فدمشق، كما أرى، استمرت في الحياة من بين كل المدن القديمة واستطاعت أن تكون أقدم مدينة في التاريخ لأنها بعكس كل مدن العالم من حيث أنها سوق أنشئ حوله مدينة وليس مدينة أفرزت سوقها، وبذلك كان السوق هو قلب المدينة وعقلها المحرك الذي أعطى لكل الأديان والقوميات مزاجها العقلاني المعتدل وغير المتطرف، فتعايشت هذه الطوائف والإثنيات مع بعضها بسلام دون أن يحدث بينها أي صدام عبر تاريخها الطويل، وإنما ولدت بينهم روح الغيرة والتنافس التجاري، فبقيت أظافر عصبياتها الطائفية والإثنية مختبئة في باطن كفها، لأن التبادل التجاري يحتاج السلام والنفاق الإجتماعي .. وهذا هو سر التاجر الشامي الناجح الذي لا يفلس أبداً.. أنها دمشق الأموية التي كبر معاوية بها وكانت المدرسة التي أعادت صياغة هذا الفتى القرشي الطامح لتنتج منه أعظم داهية في التاريخ الإسلامي، هذا الدهاء الذي أنتج أول دولة إسلامية، أموية العصبية عالمية الثقافة..
وما تقدم تأكيد لما قلناه في الحلقة الأولى عن استمرار عسكرة الإسلام عبر جينوم العرب المستعربة الذين كانوا بمثابة اسبارطة الجهادية ، بينما أخذت العرب العاربة دور أثنيا الثقافية في تطوير البنى الإدارية المدنية للوصول إلى شكل الدولة الإسلامية الحضارية.. وكذا كانت الوهابية التي خرجت من نجد الإسبارطية محمولة على سيوف غزاة طامعين بغنائم الدنيا والآخرة، حيث النساء والطعام والشراب دينهم وديدنهم، وقد وفرت لهم فتوى تكفير الآخرين ما يحتاجونه لتبرير أفعالهم الإجرامية ، فراحت ذؤباتهم تفترس خراف الأمة الإسلامية، سنية كانت أم شيعية، حتى وصلت جنوباً إلى عسير، واليمن قصدها والسبيل.. فمنذ عام 1211 للهجرة دعا عبد العزيز بن محمد قبائل عسير اليمنية للانضمام إلى دعوته وأرفق كتابه بجيش كبير بقيادة ربيع بن زيد الدوسري الذي هاجم شهران وبيشه وفعل بأهلها ما تفعله جنود الوهابية عادة (بالمشركين): ذبح وحرق وتقطيع من خلاف، ونهب وسبي واغتصاب (تماماً كما يفعلون بأهل حمص الآن).. فارتعب أهل عسير، كما ارتعب أهالي مكة والمدينة من قبلهم، واستسلموا لآل سعود مع تعهد بدفع ضرائب الزكاة إليهم، وهذا هو المبتغى ..
وفي سنة 1217 للهجرة أرسل عبد العزيز (حاكم نجد) رسالة إلى أشراف منطقة المخلاف السليماني (أي عسير وجازان التي كانت تسمى المخلاف السليماني نسبة إلى سليمان بن طرف الحكمي وينتشر فيها المذهب السني الشافعي)، يدعوهم فيها للدخول في دين الوهابية، وقد اعتمد فيها أسلوباً يحاكي لغة الرسول الأكرم في خطابه لهرقل ملك الروم وكسرى ملك الفرس.. وكان أشراف المخلاف السليماني من بني حمود يتصارعون مع بني حيدر بينما بقية أشراف بني النعمى والجعافرة والحسيني منقسمون بينهم كما كان الناس منقسمون حولهم، والبلاد مشتعلة بحروبهم الداخلية. فاستمال عبد العزيز بعضهم ضد الآخرين، كما استغل نقمة العامة على استبداد الأشراف وظلمهم فألبهم عليهم وأغراهم بالمناصب والغنائم.. وكانت الناس قد مالت إلى جانب الشريف حمود ضد علي بن حيدر، وظهرت له الغلبة بعد ثمانية أشهر من المعارك أنهكت كتائب الأشراف، فانتهز السعودين الفرصة حيث «أقبلت غوازي نجد تنهب ما تنهب وتقتل وتسبي ما تسبي» بقيادة حزام بن عامر الحبيشي الذي تحالف معه عرار قائد بني شُعبة فوافقه بعض قومه على الدخول في الوهابية خوفاً وطمعاً بينما خالفه بعضهم الآخر وتمردوا عليه، فانتصر على قومه بحزام بن عامر وأقر بولاء درب بني شعبه للسعوديين، وراح يخاطب الأشراف باسم عبد العزيز للدخول في دين الوهابية وإقرار الولاء ودفع الرسوم..
