بمعرض الدفاع.. عن الدولة غير الأفلاطونية
الجمل ـ بشار بشير: واحدة من الجمل التي كرهتها خلال الحرب على سورية هي جملة : " لست هنا بمعرض الدفاع عن النظام " أكرهها لأن قائليها وهم من المثقفين والمتكلمين والمحللين العرب المؤيدين بشكل أو بآخر للدولة السورية يستعملون التعبير الذي ابتدعته الدبلوماسية الأميركية (أي تعبير النظام) والذي تستخدمه أمريكا عندما تريد معاداة دولة لكي تحفظ لنفسها خط رجعة على إعتبار أنها تعادي النظام الحاكم وليس الدولة وشعبها (محاولة بائسة وغبية للتعبير عن ذكاء ورقي السياسة الأمريكية). أما لماذا يستنكف قائلوا هذه الجمله عن الإنخراط في الدفاع عن "النظام السوري" فلهذا أسبابه التي لا أظنها وجيهة.
أبتدأت القصة مع المثقفين السوريين الذين رسموا صورة نمطية للدولة السورية رسخت في أذهان المثقفين العرب لدرجة أنهم لم يستطيعوا قبول كامل الحقيقة عندما وضحت لهم (حقيقة أن الدولة السورية ليست بالسوء الذي روج عنها وأنها تستحق هي و "نظامها " الوقوف معهم والدفاع عنهم) عاش المثثقفون السوريون وهم أن كل دول العالم هن شقيقات مدينة أفلاطون عدا سورية، لذلك ساشرح لهم (وأكثرهم لا يستحقون الشرح ولن يفهمونه وسأصل لسبب هذا الإتهام) أن دول ومجتمعات العالم قاطبة أثبتت أنها تقدم الأمن على الثقافة لذلك فإنها لا تتوانى عن وضع القيود على الثقافة والفكر والحرية عندما يتعلق الأمر بأمنها. ولذلك فإن الدول التي تتمتع بأعلى هامش من الحرية هي الدول المتطرفة جغرافياً أي التي لا أطماع عالمية بها، والتي لم تتعرض للغزو ولمؤامرات وأطماع الدول الأخرى على مدى تاريخها أي التي لا تتعرض لتهديدات حقيقة لأمنها والمثال عليها الدول الأسكندنافية وأيسلندا ونيوزيلندا، أما بقية الدول فهي لا تتوانى عن قمع الحريات والأفكار و الدوس على حقوق الإنسان عندما تضطر للإختيار بينهم وبين أمنها , وتعتمد أكثر الدول على إمكاناتها الإعلامية الدعائية لكي تتغنى بحجم الحرية فيها ولكي تغطي على " القمع" الذي تمارسه عندما يقتضي الأمر, والمثال على هذه الدول امريكا التي كانت تعتمد قوانين غاية في العنصرية لغاية منتصف الستينات والتي لم تتوانى عن تشكيل لجنة مكارثي التي كانت قامعة للفكر ومخيفة لدرجة أن أشهر فنان في العالم أي شارلي شابلن هرب إلى سويسرا لمجرد أن هذه اللجنة اشتبهت به. وكذلك وضعت وطبقت أمريكا قانون المواطنة وهو تعبير مخفف للأحكام العرفية لفظياً ويتجاوزها بقمعه فعلياً, بعد تعرضها لحادثة منفردة هي تدمير برجي التجارة. و لاداعي للتذكير أننا نتعرض لمثل هذه الحادثة وأقسى منها بدون توقف على مدى تاريخنا، وفرنسا أم الحرية لم تتوانى عن قمع وسجن وقتل الكثير ممن كانت تدعوهم الفوضويين علماً أن أكثرهم كانوا مجرد معارضين فكريين للجمهورية الفرنسية, ولم تخجل من إصدار قانون يُجرم معاداة السامية وإنكار المحرقة و " أحرقت " بموجب هذا القانون مجموعة مفكرين وفنانين منهم روجيه غارودي وديودونيه وغيرهم. وفي عالمنا العربي مصر الدولة الرائدة (عربياً) حكمت محاكمها على نصر حامد ابو زيد بالردة وبتطليقه من زوجه , و سجنت سيد القمني وحاكمت واضطهدت العديد من الفنانين لأسباب تتعلق بآرائهم وأفكارهم.