أمام ذلك ترك الأشراف خلافاتهم جانباً وتوحدوا ضد الخطر القادم من نجد، فما كان من حزام ابن عامر إلا أن أغار على أطراف أبي عريش «فنهبوا وسلبوا وفزع الناس فزعاً كبيراً» -بحسب مخطوط الشيخ الوهابي عبد الرحمن البهكلي- وقد رجع حزام إلى نجد بعد الرعب الذي خلفه في بعض قرى المخلاف السليماني، بانتظار عودة الأشراف إلى نزاعهم الداخلي على السلطة فيسهل عليه أخذ بلادهم: يقول البهكلي «وبقي الناس بعد ذلك في أمرٍ مريجٍ لم ينتظم لهم أمر في الإذعان لمطالب حزام بن عامر ولا اتفقت كلمتهم على قتاله» إلى أن عاد حزام في العام التالي 1218ه بعد الفتنة التي حصلت بين سكان المخلاف السليماني واختلاف الأشراف حول من تكون له الطاعة، إلى أن وصلت الغوازي الوهابية واصطدمت بالجموع اليمنية عند قرية ضمد التي كان يرمي الوهابيون أهلها بالشرك بالله «فقتلوا من أهل العلم والتدريس جماعة ولم يَرعَ صاحب ولا خليل لخليله شيئاً من الذمم –حسب البهكلي-» وأحرقوا قرية ضمد وتفرق أهلها إلى منطقة أبي عريش في الجنوب، فتحول الوهابيون ومحازيوهم إلى منطقة صبيا (مركز الأشراف) «فأغاروا على أهلها وقتلوا وجرحوا أناساً من أفاضلها، مع أنهم دخلوا في الطاعة، ولكن النجديين اتهموهم بنكث العهد، فاستحلوا فيهم ما حرم الله حتى استقر أمر المخلاف وصبيا على إعمال شعار الدعوة الوهابية في الأوامر والنواهي والموالاة والمعادة».. ويؤكد كلام البهكلي هذا معاصره الشيخ لطف الله الجحاف..
هذا و استمر غزو جيوش الوهابية للبلاد اليمنية، فاحتلوا صنعاء وأمعنوا بأهلها قتلاً، ونهبوا خيراتها، ووضعوا لها إماماً من أتباعهم ساعدهم على غزو باقي جهات اليمن، حيث أخذوا الحديدة وزبيد من دون قلعتها (ونهبوا منها من الأموال والأمتاع شيئاً كثيراً وعزلوا الأخماس ثم أرسلوها إلى الدرعية) وقد استمرت غزواتهم لليمن حتى عام 1225 عندما غزوا منطقة اللحية (وأخذوا غالب ما فيها من الأموال والذهب والفضة والقماش واللؤلؤ والحرير، وذُكر أن بعضهم طحن اللؤلؤ يحسبه ذرة .. وقتل من أهلها خلق كثير ودمروا البلد وأشعلوا فيها النيران.. وقبض عمال سعود أخماس الغنائم وساروا بها إلى الدرعية) وهذا هو المبتغى.. وآخر ذكرى تاريخية سيئة لليمنيين كانت في سنة 1341هـ/ 1921م عندما انقض الوهابيون على قافلة الحج اليماني المتوجهة إلى مكة فقتلوهم ونهبوا متاعهم ، فقد صدف أن التقت سرية من الوهابيين بحوالي ألف من أبناء اليمن القادمين لأداء فريضة الحج ، وكانوا بطبيعة الحال عزلا من السلاح ، فسايرهم الجنود الوهابية بعد أن أعطوهم الأمان ، فلما وصل الفريقان إلى وادي (تنومة) والوهابيون في الجهة العليا بينما اليمنيون في الجهة الدنيا ، انقض المسلحون على الحجاج بأسلحتهم فأبادوهم ولم ينج منهم إلا اثنين .
غير أن يد الوهابية السعودية ضعفت منذ تدمير الدرعية عام 1234 هـ على يد ابراهيم باشا فتلاشى وجودها في اليمن كما تتلاشى كثبان الصحراء بعد مرور الرياح، ذلك أن الوهابية آنذاك لم تكن قد تحولت إلى مؤسسة دعوية وكانت تعتمد في نشر دينها على "المجاهدين" الذين لم يكونوا قادرين على إقناع من هم أغزر علما وثقافة، فاستخدموا السيف وسيلة للشرح والإقناع، ولكن إلى حين..
***
من المعروف أن المجتمع اليمني محافظ عموماً، وأقرب إلى السلفية العلمية، قابلة للنقاش والاجتهاد بحكم المذهب الزيدي الذي يشكل الأكثرية اليمنية. والزيدية مذهب وسطي بين الشيعة والسنة، باعتبار أن مؤسسها الإمام زيد بن علي زين العابدين قد صاغ نظرية شيعية في السياسة والحكم تقول بصحة إمامة أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم، وجواز إمامة المفضول مع وجود الأفضل، وهذا النهج العقلاني مرجعه العلاقة الوثيقة بين الإمام زيد وواصل بن عطاء رأس المعتزلة التي انتهجت الخط العقلاني في الإسلام.. ومع أن زيداً قد مات قتلاً كما أولاده من بعده وآبائه من قبله، فقد عُقدت الإمامة لحفيده يحيى بن الحسين في اليمن، وتشكلت بعدها فرقة الزيدية التي عرفت بالهادوية وانتشرت في اليمن والحجاز وما والاها..
وحين قدمت جحافل الوهابية أول مرة لم تلق دعوتهم أرضاً خصبة في اليمن وبقي وجودهم على السطح كما هو حال الغزاة دائماً، ثم تلاشى وجودهم بعد وفاة الإمام فيصل بن تركي، المؤسس الثاني للدولة السعودية، ودخول الأسرة السعودية في حالة نزاع على السلطة، فاستغلت قبائل العرب الفرصة، كما يذكر أمين الريحاني: «فانتفضت قحطان، وعصت العجمان، وتمردت عنزة، وتقلبت مطير، وتذبذبت عتيبة، وصال بنو مرة، وتنمر بنوخالد، ناهيك بالإخوة وأبناء العم من البيت نفسه، وقد قام بعضهم إلى بعض يتنازعون السيادة..» وهكذا تلاشت الوهابية في اليمن ولكن أطماع آل سعود في العربية السعيدة لم تتلاش، إذ استيقظت في أربعنيات القرن الماضي مع فورة النفط، أيام الملك عبد العزيز الذي أعطى للوهابية شكل مؤسسة دعوية بميزانية ضخمة وراح يستقطب مشاهير السلفيين في العالم الإسلامي، فيرسل إليهم دعوات مفتوحة للحج ويكرم وفادتهم وجيوبهم ثم يترك باقي المهمة لمدراء المؤسسة الوهابية لتجنيدهم كدعاة وهابيين في بلدانهم – كما رأينا في الحلقات السابقة - غير أن قصة الشيخ اليمني السلفي مقبل الوداعي رائد الوهابية اليمنية كانت مختلفة، فهو زيدي بالأصل، لكن ميوله السلفية جعلته أقرب إلى الوهابية أثناء اغترابه في مكة أوائل عام 1961 فانخرط فيها بعد تعرفه بالشيخ جهيمان العتيبي الذي قام بثورته على السلطات السعودية عام 1979 حين استولى مع جماعته على الحرم المكي معلنين ظهور المهدي المنتظر في شخص محمد بن عبد الله القحطاني صهر جيهمان، وقد اعتصموا بالحرم 14 يوماً حتى تمكن الكوماندوس الفرنسي من اقتحام الحرم المكي وقتل بعضهم وآسر آخرين تمّ ضرب أعناقهم فيما بعد في عدة مدن سعودية، وقد ظهر اسم الشيخ مقبل ضمن المتهمين في أحداث الحرم فاعتقلته السلطات السعودية ثلاثة أشهر بتهمة كتابة البيان الذي أصدرته جماعة الحرم، فتمّ ترحيله قسراً إلى مدينة صعدة باليمن في آذار1980 حيث بدأ الوادعي دعوته السلفية من هناك وقام بتأسيس مركز دماج العلمي كإطار عام يجمع السلفيين اليمنيين و«دماج هي بلدته التي خرج منها»، وكانت المدرسة