بالمختصر سورية ليست حالة شاذة فهي ككل الدول تقدم أمنها على حرية الفكر والثقافة , وأظنها أفضل من غيرها في مجال الحريات لكنها أسوأ في مجال الدعاية لنفسها والرد على منتقديها. سورية أكثرأدباءها الكبار كانوا من المعارضين ولم تتعرض لهم , سعد الله ونوس والماغوط ونزار القباني أمثلة, و الكثير من الكتاب والفنانين والأدباء والمثقفين كانوا يقولون ما يريدونه (في نقد الدولة) وتساعدهم الدولة على نشره و الدراما السورية خير مثال (لا أظن أن هناك دولة في العالم تسمح بما تسمح به سورية في الدراما) و أشهر الكتاب الصحفيين الذين عرفناهم للمفارقة من خلال الصحف الرسمية هم معارضون مثل نبيل صالح ووليد معماري وكثيرون غيرهم لاأريد ولا يستحقون ذكر اسمهم. وفي الحقيقة فقد انكشف لنا (بواسطة هذة الأزمة الحرب) أن الدولة في سورية عرفت تماماً كيف تعامل الوسط الثقافي بأنسب طريقة وبالقسطاس العادل لأنها كانت تعرف أكثر مما نعرف عن المثقفين وكانت تعرف حتى أكثر مما يعرفون هم عن أنفسهم , فهي احتفت بنزار كشاعر و أسمت شارعا في دمشق باسمه، ولكنها لم تلق بالاً لأرائه فيما وراء الشعر. مشيل كيلوا مثلاً سجنته الدولة والآن عرفنا أنها كانت محقة وأنها كانت تعرف أكثر من الذين تعاطفوا معه على أساس أنه مثقف سُجن بسبب رأيه.. كثيرون اُخر سمحت لهم الدولة بالأكل على ما ئدتها وبالشرب من حنفيتها ولكنها لم تسمح لهم بالوصول لما يريدونه من وراء الثقافة أي السلطة التي اتضح لنا الآن أنها كانت مقصدهم لا الثقافة وأن الدولة كانت محقة في وضع الحواجز بينهم وبين السلطة، فقد رأينا ما فعلوا بأنفسهم وبأفكارهم كرمى لها (للسلطة) واسوأ مثال على وصوليتهم وفساد فكرهم ما رأيناه من مُنظّر الإلحادي غليون ومن فيلسوف الإلحاد وأبو الملحدين المعاصرين صادق العظم (لايليق به اسم صادق) عندما تحول الإثنان إلى سلفيين ومنظرين للإخوان المسلمين طمعاً بالمال وبالسلطة. نشكر الدولة التي كانت تعرف أكثر مما نعرف ونشكرها لأنها لم تلتفت لإعجابنا اليوتوبي بهؤلاء المثقفين فنحن كنا مخدوعين بالتقية التي مارسوها بينما لم تنخدع الدولة وعاملتهم بما يستحقوا.
أما عن إتهامي لهم بأنهم لايستحقون الشرح ولا يفهمونه فهو نتيجة لإقتناعي برأي الدولة بهم بعدما أسقطت الحرب أقنعتهم ورأينا قبح وجوههم وأعني هنا من خرج من سوريته وانتقل من خانة المعارضة إلى خانة معاداة سورية وشعبها , في حين أن كثيرين من المعارضين الشرفاء وجدوا أن هذا وقت الوقوف مع وطنهم لا وقت المصالح الشخصية والمتاجرة بوطنهم لتحقيق الأرباح الخاصة.
يدمج القوالون هذه الأيام ضمن مفهوم "النظام السوري" فترتين هما فترة حكم الرئيس حافظ الأسد وفترة حكم الرئيس بشار الأسد , أما فترة الرئيس الراحل فللدفاع عنها مكان آخر مع التنويه بأن التاريخ لابد سينصف هذا الرجل أكثر بكثير مما أنصفه معاصروه. وأما فترة الرئيس بشار فلا أدري لماذا يُعتبر الدفاع عنها تهمة , ألا نعرف هذا الرئيس , ألا نعرف أنه لم يكن يوماً طامحاً لسلطة أو مصعراً لخده , كلنا نعرف أن بشار الأسد لم يعش حياته على أساس أنه ابن أسطورة بالعكس كان منكباً على دراسته و كان يرغب أن يكون طبيباً، وقد أظهرت تصرفاته أنه مغرم بمساعدة الناس وأنه كان ينظر لعمله كطبيب على أساس أنه واجب إنساني أكثر مما هو مهنة وهذا دليل على شخصيته و أخلاقه , تغييره لطريقه في الحياة وعودته لتحمل مسؤوليات جسام في سورية لم يكن ملئاً للفراغ الذي خلفه رحيل أخوه باسل بقدر ماكان إستجابة لمطالب الشعب الذي كان بحاجة للشعور يالإطمئنان وبإستمرارية النهج بعد باسل. بعد أن أصبح رئيساً اذكروا لي خطيئة أرتكبها بشار الأسد اذكروا لي فترة تدنت بها شعبيته بحيث أضطر ليحكم قسراً لا تفويضاً من شعبه, اذكروا لي موقفاً لم يكن فيه مع مطالب الشعب ومع مصالحه, أروني ماالخطوة التي خطاها ولم تكن لصالح التقدم بسورية وشعبها إلى الأمام. تقييم التجربة الرئاسية للرئيس بشار الأسد يحتاج لأكثر بكثير من مقالة بالتأكيد , لكن منتقديه لايستحقون أكثر من بضعة أسطر في مقالة , أما مؤيدوه فيستحقون أن يُذكّروا أنه يستحق وسورية كل وقوف معهما وكل دفاع عنهما. أقول هذا وأنا بمعرض الدفاع عن النظام.
الجمل
إضافة تعليق جديد