الوادعية أقرب إلى الجهمانية من بين الطرق الوهابية مع اختلاف في أن الوادعية لا تدعو للخروج عن طاعة الحاكم كما الجهيمانية .. وعلى الرغم من ذكريات الرجل السيئة مع السلطات السعودية وانتقاده لآل سعود، فإنه فتح الباب واسعاً أمام الوهابية السعودية للتغلغل بين تلامذته وأتباعه ومهد أرضاً خصبة لانتشارها في اليمن خصوصا بين طلبة العلم العائدين من معاهد المملكة (الطالبان).. وقد تراجع الوادعي في أواخر أيامه عن موقفه المعادي لآل سعود، بعد مرضه واستقباله في مشافي السعودية على حساب الأمير نايف، فقد امتدحه كما أثنى على التجربة السعودية في إدارة المجتمع والدولة وذلك قبل وفاته عام 2001 والحقيقة أن الوادعي اكتشف متأخراً أنه قدم إلى آل سعود، دونما قصد منه، خدمة كبيرة، واستيقظ على الأمر بعدما امتدت أيديهم إلى بعض أتباعه وتلاميذه الذين أعلنوا انشقاقهم عن مدرسته "دماج" عام 1990 ليؤسسوا "جمعية الحكمة" في مدينة تعز بتمويل من جمعية إحياء التراث الكويتية ذات المرجعية السعودية.. ثم لم تلبث أن انشقت مجموعة من وهابيي «الحكمة» ليؤسسوا "جمعية الإحسان" في محافظة حضرموت، وقد انفتحت الجمعيتان على العمل السياسي ضمن التوجهات السعودية وبرعاية علي عبد الله صالح الذي كان حريصا على رضا السعوديين والأمريكيين عليه.. وتتحدث إحدى الوثائق الأمريكية، التي نشرتها ويكليكس نقلاً عن السفارة الأمريكية في صنعاء 21 نيسان 2009، عن مركز «دماج» بوصفه أحد أبرز مؤسسات الدعوة السلفية وأنه معروف بتجنيده لمجاهدين أجانب، وأن السلفية انتشرت بسرعة في اليمن خلال العقدين الماضيين بأموال الأثرياء الوهابيين اليمنيين والسعوديين، وأن السلفيين الذين يعتنقون الوهابية قد نجحوا في تعزيز حضورهم وتأثيرهم في معظم المدن المزدحمة كتعز وصنعاء وأب والحديدة، وأن حكومة علي عبد الله صالح شجعت على انتشار السلفية في البلاد في وجه القوى المحلية التي تشكل تحدياً أمنياً لها، كما أن الحكومة السعودية تواصل ضخ الأموال لمساجد السلفيين والمؤسسات التابعة لها في صعدة، في محاولة لتعزيز نفوذها السياسي على امتداد الحدود المشتركة.. وإذا تتبعنا علاقة شيوخ المعاهد والجمعيات الوهابية اليمنية بالسعوديين فسوف نجد أن الشيخ يحي الحجوري، الذي ورث مدرسة الوادعي باستيلائه على مركز دماج، من أشد المناصرين للسعودية في حربها ضد (الروافض الحوثيين) ولا يمر أسبوع إلا ويعطي فيه تصريحاً يشيد بسياسات آل سعود ضد المتظاهرين في السعودية والبحرين، وكذا يفعل أغلب مشايخ الجمعيات السلفية المذكورة كالشيخ أبو الحسن المأربي والشيخ محمد بن عبد الوهاب الوصابي الذي تم تأهيله وتجنيده في السعودية بداية شبابه عندما كان يدرس في الحرم الملكي أواخر تسعينيات القرن الماضي، أما الشيخ عبد الرحمن العدني فهو معتمد ضمن قائمة الإفتاء في المملكة الوهابية السعودية وكذلك الشيخ عبد العزيز البرعي والقائمة تطول، مع التنويه إلى استغلال السعوديين الجيد لحسد شيوخ الوهابية في اليمن وكراهيتهم لبعضهم فتغذي انقساماتهم على المبدأ الاستعماري (فرق تسد) فلا تجتمع لهم كلمة إلاّ في أمر كراهية الزيدية وتكفيرهم بعد اتهامهم الجاهز لهم بأنهم عملاء لإيران، وهذا هو مختصر السياسة السعودية - الأمريكية في المنطقة والتي كان الرئيس صالح (الزيدي) أميناً على تنفيذها هو وعسكره إلى أن جاءتهم الثورة على غير ميعاد ..
***
في الوقت الذي بدأت تتجمع فيه الحركة الوهابية في مدينة صعدة وتفتتح مدارس ومعاهد لها وتستولي على بعض المساجد مستفزة بذلك زيدية الشمال وشافعية الجنوب، خرجت من بين الزيديين عام 1990 "حركة الشباب المؤمن" كرد فعل على التهديد الوهابي، وقد بدأت كحركة فكرية وثقافية لكنها تحولت إلى عسكرية في العام 2004 بعد قيام القوات الحكومية بمهاجمتهم بسبب المظاهرات التي أشعلوها لمناهضة الاحتلال الأمريكي للعراق. وقد أحرجت هذه المظاهرات الرئيس علي عبد الله صالح الذي اختار الوقوف إلى الجانب السعودي حيث سلط عليهم 30 ألف جندي تدعمهم الطائرات والمدفعية ومحطة العربية التي صورتهم كعملاء إيرانيين وسوقت حكاية أن بدر الدين الحوثي يدعي النبوة ثم خففت التهمة بادعاء أنه المهدي المنتظر.. وقد تم وسم الحركة باسم مؤسسها حسين بن بدر الدين الحوثي بعد مقتلته على يد السلطات في حرب 2004 التي استمرت حتى سنة 2010 حيث دخل الجيش السعودي إلى جانب الجيش اليمني في الحرب على الحوثيين بحجة توغلهم داخل الحدود السعودية واستيلائهم على جبل الدخان.. و في الداخل قام السعوديون بتأليب وكلائهم من وهابيي دماج في مدينة صعدة ضد الحوثيين، فقام الحوثيون بالاستيلاء على المدينة ووضع معاهد ومدارس الوهابيين تحت المراقبة، في الوقت الذي شنوا فيه حرب عصابات ضد الجيش السعودي على الحدود وأظهروا ضعفه كما حصل بين حزب الله وإسرائيل حيث قتلوا 73 جندياً سعودياً وأسروا 62 وجرحوا 470 فوجد آل سعود أنه من الأفضل لهم توجيه الرئيس صالح نحو تسوية مع الحوثيين الذين التزموا بإنهاء الحرب وإزالة الألغام وفتح الطرق وتسليم الوحدات الإدارية التي احتلوها والإفراج عن الأسرى مقابل توقف الجيشان السعودي واليمني عن قصف القرى الزيدية والاستماع إلى مطالبهم وإنهاء التمييز الحكومي في معاملتهم، بعد ستة حروب شنتها الحكومة ضدهم وقتل فيها 10 آلاف يمني وجرح عشرات الآلاف وشرد مئات الآلاف..
ولقد جاء تمرد الحوثيين مقدمة للثورة اليمنية قبل تونس بثماني سنوات، إذ أن الحرب ضدهم كشفت تبعية السياسة اليمنية للخارج، وفساد الداخل، كما كشفت ازدواج ولاء السلفيين وعلاقتهم بآل سعود..
وبعد ذهاب علي عبد الله صالح تحت ضغط الثوار وبقايا جراحه التي سببتها محولة اغتياله بصاروخ واستقبال السعودية له، أعلن وزير الخارجية السعودي أن بلاده تتعهد بتقديم ثلاثة مليارات وربع المليار دولار كمساعدات لليمن في افتتاح الاجتماع الوزاري لمجموعة (أصدقاء اليمن) الذي استضافته الرياض بمشاركة دولية في 12 أيار 2012 وكانت صحيفة "الشارع" اليمنية نشرت مطلع حزيران الجاري قائمة بأسماء شخصيات سياسية وحزبية وقبلية تتلقى دعماً ورواتب من المملكة.. بالإضافة لحوالي 30 ألف شيخ من اليمن يحصلون على دعم من المملكة، وكل هؤلاء سيعملون على احتواء الثورة واستمرار سير السياسة اليمنية في ركاب السيدة السعودية التي قدمت أعظم نكتة في الحراك الأهلي اليمني، عندما تأكدت أن لا مجال لبقاء رجلها علي عبد الله صالح بالرغم من الدعم الأمريكي- السعودي له، فأوعزت لرجلها الثاني في اليمن، اللواء علي محسن صالح قائد المنطقة العسكرية الشمالية الذي سبق ودك قرى الحوثيين، بالانشقاق عن صالح وتأسيس «الجيش اليمني الحر» قبل أن توعز باغتيال صالح غير المكتمل، حيث أعلن الأحمر وقوفه إلى جانب الثورة بعد عشر سنوات من الحروب التي خاضها ضد المتمردين الحوثيين، ثم قدم اعتذاراً متأخراً لهم عما فعله بهم، لكن اليمنيين الأحرار الذين لم يسمحوا لأحد بالركوب على ظهورهم لم يصدقوا الكذبة فقررت السعودية أن تعين الأحمر سفيراً يمنياً في مملكتها ريثما تستقر أمور اليمن وتقوم بإعادة تصديره كشخص مدني وممثل للمصالح السعودية في الحكومة اليمنية ..
وعلى الرغم من ذهاب الرئيس صالح واقتراب اليمنيين من حلمهم فإن وضع الجيش اليمني كوضع الجيش السوري اليوم، عالق في مدن الجنوب في حرب عصابات طاحنة واغتيالات ومفخخات تتسبب يوميا بمئات القتلى والجرحى من الطرفين، حيث يقول الجيش أن كل من يقتلهم هم من القاعدة، وهذا نصف الحقيقة أما نصفها الآخر فهو أن هناك متمردين جنوبيين لاعلاقة لهم بالقاعدة، وإنما هم انفصاليون متضررين من هيمنة اليمن الشمالي وتبعية ماتبقى من نظام صالح للأجندة السعودية - الأمريكية .. وعلى أية حال فإن الثورة مستمرة على بقايا نظام علي عبدالله صالح وامتدادته السعودية ، مثلما أن إصرار السعودية على تدجين الثورة مستمر، فلمن ستكون الغلبة: للوطنية أم للبترو - وهابية .. سوف ننتظر ونرى. (يتيع)
حديث شريف: عن بن عمر رضي الله عنه عن النبي أنه قال "اللّهم بارك لنا في شامنا اللّهم بارك لنا في يمننا قالوا يا رسول الله و في نجدنا . قال اللّهم بارك لنا في شامنا اللّهم بارك لنا في يمننا . قالوا يا رسول الله و في نجدنا فقال "هناك الزلازل والفتن و بها يطلع قرن الشيطان (صحيح البخاري – كتاب الفتن – الباب رقم 16)
نبيل صالح
التعليقات
اليمن سعيداً
وجهة نظر
أستاذ نبيل يبقى السؤال دومآ
شو مانشف حلقك أستاذ نبيل صالح ؟؟؟
نصوص دموية
في ما يتعلق بالاسلام لا يمكن
عمالة لانسب
استاذ نبيل نتمنى منك العودة
عن أي إسلاميين وأي صحوة أستاذ نبيل ؟؟
تقييم مرحلي.
رد جميل
سلسلة رائعة يجب أن تتوج ككتاب مرجعي
الى الحربوق
النظرية النبوجهبلية ....
البحث عن أكسجين..
في قاعدة باب النور .....( تيمنا بقاعدة بايكونور )
المنقذ
جواب السيد الرئيس الصعب السهل
تساؤلات وتعليق
من الآخر
هل سيكون هذا رايك اذا انقلبت
معركة فكريّة ..وسياحة وهابيّة ..وأشياء أخرى.
ردود بالجملة، لا تواخذونا.
حسبنا الناتو و نعم الوكيل
عندما تجد الأمور فإن الأصل يتكلم
توصيفكم ناقص
المحدال السوري
الإصلاح والحرب على الفساد
صح
الهزيمة النفسية أو الخيانة ..
إضافة تعليق جديد